والغفلة عن ذكر الله لها مضار كثيرة على النفس والحياة منها: أنّها تجلب الشّيطان، وتُسخط الرّحمن، وتنزّل الهمَّ والغمَّ في القلب، وتبعدُ عنه الفرحَ والسّرورَ، وتُبلِّدُ الذّهن، وتسدُّ أبوابَ المعرفة، وتبعد العبد عن اللّه -عزّ وجلّ- وتجرّه إلى المعاصي ..
أيها الإخوة: وقفت متأملاً لآيةٍ في سورة الكهف التي شرع الله لنا تلاوتها كل جمعة، خاطبَ اللهُ تعالى فيها رسولَه بقوله: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) [الكهف:28].
تأملوا قوله: (وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا)، لقد نهى اللهُ رسوله عن صحبةِ وطاعةِ كلِ غافلٍ صارت مصالحُ دينِه ودنياه فُرُطًا، أي: ضائعة معطلة.
نعم أحبتي: إن الغفلة سبب كبير لضياع المصالح الدينية والدنيوية، وقد قال أهل اللغة في معنى الغفلة: أنها فَقْدُ الشُّعورِ بما حَقُّه أن يُشعَرَ به، وقال الراغبُ: هو سَهْوٌ يَعْتَري الإنسان مِن قِلَّةِ التَّحَفُّظِ والتيَقُّظ، وقيل: متابَعةُ النَّفْسِ على ما تشتهيه. وقال الجرجانيّ: الغفلة عن الشّيء هي أن لا يخطر ذلك بباله، وقيل: إبطال الوقت بالبطالة.
وأياً كان المعنى فقد ذم الله تعالى الغفلة، وجعلها إحدى صفات الكافرين في غير ما موضع من كتابه، فقال عن فرعونَ وقومِه لما أصروا على الكفر: (فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ) [الأعراف:136].
وقال الله تعالى: (سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا، وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ) [الأعراف:146].
وقال سبحانه: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) [الأعراف:179].
ونهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الغفلة في مواضع منها أثناء الدعاء فعَنْ عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "القلوب أوعية، وبعضها أوعى من بعض، فإذا سألتم الله -عز وجل- يا أيها الناس فاسألوه وأنتم موقنون بالإجابة، فإن الله لا يستجيب لعبدٍ دعاه عن ظهر قلبٍ غافلٍ" رواه أحمد وحسَّنهُ الألباني.
ومعنى الحديثِ أنَّهُ لابد مع الدعاءِ من حضورِ القلبِ، والإيقانِ بالإجابة، قال الإمامُ الرازي: أجمعت الأمةُ على أن الدعاءَ اللساني الخالي عن الطلب النفساني قليلُ النفعِ، عديمُ الأثرِ. وهذه الآفة لا يسلم منها كثير منا، وفقنا الله للتخلص منها.
وعن يُسَيْرَةَ -رضي الله عنها- قالت: قال لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "عليكنَّ بالتسبيح والتهليل والتقديس، واعقدن بالأنامل؛ فإنهنَّ مسؤولاتٌ مُسْتَنْطقات، ولا تغفُلْنَ فتنسين الرحمة" رواه الترمذي وحسَّنه الألباني.
ومعنى: ولا تغفُلن، بضم الفاء، أي: عن الذكر، يعني: لا تتركن الذكر فتنسَين الرحمة من النسيان، أي: فتتركن الرحمة، والمراد بنسيان الرحمة نسيان أسبابِها، أي: لا تتركن الذكر فإنكُنَّ لو تَرَكْتُنَّ الذكرَ لحُرمْتُنَّ ثوابَه فكأنكنَّ تركتن الرحمة.
أيها الإخوة: وللغفلة علامات يجب على المسلم أن يتنبه لها، ومنها: التكاسل عن الطاعات فلا يؤديها إلا بتثاقل، وإن أداها لم يؤدها بسعادة وانشراح صدر، وهذه أهم علامتها.
ومن علاماتها استصغار المحرمات، سواءً فَعَلَها أو لم يفْعَلْهَا، وأن يألفَ المعاصي ويجاهرَ بها؛ ولذلك نهى النبي المجاهرة بالذنب نهيا شديدا، وعده من المجون، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلاَّ الْمُجَاهِرِينَ، وَإِنَّ مِنَ الْمَجَانَةِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلاً، ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ اللَّهُ، فَيَقُولَ: يَا فُلاَنُ عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا، وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللَّهِ عَنْهُ" رواه البخاري؛ ولذلك قال ابن القيم -رحمه الله-: إنّ حجاب الهيبة للّه -عزّ وجلّ- رقيق في قلب الغافل.
ومن علامات الغفلة تضييع الأوقات من غير فائدة، والافتتان بالدنيا والانشغالُ بها عن العمل للآخرة.
أيها الأحبة: ومن علامات الغفلة ترك ذكر الله إلا قليلا، تجد الغافل تمر عليه مواطن الذكر فلا يذكر الله، وإن ذكرَ ذَكَرَ الله بلسانه ولم يواطئ لسانُه قلبَه.
والغفلة عن ذكر الله لها مضار كثيرة على النفس والحياة منها: أنّها تجلب الشّيطان، وتُسخط الرّحمن، وتنزّل الهمَّ والغمَّ في القلب، وتبعدُ عنه الفرحَ والسّرورَ، وتُبلِّدُ الذّهن، وتسدُّ أبوابَ المعرفة، وتبعد العبد عن اللّه -عزّ وجلّ- وتجرّه إلى المعاصي.
قال ابن القيّم رحمه اللّه: لا سبيل للغافل عن الذّكر إلى مقام الإحسان، كما لا سبيل للقاعد إلى الوصول إلى البيت. وقال: على قدرِ غفلةِ العبد عن الذّكر يكون بعده عن اللّه. وقال: إنّ الغافل بينه وبين اللّه -عزّ وجلّ- وحشة لا تزول إلّا بالذّكر. وقال: إنّ مجالس الذّكر مجالسُ الملائكة ومجالسَ اللّغو والغفلة مجالسُ الشّياطين، فليتخيّر العبد أعجبهما إليه وأولاهما به فهو مع أهله في الدّنيا والآخرة.
أيها الأخ المبارك: وأعظم أسباب الغفلة الرضا عن النفس، كما قال ابن عطاء -رحمه الله-: أصل كل معصيةٍ وغفلةٍ وشهوةٍ الرضا عن النفس، وأصل كل طاعة ويقظة وعفة عدم الرضا منك عنها.
ومن أسباب الغفلة ترك صلاة الجمعة ممن تجب عليه، فهي سببٌ للختم على القلب، أن عبد الله بن عمر وأبا هريرة حدثاه أنهما سمعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول، وهو على أعواد منبره: "لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات، أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين" رواه مسلم.
ومن أسبابها البعد عن مواطن الطاعات كالمساجد وحلق الذكر، واتباع الهوى ورفقاء السوء، فقد قيل للحسن بن علي: مَا الْغَفْلَةُ؟ قَالَ: تَرْكُكَ الْمَسْجِدَ، وَطَاعَتُكَ الْمُفْسِدَ.
ومن أسبابها -كذلك- ترك قراءة القرآن، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عمروٍ -رضي الله عنهما- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: "من قام بعشر آيات لم يكتب من الغافلين، ومن قام بمئة آية كتب من القانتين ، ومن قام بألف آية كتب من المقنطرين".
جعلنا الله من التالين لكتابه الكريم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا...
أيها الإخوة: كما أن للغفلة أسبابا فلها علاج، ومن علاجها البعد عن أسبابها، كذلك عدم الركون إلى الدنيا، والاطمئنان إليها، وإدراك أنها فانية، والمحافظة على الصلوات الخمس في المسجد ما استطاع، فالصلاة تذكر الإنسان كلما غفل، ومن ذلك قيام الليل، وهو دواء عظيم لها، والإكثار من ذكر الله، وقراءة القرآن، وقد تقدم فضلهما.
ومن علاجها الإكثار من ذكر الموت، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أَكثروا ذكر هاذم اللذات: الموت". قال السندي -رحمه الله-: وهو هادم اللذات أما لأن ذكره يُزهْدُ فيها أو لأنه إذا جاء ما يبقى من لذائذ الدنيا شيئا..
ومن العلاج للغفلة زيارة القبور، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "زوروا القبور؛ فإنها تذكركم بالآخرة" رواه ابن ماجة وصححه الألباني.
كذلك؛ مما يزيل الغفلة حضور الصلاة على الميت ودفنه، ومما يؤسف له أن بعض الناس لم يستفد من هذا، فتجده يتحدث بأمور الدنيا أثناء حضور الجنازة، وربما أشغل غيره معه بحديث، وهذا خلاف هدي رسولنا -صلى الله عليه وسلم-، فعن البراء بن عازب -رضي الله عنه- قال: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي جَنَازَةِ رَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ، فَانْتَهَيْنَا إِلَى الْقَبْرِ وَلَمَّا يُلْحَدْ؛ فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ كَأَنَّمَا عَلَى رُءُوسِنَا الطَّيْرُ، وَفِي يَدِهِ عُودٌ يَنْكُتُ بِهِ فِي الْأَرْضِ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: "اسْتَعِيذُوا بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا..." رواه أبو داود وصححه الألباني.
وعنه، قال: كنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فِي جِنَازَةٍ، فَجَلَسَ عَلَى شَفِيرِ الْقَبْرِ، فَبَكَى حَتَّى بَلَّ الثَّرَى، ثُمَّ قَالَ: "يَا إِخْوَانِي، لِمِثْلِ هَذَا فَأَعِدُّوا" رواه ابن ماجة وحسنه الألباني.
زيارة المرضى وأصحاب البلاء، واجتناب رفقاء السوء، والسعي إلى صحبة الصالحين؛ وجِماع ذلك كله كثرة الابتهال إلى الله، واللجوء إليه بالدعاء الصادق دعاء مُلِحٍّ عليه في جوف الليل، بأن يعيذك من الغفلة، وقد كان الرسول - صلى الله عليه وسلم-يكثر أن يقول: "اللهمَّ، يا مقلِّب القلوب، ثبِّتْ قلبي على دينك" رواه البخاري في الأدب المفرد وصححه الألباني...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي