والمراد بالاختيار هنا هو الاصطفاء والاجتباء، فالله جلّ وعلا لكمال حكمته وقدرته، ولتمام علمه وإحاطته، يختار مَن خلقه ما يشاء، ما يشاء من الأوقات والأمكنة والأشخاص، فيخصهم سبحانه وتعالى بمزيد فضله، وجزيل عنايته، ووافر إنعامه وإكرامه. وهذا -بلا ريب- من أعظم آيات ربوبيته، وأكبر شواهد وحدانيته وصفات كماله ..
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومَنْ يُضْلِلْ فلا هادي له. وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، وسلم تسلما كثيرا.
أما بعد:
عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى، ومراقبته في السر والعلانية، والغيب والشهادة، ثم اعلموا -رحمكم الله- أن الله تعالى هو المتفرد بالخلق والاختيار، كما قال الله تعالى: (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ) [القصص:68].
والمراد بالاختيار هنا هو الاصطفاء والاجتباء، فالله -جلّ وعلا- لكمال حكمته وقدرته، ولتمام علمه وإحاطته، يختار مَن خلقه ما يشاء، ما يشاء من الأوقات والأمكنة والأشخاص، فيخصهم -سبحانه وتعالى- بمزيد فضله، وجزيل عنايته، ووافر إنعامه وإكرامه.
وهذا -بلا ريب- من أعظم آيات ربوبيته، وأكبر شواهد وحدانيته وصفات كماله، وهو من أبين الأدلة على كمال قدرته وحكمته، وأنه -جلّ وعلا- يخلق ما يشاء ويختار، وأن أزمّة الأمور بيده، فلله الأمر من قبلُ ومن بعدُ، يقضي في خلقه بما يشاء، ويحكم فيهم بما يريد، (فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [الجاثية:36-37].
عباد الله: وإن مما خصَّ الله -عزّ وجل- من الأوقات بمزيد تفضيله، ووافر تكريمه شهر رمضان المبارك، حيث فضَّله -سبحانه وتعالى- على سائر الشهور، والعشر الأواخر من لياليه حيث فضلها على سائر الليالي، وليلة القدر حيث جعلها لمزيد فضلها عنده، وعظيم مكانتها لديه، خيرا من ألف شهر.
وفخَّم أمرَها، وأعلى شأنها، ورفع مكانتها، عندما أنزل فيها وحيه المبين، وكلامه الكريم، وتنزيله الحكيم، هدى للمتقين، وفرقانا للمؤمنين، وضياء ونورا ورحمة: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ * لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) [الدخان:3-8].
(إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) [سورة القدر].
فلله! ما أعظمها من ليلة! وما أجلَّها! وما أكرمها! وما أوفر بركتها! ليلة واحدة خير من ألف شهر، وألف شهر -عباد الله- تزيد على ثلاثة وثمانين عاما، فهي عمر طويل لو قضاه المسلم كله في طاعة الله -عزّ وجل-، فليلة القدر، وهي ليلة واحدة خير منه، وهذا فضل عظيم، وإنعام كريم؛ قال مجاهد -رحمه الله-: "ليلة القدر خير من ألف شهر": ليست في تلك الشهور ليلة القدر، وهكذا قال قتادة والشافعي وغير واحد.
عباد الله: وفي هذه الليلة الكريمة المباركة يكثر تنزل الملائكة؛ لكثرة بركتها، وعظم خيرها، فالملائكة يتنزلون مع تنزل البركة والخير والرحمة، كما يتنزلون عند تلاوة القرآن، وفي حلق الذكر، وهي سلام حتى مطلع الفجر، يعني أنها خير كلّها، ليس فيها شر، إلى مطلع الفجر.
وفي هذه الليلة الكريمة المباركة (يُفرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) [الدخان:4]، أي: يُقدر فيها ما يكون في تلك السنة بإذن الله العزيز الحكيم، والمراد بالتقدير: التقدير السنوي، وأما التقدير العام ففي اللوح المحفوظ، فهو متقدم على خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، كما صحت بذلك الأحاديث، وقد ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في فضل ليلة القدر أنه قال: "من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه".
عباد الله: وليلة القدر هي قطعا في شهر رمضان المبارك، لقول الله تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) [البقرة:185]، وهي أرجى ما تكون فيه في العشر الأواخر منه، لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من شهر رمضان"، وطلبها في أوتار الشهر آكَد، لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "اطلبوها في العشر الأواخر في ثلاث يبقين أو سبع يبقين أو تسع يبقين"، وأرجى ليلة من تلك الليالي هي ليلة سبع وعشرين، لقول كثير من الصحابة إنها ليلة سبع وعشرين، منهم ابن عباس وأبي بن كعب وغيرهما.
عباد الله: والحكمة من إخفائها وعدم تعيينها في النصوص أن يجتهد المسلمون في جميع العشر بطاعة الله -جلّ وعلا-، بالتهجد، وقراءة القرآن، والإحسان، وليتبين بذلك النشيط والمجد في طلب الخيرات من الخامل الكسلان؛ ولأن الناس لو علموا عينها لاقتصر أكثرهم على قيامها دون سواها، ولو علموا عينها ما حصل كمال الامتحان.
عباد الله: إن الواجب علينا أن نحرص تمام الحرص على طلب هذه الليلة المباركة، لنفوز بثوابها، ولنغنم من خيرها، ولنحصل من أجورها، فإن المحروم من حرم الثواب، ومن تمر عليه مواسم المغفرة ويبقى محملا بذنوبه؛ بسبب غفلته وإعراضه وعدم مبالاته.
عباد الله: طوبى لمن نال فيها سبق الفائزين، وسلك فيها بالقيام والعمل الصالح سبيل الصالحين، وويل لمن طرد في هذه الليلة عن الأبواب، وأغلق فيها دونه الحجاب، وانصرفت عنه هذه الليلة وهو مشغول بالمعاصي والآثام، مخدوع بالآمال والأحلام، مضيع لخير الليالي وأفضل الأيام، فيا عظم حسرته! ويا شدة ندامته!.
عباد الله: مَن لم يربح في هذه الليلة الكريمة ففي أي وقت يربح؟ ومَن لم ينب إلى الله في هذا الوقت الشريف فمتى ينيب؟ ومن لم يزل متقاعدا فيها عن الخيرات ففي أي وقت يعمل ؟.
عباد الله: اجتهدوا -رحمكم الله- في طلب تلك الليلة الشريفة المباركة، وتحروا خيرها وبركتها بالمحافظة على الصلوات المفروضة، وكثرة القيام وأداء الزكاة، وبذل الصدقات، وحفظ الصيام، وكثرة الطاعات، واجتناب المعاصي والسيئات، والندم والتوبة من الذنوب والخطيئات، والإكثار من ذكر الله وقراءة القرآن.
ويستحب للمسلم أن يكثر فيها من الدعاء؛ لأن الدعاء فيها مستجاب، وليتخير من الدّعاء أجمعه، روى الترمذي وابن ماجة بإسناد صحيح عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قلت يا رسول الله، أرأيت إن علمت أي ليلةٍ ليلة القدر، ما أقول فيها؟ قال:"قولي: اللهم إنك عفُوٌّ تُحِبُّ العفو فاعف عني".
إن هذا الدعاء عظيم المعنى، عميق الدلالة، وهو مناسب لهذه الليلة غاية المناسبة، فهي الليلة التي يفرق فيها كل أمر حكيم، ويقدر فيها أعمال العباد لسنة كاملة حتى ليلة القدر الأخرى، فمن أعطي في تلك الليلة العافية، وعفا عنه ربه، فقد أفلح غاية الفلاح، ومن أعطي العافية في الدنيا وأعطيها في الآخرة فقد أفلح.
والعافية لا يعدلها شيء، روى الترمذي في سننه عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله، علمني شيئا أسأله الله -عزّ وجل-، قال: "سل الله العافية"، فمكثت أياما ثم جئت فقلت: يا رسول الله، علمني شيئا أسأله الله، فقال لي: "يا عباس، يا عمّ رسول الله، سل الله العافية في الدنيا والآخرة".
فأكثروا -عباد الله- من سؤال الله العفو والعافية، ولاسيما في هذه الليالي الشريفة الفاضلة، واعلموا أن الله تبارك وتعالى عفو غفور: (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ) [الشورى:25]، فلم يزل -سبحانه وتعالى- ولا يزال بالعفو معروفا، وبالغفران والصفح عن عباده موصوفا، وكل أحد مضطر إلى عفوه ومغفرته كما هو مضطر إلى رحمته وكرمه.
اللهم اشملنا بعفوك، وأدخلنا في رحمتك، اللهم إنا نسألك العافية في الدنيا والآخرة، اللهم إنا نسألك العفو العافية في الدين والدنيا والآخرة، اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنا، اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنا، اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنا.
الحمد لله عظيم الإحسان، واسع الفضل والجود والامتنان، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد: عباد الله، فأوصيكم ونفسي بتقوى الله -عزّ وجل-، والاجتهاد في طاعته، والسعي في التقرب إليه بما يحب من صالح الأعمال، ولاسيما ونحن نعيش هذه الأيام الفاضلة والليالي الكريمة، نعيش أوقات شريفة، نعيش العشر الأواخر من شهر رمضان المبارك.
عباد الله وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يخص هذه العشر بالاجتهاد في العمل أكثر من غيرها، كما في صحيح مسلم عن عائشة -رضي الله عنها-: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يجتهد في العشر الأواخر من رمضان ما لا يجتهد في غيرها؛ وفي الصحيحين عنها قالت: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا دخل العشر، شد مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله.
عباد الله: وهذا شامل بالاجتهاد فيها بكل طاعة وكل عبادة تقرب إلى الله -جلّ وعلا-، بقراءة القرآن الكريم، والإكثار من ذكر الله تعالى، والصلاة والاعتكاف والصدقة وبذل الخير وصلة الأرحام، والإحسان إلى عباد الله، وغير ذلك من الأعمال الصالحات، والطاعات المقربة إلى الله -جلّ وعلا-.
وقد كان -صلوات الله وسلامه عليه- يتفرغ في هذه العشر لتلك الأعمال، فينبغي علينا الاقتداء بالنبي -صلى الله عليه وسلم- في ذلك، كما ينبغي العناية بإيقاظ الأهل والأولاد وحثهم وتشجيعهم ليشاركوا المسلمين في إظهار هذه الشعيرة، ويشتركوا معهم في الأجر، ويتربوا على طاعة الله، وعبادة الله.
عباد الله: وقد غفل كثير من الناس عن أولادهم فتركوهم يهيمون في الشوارع، ويسهرون للعب والسفه، ولا يحترمون هذه الليالي، ولا يعرفون حرمتها ومكانتها عند الله، ولا تكون لها مكانة في نفوسهم، وهذا -عباد الله- من الحرمان الواضح، والخسران المبين، أن تأتي هذه الليالي المباركة وتنتهي وكثير من الناس في غفلة معرضون، لا يهتمون لها، ولا يستفيدون منها، يسهرون الليل كله أو معظمه في مالا فائدة فيه، أو فيه فائدة محدودة يمكن حصولها في وقت آخر، ويعطلون هذه الليالي عمّا خصصت له، وبعضهم ربما شغل هذه الليالي الشريفة الفاضلة المباركة بارتكاب الخطايا والآثام، والوقوع في المعاصي والذنوب؛ بل لربما في الوقوع في الكبائر والإجرام، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
فنسأل الله -جلّ وعلا- بأسمائه الحسنى، وصفاته العلا، أن يهدي ضال المسلمين وأن يصلح شبابهم ونساءهم، وأن يردهم جميعا إلى الحق ردا جميلا، وأن يثبت صالحهم على الهدى والتقى، اللهم أعنا على طاعتك، ووفقنا لهداك، واعمر أوقاتنا بما تحبه وترضاه يا ذا الجلال والإكرام.
وصلوا وسلموا -رعاكم الله- على محمد بن عبد الله كما أمركم الله بذلك في كتابه فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "مَن صلى علي واحدة صلى الله عليه بها عشرا".
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد, وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي