الأحزان والهموم والمصائب التي مر بها المصطفى صلى الله عليه وسلم كانت كثيرة جدًّا، بل لقد تعرض لمواقف تهتز أمامها الجبال الراسيات، ولكن العظمة في مواقفه صلى الله عليه وسلم من كل ذلك فهي لم تفُتّ في عضده أو تضعف مسيرته أو تحد من همته أو تربك دعوته.. بل مضى شامخًا وظل راسخًا لا تزيده المحن والهموم والأحزان إلا عزًّا وصلابة وإيمانًا ويقينًا ..
الحمد لله المتفرد باسمه الأسمى، والمختص بالملك الأعز الأحمى، الذي ليس من دونه منتهى ولا ورائه مرمى، الظاهر لا تخيلاً ووهمًا، الباطن تقدسًا لا عدمًا.. وسع كل شيء رحمة وعلمًا، وأسبغ على أوليائه نعما عُما، وبعث فيهم رسولاً من أنفسهم أنفثهم عربًا وعجمًا، وأذكاهم محتدًا ومنما، وأشدهم بهم رأفة ورحمة حاشاه ربه عيبًا ووصمًا وذكاه روحًا وجسمًا وآتاه حكمة وحكمًا، فآمن به وصدقه من جعل الله له في مغنم السعادة قسمًا، وكذّب به وصدف عنه من كتب الله عليه الشقاء حتمًا، ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى.. صلى الله عليه صلاة تنمو وتنمى وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا..
معاشر الصالحين: نواصل اللقاء في معارج الثناء وفي رحاب سيد الأنبياء استجلابًا لِلْيُمْن في عالم الغبن ودفعًا للاضطرار في عالم الارتياب، وبناء للذات في عالم الإغراء واللذات.
ومعلوم أن الذوات لا تبنى إلا بوجود مثال للكمال يُقاس عليه البناء، ويكون على منواله الإنشاء، ومن غير رسول الله صلى الله عليه وسلم جديرًا بأن يُتخذ نموذجًا يحتذى وإمامًا به يُقتدى.
وقد زكاه ربه ورضيه للعباد منهجًا موصلاً إليه ومرضيًا لديه، قال الله تعالى داعيًا عشاق الكمال والباحثين عن الجمال والجلال والراغبين في ذكر الله بالغدو والآصال: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا).
وكما بيّن سبحانه أن التأسي والاقتداء بنبيه موصل إلى الرضوان، فقد بين سبحانه أن الخروج عن أمره ونهيه صلى الله عليه وسلم سبب من أسباب الخسران (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ).
نقف اليوم إن شاء الله تعالى عند جانب مهم من جوانب كماله الجبلي وجلاله اللدني الذي يلتقي فيه كماله البشري بجلاله النبوي لتظهر حكمة الله في اختياره واجتبائه مصداقًا لقوله: (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ).
نقف عند جانب الحزن والفرح في حياته صلى الله عليه وسلم، ولا نذكر ذلك من باب التسلية، ولكن حثًّا للنفس على التزكية قياسًا على العظمة النبوية.
أيها الأحباب: الأحزان والهموم والمصائب التي مر بها المصطفى صلى الله عليه وسلم كانت كثيرة جدًّا، بل لقد تعرض لمواقف تهتز أمامها الجبال الراسيات، ولكن العظمة في مواقفه صلى الله عليه وسلم من كل ذلك فهي لم تفُتّ في عضده أو تضعف مسيرته أو تحد من همته أو تربك دعوته.. بل مضى شامخًا وظل راسخًا لا تزيده المحن والهموم والأحزان إلا عزًّا وصلابة وإيمانًا ويقينًا.
بل كان يتلذذ بالصبر على ذلك، ويرى أنه في ذات الله روحًا وريحانًا ومسرة وسلوانًا، ولنتأمل جميعًا ونحن نستعرض بعض ما أحزن الرسول صلى الله عليه وسلم على ماذا كان يحزن؟ ومتى كان يحزن؟ وكيف كان يحزن؟
أولاً: حزنه على إعراض قومه عن الحق، وانصرافهم عن الخير وحرمانهم من الهدى، بل لقد بلغ به الهم والحزن إلى أن كادت نفسه تذهب عليهم حسرات فسلاه ربه بقوله: (فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ).
وقوله: (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ) أي قاتل نفسك (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آَثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا).
وفي ذلك دعوة إلى عموم المسلمين وإلى الدعاة خاصة إلى الشفقة والرحمة، والترفق في الدعوة واللطف في النصيحة؛ اقتداءً بالرسول الكريم صلى الله عليه وسلم الذي وصفه ربه بأنه بالمؤمنين رءوف رحيم..
ومع الأسف فإننا نرى في الغالب خلاف ذلك من غلظة وتعنيف، وفي بعض الأحيان تشفّي مما أدى إلى إحداث هوة عميقة بين بعض فئات المسلمين.
يقول ربنا مبرزًا بعض جوانب عظمة رسوله صلى الله عليه وسلم، خصوصًا في باب رحمته ولينه (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ).
من ذلكم حزنه صلى الله عليه وسلم على موت عمه أبي طالب؛ حيث حزن؛ لأنه كان ينصره ويحميه ثم مات على الشرك.
وكذلك حزنه على موت زوجه الفضلى خديجة في العام نفسه حتى سُمِّي ذلك العام بعام الحزن.
ومن ذلك حزنه صلى الله عليه وسلم لما نزلت عليه الآية (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ)؛ حيث حزن وحزن أصحابة خشية أن يكون قد انقطع الوحي وأتى العذاب لقومه، وأن الله قد يهلكهم، وظل حزينًا حتى أنزل الله تعالى: (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ).
من ذلك حزنه صلى الله عليه وسلم على أصحابه من الأنصار الذين قُتلوا يوم بئر معونة، وهم سبعون رجلاً، يقول أنس بن مالك رضي الله عنه: "ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وجد – أي حزن – على سرية ما وجد على أهل بئر معونة"، وقد كانوا جميعًا من أصحاب القرآن وحمالته، وهذا هو السر. أخرجه البخاري.
وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم كان يحب أهل القرآن، ويقربهم ويشيد بهم، ويعطف عليهم، فكيف هي منزلة أهل القرآن عندنا اليوم؟ هل نتفقدهم؟ هل نفرح لفرحهم؟ هل نحزن لحزنهم؟ هل نضعهم في الموضوع اللائق بهم؟
مع الأسف كثير من المسلمين لا تحلو لهم الإهانات، ولا تطيب لهم الانتقادات إلا في حق الأئمة والمؤذنين وغيرهم من أهل القرآن.
تطاول وانتقاد وكأن الإمام عبد مقيد ليس له الحق في العزة والكرامة، ويكفي في بيان منزلة الأئمة والمؤذنين دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم، ذلك الدعاء الخالد الباقي إلى يوم القيامة، يقول صلى الله عليه وسلم: "الإمام ضامن، والمؤذن مؤتمن، اللهم أرشد الأئمة واغفر للمؤذنين" أخرجه أبو داود وصححه الألباني.
طبعًا لا أحد يعلو على النصيحة، ولكن إذا كانت النصيحة فلتكن برفق ولين ومراعاة المقام، وعلى أهل القرآن أن يكونوا مثالاً للعزة والكرامة والأنفة في تعاملهم، وفي تعاطيهم من الأشياء، وفي هندامهم وفي ذهابهم وإيابهم، وألا يتذللوا لأحد كيف ما كان مركزه ومكانه، عزة نفس وكرامة مع تواضع ولين ولطف..
من ذلك: حزنه صلى الله عليه وسلم من أقوال المشركين الفاسدة وافترائهم على الله وعلى الملائكة وعلى رسالته، وقد أمره ربه جل وعلا بألا يحزن بمقولاتهم وألا يضيق بذلك صدره (وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) وقال سبحانه: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ *وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ).
فهل نحزن نحن اليوم إذا سمعنا الطعن في القرآن أو في السنة أو إذا شاهدنا السخرية من تعاليم الإسلام، وما أكثر مظاهر ذلك، هل نحزن لذلك ونتألم؟ أم نتألم لأشياء أخرى فارغة لا معنى لها؟!
من ذلك: حزنه صلى الله عليه وسلم على فقد بعض أصحابه المقربين كسعد بن معاذ رضي الله عنه، قالت أمنا عائشة رضي الله عنها: "لما أصيب سعد بن معاذ يوم الخندق رماه رجل في الأكحل وهو عرق يكون في الذراع لا يرقأ إذا أُصيب يسيل منه الدم باستمرار، فضرب عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم خيمة في المسجد ليعوده من قريب" رواه مسلم.
وقال صلى الله عليه وسلم: "اهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ" أخرجه البخاري ومسلم، وقبل ذلك حزنه على صفوة أصحابه الذين استُشهدوا في معركة بدر وأُحد وغيرها من الغزوات، أمثال عمه حمزة بن عبد المطلب الذي استشهد في معركة أُحد، ومصعب بن عمير، وجعفر بن أبي طالب وغيرهما من الصحب الكرام.
من ذلكم: حزنه وشفقته على أمته عندما قرأ قول الله عن إبراهيم: (فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)، وقول عيسى عليه السلام: (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
فقال صلى الله عليه وسلم: "اللهم أمتي..أمتي وبكى صلى الله عليه وسلم، فقال الله: يا جبريل! اذهب إلى محمد، فأقرئه السلام، فسله ما يبكيك؟ وربك أعلم، فنزل جبريل، وقال: يا محمد! ربك يقرئك السلام ويقول لك: ما يبكيك؟ وربك أعلم، فقال صلى الله عليه وسلم: أمتي.. أمتي، فرجع جبريل إلى ربه، فقال الله: اذهب إلى محمد وقل له: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك".
وقد استقى بعض الشعراء هذا المعنى فقال:
أترضى حبيبي أن تكون منعمًا *** ونحن على جمر اللظى نتقلب
ألم يرضك الرحمن في سورة الضحى *** وحاشاك أن ترضى وفينا معذب
هذه بعض الأحزان التي تعرض لها صلى الله عليه وسلم وغيرها كثير.. والغرض من مثل هذا الموضوع أمران مهمان هما:
توضيح الصورة الكاملة لحياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبيانها للمحبين بأفراحها وأحزانها وآلامها، وآمالها ومسراتها وهمومها.
ثانيًا: ضرب المثل وأخذ العبرة والتماس القدوة، قال ابن القيم رحمه الله: "وأما بكاؤه صلى الله عليه وسلم فكان من جنس ضحكه فلم يكن بشهيق ورفع صوت كما لم يكن ضحكه بقهقهة، ولكن كانت تدمع عيناه حتى تهملا، ويُسمع لصدره أزيز، وكان بكائه تارة رحمة للميت وتارة خوفًا على أمته وشفقة عليها، وتارة من خشية الله، وتارة عند سماع القرآن، وهو بكاء اشتياق ومحبة وإجلال مصاحب للخوف والخشية"
من ذلك بكاؤه صلى الله عليه وسلم لما كسفت الشمس وصلى صلاة الكسوف، وجعل يبكي في صلاته وجعل ينفخ ويقول: "ربّ ألم تعدني ألا تعذبهم وأنا فيهم وهم يستغفرون" صلى الله عليه وسلم.
جعلني الله وإياكم ممن ذُكِّر فنفعته الذكرى، وأخلص لله عمله سرًّا وجهرًا، آمين..آمين، والحمد لله رب العالمين.
الحمد لله الذي منَّ على المؤمنين بنبي الرحمة، وجعله مؤيدًا بالكتاب والحكمة؛ يعلمهم الكتاب والحكمة، وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين، والصلاة والسلام على إمام الهدى الذي عرّف نفسه فقال: "إنما أنا رحمة مهداة" صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين فازوا بحبّه وقربه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم وعيده ووعده.
معاشر الصالحين: الإنسان في حياته معرض للأفراح والأحزان، والمسرات والأنكاد، فإن الدنيا لا تدوم على حال، وتقلباتها كثيرة، ومفاجآتها مخيفة، لكن المسلم قد أنار الله بصيرته، وربط على قلبه وأنعم عليه بنعمة الإيمان بالقضاء والرضا بالقدر واحتساب الأجر، فهو إن فرح فلا يفرح فرحًا يخرج به عن الحدود أو يجره إلى غضب المعبود، بل له أن يفرح ويأنس وهو مع ذلك شاكر لربه جل وعلا الذي أنعم عليه بما يفرحه ويسره فلا تنسيه المسرات عطاء رب الأرض والسماوات، وهو إن مر به حزن أو تعرض لمصيبة يصبر ويحتسب ويرضى بما قدر له، ويحمد الله على كل حال.
يقول ربنا جل وعلا: (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ)، وهذه الآية الكريمة جاءت مباشرة بعد آية الإشادة بالكتاب باعتباره الرحمة والشفاء (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ * قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ).
فبهذا الفضل الذي أتاه الله عباده وبهذه الرحمة التي أفاضها عليهم من الإيمان والقرآن فبذلك وحده فليفرحوا، فهذا هو الذي يستحق الفرح لا المال ولا أعراض هذه الحياة، إن ذلك هو الفرح العلوي الذي يطلق النفس من عقال المطامع الأرضية والأعراض الزائلة فيجعل هذه الأعراض خادمة للحياة لا مخدومة، ويجعل الإنسان فوقها وهو يستمتع بها لا عبدًا خاضعًا لها.
والإسلام لا يحقر أعراض الحياة الدنيا ليهجرها الناس ويزهدوا فيها، إنما هو يزنها بوزنها ليستمتع بها الناس وهم أحرار الإرادة طلقاء اليد، مطمحهم أعلى من هذه الأعراض وآفاقهم أسمى من دنيا الأرض، الإيمان عندهم هو النعمة وتأدية مقتضيات الإيمان هي الهدف والدنيا بعد ذلك مملوكة لهم لا سلطان لها عليهم.
عن عقبة بن الوليد عن صفوان عن عمرو قال سمعت أيفع بن عبد الله يقول: "لما قدر خراج العراق إلى عمر رضي الله عنه خرج عمر ومولى له فجعل عمر يعد الإبل فإذا هي أكثر من ذلك، فجعل يقول: الحمد لله.. الحمد لله ويقول له مولاه: هذا والله من فضل الله ورحمته، فقال عمر كذبت، ليس هذا هو الذي يقول الله تعالى: (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ)".
هكذا كان الرعيل الأول ينظرون إلى قيم الحياة، كانوا يعدون الفضل الأول والرحمة الأولى هي ما جاءهم من الله من موعظة وهدى، أما المال والثراء والمناصب والكراسي فهي تابعة لهذه المعاني وخادمة لها.
لذلك كان النصر يأتيهم، وكان المال ينسال عليهم، وكان الثراء يطلبهم، إن طريق هذه الأمة واضح إنه في هذا الذي يسنّه لها قرآنها وفي سيرة الصدر الأول الذين فهمه من رجالها، هذا هو الطريق.
إن الأرزاق المادية والقيم المادية ليست هي التي تحدد مكان الناس في هذه الأرض في الحياة الدنيا فضلاً عن مكانهم في الحياة الأخرى، يقول ربنا: (وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آَمِنُونَ)
عندما تصبح الأموال والمناصب والكراسي صنمًا يكدح الناس حوله، ويطوفون به، فإن كل القيم والاعتبارات الأخرى تُدَاس في سبيله وتُنتهك، الأخلاق، الأسرة، الأعراض، الحريات، الضمانات.
إن القيمة العليا يجب أن تبقى لفضل الله ورحمته المتمثلة في هداه الذي يشفي الصدور، ويحرر الرقاب، ويعلي من قيم الإنسانية في الإنسان.
لذالكم فإننا إذا ما قمنا بجولة سريعة في أفراح سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم نجد هذه المعاني بارزة واضحة في أجلى صورها وأسمى أشكالها.
ولقد مرت في حياته صلى الله عليه وسلم أفراح كثيرة ومسرات متعددة، ولم يكن شيء أحب إليه من رضوان الله عز وجل، أو إيمان إنسان ونجاته من الشرك، أو انتصار للمسلمين وفوز لهم في ميادين الجهاد والجلال، وليس في ملاعب الهراء والباطل، أو سرور يدخله على مسلم أو معروف يقدمه لمسكين أو فقير أو عودة لحبيب غائب منتظر أو فتح لبلدة ليشع فيها نور الإيمان، أو لبشائر ربانية يهبط بها جبريل على قلبه، أو لبشرى إلهية له ولأمته..
والمتأمل في جميع أفراحه أو أحزنه يجد أنها جميعًا لله تعالى، أو لنفع عباده إما فرحًا بطاعة أو سرور بنعم أو بهجة لمسلم.
ومن أفراحه صلى الله عليه وسلم فرحه بالإسراء والمعراج، وما أكرمه به مما أنساه كل تعب، وأزال عنه كل هم.
فرحه بالهجرة إلى المدينة يوم رأى حب الأنصار واستقبالهم ودخولهم في الإسلام.. فرحه بفتح مكة وتطهير البيت الحرام، فرحه برضوان الله على المؤمنين، فرحه بإسلام رجال عظماء كان يتمنى إسلامهم كعمر بن الخطاب وخالد بن الوليد وغيرهما..
فرحه صلى الله عليه وسلم عندما أُنزلت عليه سورة الكوثر، فرحه صلى الله عليه وسلم عندما أُنزلت عليه سورة الفتح، فرحه بفتوحات المسلمين وانتصاراتهم، فرحه صلى الله عليه وسلم بقدوم أحبته بعد غيابهم كقوله لجعفر رضي الله عنه بعد عودته من الحبشة: "والله لا أدري بأيهما أُسَرُّ بفتح خيبر أم بقدوم جعفر"؟!
فرحه بالأعياد، وكان صلى الله عليه وسلم يُظهر الفرح والسرور بنعمة الله، فقد علّم المسلمين الفرح بعيد الفطر وعيد الأضحى وإظهار ذلك، وكان يعلم أصحابه أن يحمدوا الله على نعمه من ذلكم قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله ليرضى عن العبد يأكل الأكلة، ويشرب الشربة فيحمده عليها".
وكان يعلم أصحابه سجود الشكر فرح بنعمة أو بشارة من الله، وكان إذا فرح يظهر الفرح في وجهه صلى الله عليه وسلم، عن كعب بن مالك رضي الله عنه قال: "كان صلى الله عليه وسلم إذا سُرَّ استنار وجهه كأنه قطعة قمر وكنا نعرف ذلك منه" رواه البخاري.
وكان إذا أعجبه شيء أو أعجب أصحابه يكبرون، وأعجب من ذلك كله أن يظهر الفرح والبِشْر والسرور في آخر لحظات حياته، فرحه قبل الموت قبل أن يغادر الدنيا، فرح وضحك وتبسم وأشرق وجهه أتدرون لماذا؟ "تحامل صلى الله عليه وسلم على نفسه وقام من فراش المرض فنظر إلى أصحابه وهم في المسجد يصلون خلف أبي بكر رضي الله عنه في صفوف أشبه بصفوف الملائكة، فضحك وإذا وجهه يتهلل كأنه ورقة مصحف حتى كاد الصحابة يفتتنون في الصلاة، فأشار إليهم أن أتموا صلاتكم وكانت تلك آخر نظرة يلقيها الحبيب على المسلمين".
فرح لأنه اطمأن على المسلمين وهم في توجهم لله ووحدتهم، فهل بقينا على هذه الوحدة وعلى ذلكم التوجه، وهل إذا نظر إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم اليوم سيفرح لحالنا؟
اختلافات وفرق وتطاحنات وصراعات وأرواح تُسفك وأموال تُهدر في الباطل، هل نفرح اليوم ونحزن لما كان يفرح ويحزن له المصطفى صلى الله عليه وسلم أم اختلف الأمر؟!
هل من المعقول يا أحباب أن ننتسب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ونبكي لمباراة كرة، والأعجب ما نسمعه من تحاليل وآراء وأننا أوهنا في كرامتنا ونخوتنا !! ما هذا الهراء؟!!
هل عزة المسلمين في كرتهم أم في قرآنهم وسنتهم؟ هل تُقاس الأمجاد باللعب أم بالجد؟ إذا كانت الدنيا كلها لهو ولعب كما وصفها الله، فما نصيب اللعب في اللعب، وما نصيب اللهو في اللهو؟
هل هكذا أرادنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نكون؟!
أموال تُهدر، بل الأخطر الأرواح التي تُسفك من أجل الكرة، وقد رأيتم ما حصل في مصر من أحداث مؤسفة بسبب مباراة تحولت إلى مأتم..
هل هانت الأرواح إلى هذا الحدث؟ هل سفهت العقول ونزلت إلى هذا المستوى؟ أليس في المسلمين رجل رشيد؟ أليس في المسلمين رجل رشيد؟ أليس في المسلمين رجل رشيد؟
هل حب الأوطان في اللعب أم في البناء والتشييد؛ بناء الإنسان قبل بناء الجدران، المواطنة الحقة أن تكون أنت أيها المواطن سببًا في جلب رضا الله لوطنك؛ نشرًا للخير وتعليمًا للقرآن، ونصحًا وتجنبًا للفتن وإتقانًا للعمل في كل نواحي الحياة، وتحملاً للمسئولية ونصرًا للمظلوم، وكبحًا لجماح الظالم؛ بهذا تشرق شمس الأمل وترتفع راية الإسلام، وتتخلص العقول من عقالها.
اللهم أصلح أحوالنا، واجعل بطاعتك اشتغالنا، وإلى الخيرات مآلنا..
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي