لقد جَرَتْ عادة تُجَّار الدنيا أن لا يفوِّتوا المواسم العظيمة، بل يستعدون لها أتم استعداد بجلب البضائع، وإحضار السلع، وبذل الأوقات، وبذل الجهود العظيمة؛ وهذا موسمٌ رابحٌ لتجارة الآخرة، وحسن الإقبال على الله -جل وعلا-، فما هي حالنا مع هذه الأيام؟.
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده فلا مُضِلَّ له، ومَن يُضْلِلْ فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: عباد الله اتقوا الله تعالى، واعلموا أن تقوى الله -جل وعلا- خير زاد يبلغ إلى رضوان الله، قال الله تعالى: (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ) [البقرة:197].
معاشر المؤمنين: إننا نعيش أياما فاضلة، وأزمنة شريفة، وموسما مباركا، ووقتا هو خير وقت ومغنم للخير والعمل الصالح.
معاشر المؤمنين: إننا نعيش هذه الأيام، الأيام العشر الأول من شهر ذي الحجة، وهي أيام مباركات، خصها الله -جل وعلا- بخصائص وميزها بميزات.
وقفة من المؤمن مع خصائص هذه الأيام تجدد النشاط فيه ليقبل بقلبه ونفسه على طاعة الله -جل وعلا-، وحسن العبادة، وحسن الإقبال عليه سبحانه.
عباد الله: فمن خصائص هذه الأيام أن الله -جل وعلا- اختارها واصطفاها وجعلها أفضل أيام السنة على الإطلاق، والله -جل وعلا- يخلق ما يشاء ويختار، فجعل -سبحانه- هذه الأيام الأول من شهر ذي الحجة خير الأيام وأفضلها.
ومن خصائص هذه الأيام وفضائلها أن الله -تبارك وتعالى- أقسم بها تشريفًا لها، وتَعليةً من شأنها، وذلك في قوله -جل وعلا-: (وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ) [الفجر:1-3]، قال ابن عباس وغيره من المفسرين: المراد بالعشر في الآية العشر الأول من شهر ذي الحجة.
ومن خصائص هذه الأيام أنها خير أيام العمل الصالح، فما تقرب إلى الله متقرب بعبادة أفضل من التقرب إليه -تبارك وتعالى- في هذه الأيام الشريفة الفاضلة، ففي صحيح البخاري عن ابن عباس -رضي الله عنهما-، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه العشر"، يعني العشر الأول من شهر ذي الحجة، قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: "ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بماله ونفسه ولم يرجع من ذلك بشيء".
ومن خصائص هذه العشر -عباد الله- أنها أيام تجتمع فيها من أمهات الطاعات ما لا يجتمع في غيرها من أيام السنة، ففي هذه العشر تجتمع أمهات الطاعات: الصلاة والصيام والحج والزكاة، وغيرها من الطاعات الجليلة والعبادات العظيمة، ولا يتأتى اجتماع هذه الطاعات إلا في هذا الوقت الشريف الفاضل.
ومن خصائصها أن الله -تبارك وتعالى- جعلها موسما لحج بيته الحرام، وجعل فيها أيامه العظام، ففي هذه العشر يوم التروية، وهو اليوم الثامن من شهر ذي الحجة، وفيه يصعد الناس إلى عرفات، وفيه يصعدون من مكة إلى منى، ملبِّين بالحج: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك.
وفيها يوم عرفة، وهو خير يوم طلعت فيه الشمس، وفيها يوم النحر، وهو أعظم الأيام عند الله، كما صح بذلك الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "أعظم الأيام عند الله يوم النحر".
عباد الله: هذه جملة من الخصائص والفضائل لهذا الموسم العظيم الفاضل؛ فماذا قدمنا أيها المؤمنون؟ أحالنا مع هذه الأيام مماثلة لحالنا مع أيام السنة؟ أأدركنا قيمة هذه الأيام وفضلها ومكانتها، أم أنها وبقية أيام السنة سواء؟ هل تحركت قلوبنا في هذه الأيام توبة وإنابة إلى الله وإقبالا على طاعته؟.
عباد الله: لقد جَرَتْ عادة تُجَّار الدنيا أن لا يفوِّتوا المواسم العظيمة، بل يستعدون لها أتم استعداد بجلب البضائع وإحضار السلع، وبذل الأوقات، وبذل الجهود العظيمة؛ وهذا موسمٌ رابحٌ لتجارة الآخرة، وحسن الإقبال على الله -جل وعلا-، فما هي حالنا مع هذه الأيام؟.
عباد الله: إنَّ ضعف إيمان الشخص، وذنوبه المتراكمة تحرمه من الخيرات في أوقاتها، ولهذا ينبغي علينا جميعا أن نغتنم ما بقي لنا من هذه العشر بالتوبة إلى الله -عز وجل-، والجد والاجتهاد في العبادة، وحسن الإقبال عليه، وكثرة الدعاء، والإكثار من ذكر الله -جل وعلا-؛ فإن هذه العشر موسم عظيم للإكثار من ذكر الله، كما قال الله -جل وعلا-: (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ) [الحج:28]، قال ابن عباس وغيره: الأيام المعلومات هي الأيام العشر الأول من شهر ذي الحجة.
فينبغي علينا -عباد الله- أن نحفظ هذه الأوقات الفاضلة بكثرة الذكر لله -جل وعلا-، وكثرة الدعاء والاستغفار، وملازمة الطاعة والعبادة، ولاسيما الفرائض، فالله -جل وعلا- يقول: "ما تقرب إليّ عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه".
ولهذا؛ مما ينبغي أن يعنى به المسلم في هذه العشر العناية بالصلوات الخمس في أوقاتها مبكِّرا إليها، خاشعا خاضعا، مطمئنا ذاكرا، راجيا رحمة ربه -جل وعلا-، خائفا من عذابه.
وإنا لنسأل الله عز وجل بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى، أن يجعل هذه الأيام العشر لنا جميعا مغنما، وأن يجعلها لنا جميعا إلى الخير مرتقى وسلما، إنه -تبارك وتعالى- سميع الدعاء، وهو أهل الرجاء، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
الحمد لله عظيم الإحسان، واسع الفضل والجود والامتنان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد: عباد الله، اتقوا الله تعالى، وراقبوه في السر والعلانية، والغيب والشهادة، مراقبة من يعلم أن ربه يسمعه ويراه.
عباد الله: لقد جعل الله -تبارك وتعالى- خاتمة هذه العشر ونهاية أيامها عيدا للمسلمين يفرحون فيها فرحة عظمى، وسرورا كبيرا، بما يسَّرَ الله لهم في هذه العشر من الطاعات والعبادات والقربات.
ولهذا يلتقي المسلمون يوم العيد، مَن حج منهم ومن لم يحج، يلتقون في ذلك اليوم العظيم يهنئ بعضهم بعضا، قائلين ما قاله الصحابة الكرام في ذلك اليوم: تقبل الله منا ومنك، وهذه كلمة -عباد الله- لها وقعها ووزنها ومكانتها ممن نافس في العبادة وأقبل على الطاعة.
وأما من يأتي يوم العيد مضيعا مفرطا، مكبا على الذنوب والآثام والخطايا، فعلى ماذا يهنَّأ؟ وبماذا يقال له: تقبل الله منا ومنك؟.
ولهذا ينبغي أن نحسب ليوم العيد حسابا بأن نعد الأعمال الصالحات والطاعات الزاكيات التي نفرح يوم العيد بأدائنا لها، وحسن تقربنا إلى الله بها.
ونسأل الله عز وجل أن يمدنا جميعا بعون منه وتوفيق، وأن يهيئ لنا من أمرنا رشدا.
واعلموا -رعاكم الله- أن الكيِّس مِن عباد الله مَن دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني.
واعلموا أن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدى هدى محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بالجماعة فإن يد الله على الجماعة.
وصلوا وسلموا...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي