بل هن فتنة

أحمد بن عبد العزيز الشاوي
عناصر الخطبة
  1. دعوة للاستماع لصوت الحق .
  2. حقائقُ داعية للمرأة للاحتجاب والاحتشام .
  3. انهيار النموذج الغربي في السفور والتبرج .
  4. حيل وأفانين المتغربين في إفساد المجتمع .
  5. مناشدة المسؤولين المخلصين بالتصدي لتيارات العلمنة والتغريب .

اقتباس

هذه هي الحقيقة يعلنها -صلى الله عليه وسلم- في مَقالِه وفعالِه، ويقرر فيها للأمة أن الأنثى هي أنثى مهما استرجلت، والجَمَلُ هو جملٌ مهما استنوق، وأن العواطف والهواتف في أجسادهما تشدُّهما شطراً إلى شطر، مهما كان الجوُّ الذي يسودهما مفعماً بجد أو هزل، وبفرَح أو ترَح، وإنما يخفف من ذلك الشد أو يستره الحياءُ والدينُ، وما أقلهما في عالم الاختلاط!.

الحمد لله الذي جلت قدرته، وعظمت حكمته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له كملت نعمته، ووسعت كلَّ شيءٍ رحمتُه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المحمودة سيرته، صلى الله عليه وأصحابه ومن اهتدى بهديه وسلم تسليما.

أما بعد: فيا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين.

أغمِضْ عينيك، وأَصِمَّ أذنيك، واصرف قلبك عما يتفوّه به المجرمون، ويسطِّره الكَتَبة الكاذبون من رموز النفاق، وأرباب العلمنة، وغلمان الأهواء، أدعياء العقلنة، من مصادمة للحقائق، ومعارضة لحكمة الخالق، ولَبس للحق بالباطل، وكتْم للحق، وتزيين للباطل؛ كي تميل الأمة ميلاً عظيماً.

لا تُطِع الكافرين والمنافقين ودَع أذاهم وتوكَّل على الله، وقف هيبة واستسلاماً وخضوعاً وانقياداً بقلبك وجوارحك لحقائق القرآن الذي أنزله مَن هو أعلم بمَن خَلق وهو اللطيف الخبير، وتقبَّلْ بتصديق ويقين كلام سيد المرسلين الذي لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى.

استمع إلى حقائق القرآن والسنة واقبلها غير متردد ولا متحرِّج، (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ...) [الأحزاب:36].

استمع إلى الحقائق التي تكلَّم بها رب العالمين؛ (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا) [النساء:122]؟ (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ) [المائدة:50]؟.

أعلَنَها خاتم المرسلين -صلى الله عليه وسلم- ولن تجد لسنته مثلاً ولا بديلاً، اسمعها وارضَ بها ولا يستخفنَّك الذين لا يوقنون.

أما الحقيقة الأولى فعنوانها: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ) [الأحزاب:33].

إنَّ البيت هو مثابة المرأة التي تجد فيها نفسها على حقيقتها كما أرادها الله -تعالى-، غير مشوَّهة ولا منحرفة ولا مُلوَّثة ولا مكدودة في غير وظيفتها التي هيَّأَها الله لها بالفِطرة؛ وإن الأمَّ المكدودة بالعمل للكسب، المرهقة بمقتضيات العمل، لا يمكن أن تهب للبيت جوَّه وعطره، ولا يمكن أن تمنح الطفولة النابتة فيه حقها ورعايتها.

إنَّ خروج المرأة للعمل كارثة على البيت قد تُبيحها الضرورة، أما أن يتطوع الناس بها وهم قادرون على اجتنابها فتلك هي النكسة التي تصيب الأرواح والضمائر والعقول، في عصور الانتكاس والضلال!.

وأما خروج المرأة لغير العمل... خروجها للاختلاط وأماكن الملاهي والتسكُّع في النوادي أو المجتمعات وحضور الحفلات والمهرجانات، فذلك هو الارتكاس في الحمأة الذي يردّ البشر إلى مراتع الحيوان.

لقد كان النساء على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخرجن للصلاة غير ممنوعات شرعاً، ولكن كان في زمن عفّة وتقوى، كانت المرأة تخرج إلى الصلاة متلفعة لا يعرفها أحد، ولا يبرز من مفاتنها شيء، ومع هذا فقد كرهت عائشة -رضي الله عنها- لهن أن يخرجن بعد وفاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

في الصحيحين؛ أن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان نساء المؤمنين يشهدن الفجر مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم يرجعن متلفِّعات بمروطهن ما يُعْرَفْنَ من الغلس"، وفي الصحيحين أنها قالت :"لو أدرك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما أحْدَثَ النساءُ لَمَنَعَهُنَّ من المساجد كما مُنِعَتْ نساءُ بني إسرائيل".

فماذا أحدث النساء في عهد عائشة؟ وماذا كان يُمكن أن يحدثن حتى ترى أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان مانعهن من الصلاة؟ ماذا، بالقياس إلى ما نراه في هذه الأيام حيث الخروج لا إلى الصلاة؛ بل لمخالطة الرجال، وإبداء الزينة، وإثارة الفتنة.

أما الحقيقة الثانية: (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ) [الأحزاب:53].

هكذا يقول اللطيف الخبير. أما المنافق الحقير فينعق: نصف المجتمع معطَّل، والمجتمع يتنفس برئة واحدة

فلا يقل أحد غير ما قال الله، لا يقل أحد إن الاختلاط وإزالة الحجاب والترخص في الحديث واللقاء والجلوس والمشاركة بين الجنسين أطهر للقلوب، وأعَفُّ للضمائر، وأعون على تصريف الغريزة المكبوتة، وعلى إشعار الجنسين بالأدب، وترقيق المشاعر والسلوك، إلى آخر ما يقوله نفر من خلق الله الضعاف المهازيل الجهَّال المحجوبين.

لا يقل أحد شيئاً من هذا والله يقول: (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ)، يقول: هذا عن نساء النبي الطاهرات أمهات المؤمنين وعن رجال الصدر الأول من صحابة رسول الله ممن لا تتطاول إليهم وإليهن الأعناق.

حين يقول الله قولاً ويقول خَلق من خلقه قولاً فالقول لله سبحانه، وكل قول آخر هراء لا يردده إلا من يجرؤ على القول بأن العبيد الفانين أعلم بالنفس البشرية من الخالق الباقي الذي خلق هؤلاء العبيد.

والواقع العملي الملموس يهتف بصدق الله وكذب المدَّعين غير ما يقوله الله، والتجارب المعروضة اليوم في العالم مصدقة لما نقول وهي في البلاد التي بلغ الاختلاط الحُر فيها أقصاه أظهر في هذا وأقطع من كل دليل، وأمريكا أول هذه البلاد التي أتى الاختلاط فيها بأبشع الثمار!.

أما الحقيقة الثالثة: (إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ) [الأحزاب:32].

من هنَّ اللَّواتي يحذرهن الله هذا التحذير؟ إنهنَّ أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأمهات المؤمنين اللاتي لا يطمع فيهن طامع، ولا يرف عليهن خاطر مريض، وفي أي عهد يكون هذا التحذير؟ في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-، وعهد الصفوة المختارة من البشريَّة؛ ولكن الله الذي خلق الرجال والنساء يعلم أن في صوت المرأة حين تخضع بالقول وتترقَّق في اللفظ ما يُثير الطمع في قلوب، ويهيِّج الفتنة في قلوب، وإن القلوب المريضة موجودة في كل عهد، وفي كل بيئة، وتجاه كل امرأة ولو كانت هي زوج النبي الكريم، وأُم المؤمنين، فكيف بهذا المجتمع الذي نعيش فيه اليوم في عصرنا الذي هاجت فيه الفتن، وثارت الشهوات؟.

كيف بنا في هذا الجو الذي كل شيء فيه يثير الفتنة، ويُهيِّج الشهوة، ويُنبه الغريزة؟ كيف بنا في هذا العصر في هذا الجو ونساء يتكسَّرن في نبراتهن، ويتميَّعن في أصواتهن؟ هل بعد هذا نجد مبرراً أن تقرأ المرأة أمام الرجال، وتلقي كلمة أمام الرجال، وتخاطب الرجال خاضعة في القول فيطمع فيها مرضى القلوب، ويتغنى بجمال صوتها ضعاف النفوس؟ هذه هي الحقيقة؛ لكن أرباب الشهوات لا يفقهون.

أما الحقيقة الرابعة: فيعلنها -صلى الله عليه وسلم- قائلاً :"المرأة عورة؛ فإذا خرجت استشرفها الشيطان، وأقرب ما تكون بروحة ربها وهي في قعر بيتها"، ويقول: "ما تركت بعدي فتنة هي أضر على الرجال من النساء".

وحينما خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من المسجد وقد اختلط الرجال مع النساء في الطريق قال للنساء : "استأخِرْنَ؛ فليس لكُنَّ أن تَحقُقْن الطريق، عليكن بحافات الطريق"، فكانت المرأة تلصق بالجدار حتى إن ثوبها ليتعلق بالجدار من لصوقها به، فواعجباً مِن زمن أصبحت فيه النساء يمشين بكل زهو وتبختر أمام الرجال!.

وحرصاً منه -صلى الله عليه وسلم- على هذا المبدأ فقد أفرد باباً خاصاً للنساء يدخلن منه للمسجد ويخرجن منه لا يخالطهن ولا يشاركهن فيه الرجال، ومِن ذلك تشريعه للرجال أن لا يخرجوا فور التسليم من الصلاة إذا كان في الصفوف الأخيرة نساء حتى يخرجن وينصرفن إلى دورهن قبل الرجال، فقد كان -صلى الله عليه وسلم- إذا سلم مكث قليلاً وكانوا يرون أن ذلك كيما ينفذ النساء قبل الرجال.

إنَّه، في أقدس الأماكن وفي أطهر الأعمال وهي الصلاة، كان الإسلام يحرص على انفصال النساء عن الرجال كما قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "خير صفوف الرجال أولها، وشرها آخرها، وشر صفوف النساء أولها، وخيرها آخرها".

وهذا ابن عباس -رضي الله عنه- يقول: شهدت العيد مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولولا مكاني من الصغر ما شهدته، حتى أتى العلَم الذي عند دار كثير بن الصلت فصلى ثم خطب، ثم أتى النساء ومعه بلال فوعظهن وذكّرهن.

قال بن حجر : قوله: "ثم أتى النساء" يُشعر بأن النساء كنَّ على حِدة من الرجال غير مُختلطات بهم، وقوله: "ومعه بلال" فيه أن الأدب في مخاطبة النساء في الموعظة أو الحكم أن لا يحضر من الرجال إلا مَن تدعو الحاجة إليه مِن شاهد ونحوه، فالله المستعان من هذا الزمان.

بل قد حرصت الصحابيات على عدم الاختلاط حتى في أشد المساجد زحاماً، وفي أشد الأوقات زحاماً في موسم الحج بالمسجد الحرام.

جاء في البخاري: كانت عائشة -رضي الله عنها- تطوف حجرة من الرجال لا تخالطهم، ودخلت على عائشة -رضي الله عنها- مولاة لها، فقالت لها: يا أم المؤمنين، طفت بالبيت سبْعاً، واستلمت الركن مرتين أو ثلاثاً. فقال لها: عائشة: لا آجرك الله، لا آجرك الله، تدافعين الرجال؟ ألا كبرت ومررت. ونهى عمر أن يطوف الرجال مع النساء، فرأى رجالاً معهن فضربهم بالدرة؛ فأين درة عمر مما نحن فيه اليوم؟.

هذه هي الحقيقة يعلنها -صلى الله عليه وسلم- في مقاله وفعاله، ويقرر فيها للأمة أن الأنثى هي أنثى مهما استرجلت، والجمل هو جمل مهما استنوق، وأن العواطف والهواتف في أجسادهما تشدهما شطراً إلى شطر، مهما كان الجو الذي يسودهما مفعماً بجد أو هزل، وبفرح أو ترح، وإنما يخفف من ذلك الشد أو يستره الحياءُ والدينُ، وما أقلهما في عالم الاختلاط!.

أما الحقيقة الخامسة فقد نطق بها الواقع، وشهد عليها شاهد من أهلها، فقد أثبتت الإحصائيات المعلنة أن نسبة الحبالى من تلميذات المدارس الثانوية الأمريكية بلغت في إحدى المدن 48%، ودلت الإحصاءات في أحد الأعوام على أن 120000 طفل أنجبتهم فتيات بصورة غير شرعية لا تزيد أعمارهن عن العشرين، وأن كثيرات منهن من طالبات الكليات والجامعات.

وهذه كاتبة إنجليزية تشعر بالخطر فتقول: إن الاختلاط يألفه الرجال؛ ولهذا طمعت المرأة بما يخالف فطرتها، وعلى قدر كثرة الاختلاط تكون كثرة أولاد الزنا، وهنا البلاء العظيم على المرأة... أما آن لنا أن نبحث عما يخفف -إذا لم نقل عما يزيل- هذه المصائب العائدة بالعار على المدنية الغربية؟ أما آن لنا أن نتخذ طرقاً تمنع قتل الآلاف من الأطفال الذين لا ذنب لهم؛ بل الذنب على الرجل الذي أغرى المرأة المجبولة على رقة القلب؟.

ثم قالت: أيها الوالدان، لا يغرنَّكم دريهمات تكسبها بناتكم باشتغالهن في المعامل ونحوها ومصيرُهن إلى ما ذكرنا، علِّموهنَّ الابتعاد عن الرجال، وأخبروهنَّ بعاقبة الكيد الكامن لهنَّ بالمرصاد.

ثم تقول :لقد دلتنا الإحصاءات على أنَّ البلاء الناتج من حمل الزنا يعظم ويتفاقم حين يكثر اختلاط النساء بالرجال، ولقد أدت بنا هذه الحال إلى حدٍّ من الدناءة لم نكن نتصورها في الإمكان، وهذا غاية الهبوط في المدنية" اهـ.

إنَّ الاختلاط داء ووباء، وشر وبلاء، بكل صوره ومظاهره، اختلاط الذكور والإناث في المضاجع ولو كانوا إخوة، اتَّخاذ الخدم الرجال واختلاطهم بالنساء وحصول الخلوة بهم، اتَّخاذ الخادمات بلا محرم، استقبال المرأة أقارب زوجها الأجانب، الاختلاط في دُور التعليم والجامعات، الاختلاط في الوظائف والأندية والمواصلات والمستشفيات والزيارات وحفلات الأعراس، الاختلاط في الأعياد والمهرجانات والمناسبات، الاختلاط في الأماكن الترفيهية والحدائق والأسواق، حيث في أجواء التسوق والترفيه وتسكع بعض الشباب اللاهث وراء المتعة تحدث ظاهرة خطيرة وهي ظاهرة التعرُّف السريع، والإعجاب من النظرة الأولى التي تعقبها خطوات الانحراف.

الاختلاط، بِكُلِّ أشكاله محرَّمٌ، تَعَدٍّ على حدود الله، وانتهاكٌ لمحارمه: (وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [البقرة:229].

الاختلاط، بكل صوره، نتائج مُرة للدعوات الآثمة التي ينفثها أرباب الشهوات في كتاباتهم وزواياهم، وينادون من خلالها بالمساواة بين الذكر والأنثى في كل شيء؛ اعتراضاً منهم على فطرة الله، ومخالفة لهديه وشريعته.

لقد وُلدت هذه الدعوى جُرأة عند المرأة في إقدامها على غشيان مجتمعات الرجال والاتصال بهم، ومحادثتهم؛ بل ومغازلتهم بلا تحفُّظٍ ولا حياء، وولَّدَتْ هذه الدعوى الظالمة جُرأة عند المرأة فأقدمت على تأليف الجمعيات واللِّجان، وإصدار الصحف والمجلات، وإعلان المسيرات، لا في سبيل إصلاح ما فسد من شؤونهنّ، وتقويم ما اعوجَّ من سلوكهنَّ، وإنَّما في سبيل المُطالبة بحق المرأة بالمساواة مع الرجل، تخرج كما يخرج، وتلبس كما يلبس؛ بل أفضح مما يلبس، وتصادق من تشاء، وتعمل ما تريد، وتغشى الأندية العامة كما يغشاها الرجال، وتنادي بتبني قضايا سياسيَّة واقتصاديَّة ليس من شأنهن أن يتصدَّين لها، وليس في قدرتهنَّ الفكرية والعملية أن يفلحن في حلِّها ومعالجتها؛ وإنَّما النيَّة الخفية من وراء ذلك هي أن يتكشَّفن ويبدين زينتهن، ولتذكرهن الصحف وتردد الإذاعات أسماءهن بأنهن المتحضرات المتحررات!.

إن جعبة الباحثين والدارسين لمستنقع الاختلاط حافلة بالمآسي المخزية، والفضائح المشينة التي تمثل صفعة قوية في وجه كل من يجادل في الحق بعدما تبين، وإن الإحصائيات الواقعية في كل البلاد التي شاع فيها الاختلاط ناطقة -بل صارخة- بخطر الاختلاط على الدين والدنيا، لخَّصها العلامة أحمد وفيق العثماني عندما سأله بعض الساسة الأوربيين: لماذا تبقى نساؤكم محتجبات في بيوتهن مدى حياتهن من غير أن يخالطن الرجال ويغشين مجامعهم؟ فأجاب في الحال قائلاً: لأنهن لا يرغبن أن يلدن من غير أزواجهن.

ولما وقعت فتنة الاختلاط من جامعة مصرية كان ما كان من حوادث يندى لها الجبين، ولما سُئل عميد قلة الأدب العربي طه حسين عن رأيه في هذا قال: لابد من ضحايا، ولكنه لم يبين بماذا تكون الضحية؟ وفي سبيل ماذا؟ لابد من ضحايا! وأيُّ ثمرة يمكن أن تكون أغلى وأثمن من أعراض المسلمين؟.

والآن نُعْلِن، وبكل قوة ونجزم بحقيقة لا مراء فيها، وهي أنك إذا وقفت على جريمة فيها نهش العرض، وذبح العفاف، وإهدار الشرَف، ثم فتشت عن الخيوط الأولى التي نسجت هذه الجريمة، وسهلت سبيلها؛ فإنك حتماً ستجد أن هناك ثغرة حصلت في الأسلاك الشائكة التي وضعتها الشريعة بين الرجال والنساء، ومن خلال هذه الثغرة دخل الشيطان، وصدق الله: (وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً) [النساء:27].

أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين وصل الله وسلم وبارك على خير خلقه أجمعين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن سار على دربه إلى يوم الدين.

أما بعد: أيها المسلمون: إنَّنا وكأي أمة مسلمة وكغيرنا من مجتمعات المسلمين يوجد من بيننا قوم من بني جلدتِنا ويعيشون بين أظهرِنا ويتكلَّمون بألسنتنا يلبسون لباس الإصلاح ويزينون باطلهم بدثار الصلاح.

إن هذه الفئة بكتاباتها وأقوالها وطرحها تسعى إلى جَرِّ الأمة لمستنقع الاختلاط، ووحل الانحطاط الذي غاصت فيه المسلمات في بلاد أخرى، فجنت منه المصاب والعلقم.

إن المأزق الذي يتساقط فيه هؤلاء يوماً بعد يوم هو أنهم لا يملكون مشروعاً حضارياً جاداً لنهضة الأمة، وإنما غاية ما يملكون أنَّهم يريدون أن يزجوا الأمة في المُستنقع الغربي الآسن ليكون أبناؤها عبيداً يتمرغون تحت أعتابهم.

حينما رأوا هذه البلاد تعتز بدينها وتحافظ على قيمها ويقف أهلها بإيمانهم وشرفهم صخرة تتحطَّم عليها أفكارهم، ورأوا أن ولاة أمرها يؤكِّدون في كلماتهم وقراراتهم على خُطورة الاختلاط ومنعه، بدءاً بالكلمة المشهورة للملك عبد العزيز -رحمه الله- حينما رأوا ذلك التميز سعوا إلى جر الأمة لويلات الاختلاط عبر سياسة تكسير الموجة، وبشعارات برَّاقة، وتحت رايات مشبوهة؛ وإذا نجحوا في مرحلة تقدموا في غيرها، إلى أن تتحول الأمة في النهاية إلى مستنقع من الفساد والانحلال.

هذا في الوقت الذي ترتفع فيه صيحات العقلاء في الغرب والشرق، منادية المرأة في العودة إلى بيتها، والحفاظ على كرامتها، وفي الوقت الذي تتجه فيه الدول الغربية إلى حماية أخلاقها، فأنشأت مستشفيات خاصة بالنساء، ومواصلات خاصة بالنساء، ومنحت مزايا للمرأة التي تعكف على تربية أولادها.

لقد كانت من آخر مشاريعهم التي استماتوا من أجلها وتفانوا في إقرارها مشروعهم في تأنيث محلات المستلزمات النسائية تحت ستار من الغيرة المصطنعة على محارمنا، وقد كنا نظن صدق هذا الستار، وتطلعنا إلى صورة مثالية تقضي فيها نساؤنا حاجاتهن في جو من الخصوصية، وإذا بالحقيقة تنجلي، وبالهدف يتضح، وأن الأمر كان مجرد تبديل البائعين من رجال إلى نساء في جَوٍّ مختلط، وميوعة وتكسُّر وتبرُّج تستلزمها ظروف البيع والتسويق.

وصاحَب ذلك حملة إعلامية تمجد المشروع، وتهاجم المعارضين، وتسخر من فتاوى العلماء الناصحين.

إن الغيورين ليسوا ضد عمل المرأة وهم يقرؤون قول الله (لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ) [النساء:32]، ولكنهم ضد أن يكون الثمن لعملها هو ضياع دينها وحيائها، وامتهان كرامتها وابتزازها.

وقد ذكرت الإحصاءات أن 16% من الموظفات السعوديات يتعرضن للتحرش والابتزاز.

إن الغيورين يناشدوكم بإقامة أسواق نسائية مغلقة، إن الغيورين ليسوا ضد أن تطلب المرأة رزقها؛ لكنهم ضد أن يكون ذلك في جو يغضب الله ويستجلب عقوبته، ويهوي بالأمة إلى دركات الانحطاط.

إن الغيورين يناشدونكم بإقامة أسواق نسائية مغلقة لا يدخلها إلا النساء، وحينها ستجدون الكل معكم، إن كنتم صادقين.

إن الغيورين يناشدونكم بإنشاء مستشفيات نسائية خاصة، وحينها ستجدون الغالبية الرافضة لمشاريعكم هي أول من يعمل فيها، إن كنتم تعقلون.

إن الغيورين يتساءلون -إن كنتم صادقين في رأفتكم بالأرامل والمطلقات- أين مشروعكم في تقليص ساعات العمل للأمهات؟ وأين مشاريعكم باعتبار المرأة المتفرغة للعناية بزوجها وأطفالها امرأة عاملة تستحق المكافأة؟ وأين دعمكم لمشاريع العمل عن بعد؟.

هذه هي مطالب الغيورين للمزايدين المرددين أنتم تجيدون المنع ولا تجيدون البدائل!.

إن من يرفض تفعيل مشاريع العمل عن بُعد... ويقف دون استقلال النساء بأسواق ومستشفيات، ويرفض مكافأة المتفرغة لتربية أطفالها، ويرفض العمل إلا باختلاط؛ ومن يقصِر الإنتاج فقط في الخروج من البيت، هم مَن يحارب المرأة المنتجة، ويحرمون المجتمع من كثير من الطاقات.

إن قرار التأنيث الحالي وبصورته التي طبقت هو التفاف على تعليمات ولاة الأمر، ومصادمة لدستورها وفتاوى علمائها، وساهم في حرمان السواد الأعظم من المجتمع الذي يرفض الاختلاط وكشف الوجوه.

إن هذا القرار ترسيخ للبطالة؛ فإن من يدفع امرأة لسوق العمل سيدفع في الوقت ذاته شاباً إلى سوق البطالة، والتسكُّع في الشوارع والزوايا.

إن السعي في فرض الاختلاط في مجتمعنا أو الدعوة إليه أو الرضا والسكوت عليه هو دعوة إلى جر الأمة إلى السقوط والانهيار، حينها تخسر الأمة أعظم مقوماتها وهي الدين والأخلاق والمــــُثُل، وإن من يسعى لهذه النتيجة فهو ظالم لنفسه وأمته.

إننا نناشد المسؤولين المخلصين في بلادنا والغيورين على دينهم وقرآنهم، والحريصين على أمن بلادهم، والصادقين في وطنيتهم، أن يقفوا في وجه هذه التيارات ويصدوها، فبلادنا أمانة في أعناقهم، فلْيتَّقُوا الله في هذه الأمانة.

وننادي دعاة الاختلاط والانحطاط: رفقا بهذا المجتمع! فيا عجبا لكم! أوَبَعْدَ أن تحررت المجتمعات وعادت إلى الحجاب وتوجهت إلى الفصل بين الجنسين حتى في الغرب، نأتي نحن لنعاكس التيار؟! تأملوا ماذا صنعت عقود من سنوات الاختلاط في دول تعرفونها، هل صنعوا؟! هل اخترعوا؟! فلا تؤخرونا عن ركب الحضارة مئة سنة أخرى، دعونا نتفرغ للإنتاج والصناعة، فشرارة الإبداع لم تنقدح من احتكاك الرجل بالمرأة.

دعونا نتمسك بقيم ديننا التي بدأ الغرب يدعو إليها، دعونا نتفرغ لتبليغ رسالة رب العالمين، وكفى إشغالاً للوطن عن قضاياه الكبرى، وكفى طعنا في الظهور!.

إن أبناء الوطن مسلمون، ومتشربون بحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتصديقه، وقد قال -وهو لا ينطق عن الهوى-: "ما تركت بعدي فتنةً أضَرَّ على الرجال من النساء"، وستظل المرأة فتنةً للرجل، أقررتم أم أنكرتم، وخسئت وجوهٌ وأخرست ألسُنٌ لا تؤمن بهذا!.

إننا ننادي دعاة الاختلاط ومَن كان جاهلا بآثار دعوته ونتائجها أن يستغفر ربه، ويتقي الله في مقولاته وممارساته، قبل أن يأتي يوم يرى فيه نتائج دعوته في أقرب الناس إليه، يراه في أخوته أو زوجاته أو بناته.

ونقول لهم: إن المسلم الحقيقي لم يسكت ولن يصمت؛ لأنه يُدْرِك تمام الإدراك أن حضارته في إسلامه واستقراره، في التزامه بإيمانه، واستمداده عظمته منه، فهو يرفض كل دعوة تصادم إسلامه، ويناهض كل فكرة تعارض التزامه.

إن الشخصية المسلمة ستقف لكم بالمرصاد؛ لأنها تدرك أهداف الدعوات الهابطة، وألوان المشاعر المتردية.

وإننا نناشد كل مسلم ومسلمة في بلادنا بأن يقف أمام تيار الاختلاط، ندعوه إلى أن يكون أصيلا وقوياً فلا يتقاعس عن المواجهة بالتي هي أحسن، وإن الساكت أمام هذا الخطر شيطان أخرس، وسيحمل إثمه وإثم الأجيال القادمة إن فسدت، ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد.

وإنَّ على علماء الأمة ودُعاتها ووُجهائها الكفل الأعظم في مواجهة تيار التغريب بإحياء شعار: "الدين النصيحة، لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم".

اللهم طهر بلادنا من الفساد والمفسدين، واجعل العزة للإصلاح والدين.

اللهم صَلِّ وسلم على من بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وارضَ اللهمَّ عن صحابته أجمعين...


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي