من حكمة الله تعالى في خلقه أنه سبحانه لما خلقهم علمهم ما ينفعهم وما يضرهم، فكل مخلوق منهم يجلب لنفسه النفع، ويدفع عنها الضر؛ رحمة من الله تعالى بهم، وهداية منه عز وجل لهم
الحمد لله (الَّذِي عَلَّمَ بِالقَلَمِ عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) [العلق:4-5]، نحمده على نعمه، ونشكره على آلائه ومننه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ عظيم في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته (ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ لَا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ) [الأنعام:103].
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ نقل الله تعالى به هذه الأمة الخاتمة من الجهل إلى العلم، ومن الضلال إلى الهدى، ومن دركات الشر إلى درجات الخير (لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى المُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) [آل عمران:164]. صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله تعالى وأطيعوه (وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ) [البقرة:48].
أيها الناس: من حكمة الله تعالى في خلقه أنه سبحانه لما خلقهم علمهم ما ينفعهم وما يضرهم، فكل مخلوق منهم يجلب لنفسه النفع، ويدفع عنها الضر؛ رحمة من الله تعالى بهم، وهداية منه عز وجل لهم، ولما قال فرعون في مناظرته لموسى عليه السلام (فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) [طه:50].
وفضل سبحانه وتعالى البشر على سائر الحيوان بما وهبهم من العقول التي فتحت لهم مغاليق العلوم، وسُخرت لهم بها كنوز الأرض ودوابها (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي البَرِّ وَالبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا) [الإسراء:70].
والبشر ما كان لهم أن يعلموا شيئا لولا أن الله تعالى ركب فيهم الأسماع والأبصار والأفئدة التي هي وسائل تحصيل العلوم والمعارف (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [النحل:78].
وأعظم علم ينفع الإنسان في عاجله وآجله هو العلم بالله تعالى وبما يرضيه، وذلك بتعلم كتابه وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام، والفقه فيهما؛ ليعبد ربه عز وجل على علم وبصيرة، ثم العلم بما يصلح للعبد دنياه؛ فإن الدنيا مطية الآخرة.
وأعظم الجهل وأشده وأشنعه الجهل بالله تعالى وبدينه الذي ارتضاه لعباده، ومن عطل عقله عن تحصيل ما ينفعه من العلوم الشرعية التي بها يقيم دينه، ويعبد ربه فهو من الجاهلين، ولو كان مبرزا في علوم الدنيا، والأمة التي ليس لها من علوم الشريعة أي حظ هي أمة جاهلة هالكة ولو اكتشفت الذرة، وشيدت العمران والحضارة، وصعدت إلى الفضاء حتى بلغت القمر؛ إذ إن أضر شيء على العباد أن يجهلوا ما ينفعهم وما يضرهم، وما يقربهم من الله تعالى وهو الإيمان به وطاعته، واتباع رسله؛ ولذلك امتدح الله تعالى العلم والعلماء، وذم الجهل وأهله، وأخبر أن أهل العلم وأهل الجهل لا يستويان أبدا (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ) [الزُّمر:9].
وكل حمد في القرآن والسنة للعلم والعلماء فإنه ينصرف إلى العلم الشرعي الذي يتوصل به إلى رضوان الله تعالى، وكل ذم في القرآن والسنة للجهل وأهله فهو منصرف إلى الجهل بدين الله تعالى.
وقد أخبر سبحانه وتعالى عن المشركين أنهم لا يؤمنون بالآيات البينات بسبب جهلهم (وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ المَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ المَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ) [الأنعام:111].
والجهل سبب للإعراض عن الحق ومحاربته، ومنابذة أهله بالعداء، وهو أكثر داء في أهل الباطل (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ) [الأنبياء:24].
والجهل بالله تعالى وبدينه يؤدي إلى الشرك به؛ ولذا وصف به نوح وهود ولوط عليهم السلام أقوامهم لما رفضوا دعواتهم، وأصروا على شركهم ومعصيتهم لله تعالى، فقال نوح عليه السلام (وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ) [هود:29].
وقال هود عليه السلام لقومه (إِنَّمَا العِلْمُ عِنْدَ الله وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ) [الأحقاف:23]. وقال لوط عليه السلام لقومه (أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) [النمل:55].ولما طلبت بنو إسرائيل من موسى عليه السلام أن يجعل لهم مثل ما للمشركين من الأصنام أنكر موسى عليهم، وبين أن الحامل لهم على طلبهم هذا هو جهلهم بالله تعالى (وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ البَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آَلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) [الأعراف:138].
ومع أن أنبياء الله تعالى قد عصموا من الجهل؛ لكمال عقولهم بالوحي الرباني، ومعرفتهم بالله تعالى؛ فإن الله تعالى وعظهم أن يكونوا في عداد الجاهلين، وهم عليهم السلام قد تعوذوا بالله تعالى من الجهل، وما ذاك إلا هداية للبشر أن يقتفوا أثر الأنبياء عليهم السلام.
سأل نوح عليه السلام ربه عز وجل أن ينجي ابنه المشرك من الطوفان فكان وحي الله تعالى له (يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الجَاهِلِينَ) [هود:46]، فقبل نوح عليه السلام موعظة الله تعالى له، واستعاذ به سبحانه من سلوك سبل أهل الجهل والضلال (قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الخَاسِرِينَ) [هود:47]. وقال موسى عليه السلام (أَعُوذُ بِالله أَنْ أَكُونَ مِنَ الجَاهِلِينَ) [البقرة:67].
ونبينا محمد عليه الصلاة والسلام لما أعرض أهل الجهل والضلال عن دعوته، وطالبوه بالآيات ثم لم يؤمنوا بها، وشق ذلك عليه؛ وعظه ربه عز وجل، وبين له أن الهداية منه سبحانه وليست لأحد من خلقه، وحذره من الجهل، فقال سبحانه (وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآَيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الجَاهِلِينَ) [الأنعام:35].
وأمره عز وجل بتبليغ الدعوة والإعراض عن أهل الضلال والجهل (خُذِ العَفْوَ وَأْمُرْ بِالعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ) [الأعراف:199].
وأهل العلم والهدى لا يطاولون أهل الجهل في جهالاتهم، ولا يشاركونهم في مرائهم ومجادلاتهم، ولا يُجترون إلى معاركهم وخصوماتهم، وهي معارك جانبية تَشْغَلُ عن المعارك الكبرى للأمة، وغالب أهدافها الانتصار للنفس فحسب؛ وأهل العلم لا يجارون أهل السفه والجهل في ذلك؛ لأن همتهم أعلى من مجرد انتصارهم لأنفسهم، وإثبات ذواتهم؛ ولأنهم يعلمون أن أهل الجهل بجهالاتهم ومجادلاتهم إنما يستنزفون جهدهم، ويضيعون أوقاتهم فيما لا طائل منه، فيعرضون عنهم لاشتغالهم بما هو أهم وأعلى، وقد امتدح الله تعالى هذا الأسلوب منهم في التعامل مع الجاهلين (وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الجَاهِلِينَ) [القصص:55] وجعل من صفات المؤمنين المفلحين تجنب مجادلة أهل الجهل (وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ) [المؤمنون:3] وفي آية أخرى (وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا) [الفرقان:63].
ومن حال جهله بينه وبين بلوغ الحق وهو دين الله تعالى الذي ارتضاه لعباده فقد عطل ما وهبه الله تعالى من وسائل تحصيل العلم والمعرفة؛ ولذا وصف الله تعالى من هذه حالهم بالعمى والصمم ونفى عنهم صفة العقل؛ لأنهم لم يعقلوا الحق ولم يبصروه ولم يسمعوه، فهم شر الخليقة عند الله تعالى، والآيات القرآنية الواردة في ذلك لا يتسع مقام كهذا لعرضها كلها، ففي سورة البقرة (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ) [البقرة:171] وفي المائدة (وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ) [المائدة:103]
وفي الأنعام (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [الأنعام:39] وفي الأنفال (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ الله الصُّمُّ البُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ) [الأنفال:22] وفي يونس (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ) [يونس:100] وفي الحج (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى القُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) [الحج:46].
ولأنهم عطلوا ما رزقهم الله تعالى من وسائل تحصيل العلوم فكفروا به سبحانه وقد كان أولى بهم أن يعرفوا ربهم فلا يجحدوه، ويوحدوه فلا يكفروه؛ فإنه عز وجل قد حكم عليهم بأنهم شر خلقه (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ وَالمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ البَرِيَّةِ) [البيِّنة:6].
وقَدْرُهم في دين الله تعالى أقل من قدر الأنعام لتي لا تعقل (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الجِنِّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الغَافِلُونَ) [الأعراف:179] وفي آية أخرى (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا) [الفرقان:44].
فحري بكل مؤمن أن يدرك قدر نعمة العلم بالله تعالى، والإيمان به، وأن يشكر الله تعالى على ذلك ويسأله الثبات، فكم من البشر قد أعرضوا عن الحق جهلا أو استكبارا!! (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) [الحجرات:17].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أيها المسلمون: كثير من الناس في هذا العصر قد فتنوا بحضارة الغرب، وما قدمته للبشرية من إنجازات عظيمة في أنواع العلوم والمعارف الدنيوية حتى سموها حضارة النور والعلم والمعرفة، ووسموا دولها بدول العالم الأول، ووصموا غيرها بالدول النامية ودول العالم الثالث، والدول الجاهلة والمتخلفة، واستقرت هذه التسميات في عقول الناس، وسلموا بها للغربيين.
ولئن صح ذلك في علوم الدنيا فلا يصح في علوم الدين التي نفعها أعظم من نفع علوم الدنيا وأبقى، وهي التي يجب أن تقدم عليها في التصنيف والتفضيل، فما قيمة علوم الدنيا مهما بلغت مع الجهل بالله تعالى وبدينه الحنيف، وبالدار الآخرة، والله تعالى يقول في شأن الدنيا والآخرة (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ) [القصص:60] وفي آية أخرى (وَالآَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى) [الأعلى:17].
ولا يحل لمسلم أن يُسلم للحضارة الغربية بهذه الأوصاف المطلقة من النور والعلم والمعرفة ونحو ذلك، بل لا بد أن تقيد هذه الأوصاف فيهم بعلوم الدنيا؛ لأن حضارة الغرب وإن أبدعت في علوم الدنيا فإنها جهلت علوم الدين، وهي من شر الأمم انحطاطا في هذا الجانب، ومن أشدها كفرا بالله تعالى، وما زادتهم علومهم الدنيوية إلا استكبارا عن قبول الحق، واستنكافا عن العبودية لله تعالى، واتباع رسله، وتصديق كتبه، ويصدق فيهم قول الله تعالى (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ) [الرُّوم:7].
والعلم بالوحي الرباني المتضمن للعلم بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر هو العلم الحقيقي، وهو الروح للإنسان كما قال الله تعالى (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الكِتَابُ وَلَا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [الشُّورى:52].
ومن جهل به فهو ميت وإن كان في الأحياء (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الأنعام:122].
وكلما بعد الناس عن زمن الوحي قل فيهم العلم، وزاد فيهم الجهل كما دلت على ذلك الأحاديث:
فعن ابن مسعود وَأَبِي مُوسَى رضي الله عنهما قَالا: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ بين يَدَيْ السَّاعَةِ لأيَّامًا يَنْزِلُ فيها الْجَهْلُ وَيُرْفَعُ فيها الْعِلْمُ وَيَكْثُرُ فيها الْهَرْجُ وَالْهَرْجُ الْقَتْلُ" متفق عليه.
وانتشار الجهل بدين الله تعالى من أشراط الساعة المؤذنة بقرب قيامها؛ كما في حديث أَنَسِ رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ من أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يُرْفَعَ الْعِلْمُ وَيَثْبُتَ الْجَهْلُ وَيُشْرَبَ الْخَمْرُ وَيَظْهَرَ الزِّنَا" متفق عليه. وفي لفظ للبخاري "إِنَّ من أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يُرْفَعَ الْعِلْمُ وَيَكْثُرَ الْجَهْلُ وَيَكْثُرَ الزِّنَا وَيَكْثُرَ شُرْبُ الْخَمْرِ"
أيها الإخوة: وفي زمننا هذا كثر إلحاح كثير من الصحفيين ومن يسمون أنفسهم بالمفكرين على التهوين من شأن العلوم الدينية، ويطالبون بتقليصها في مناهج التعليم، ودمج بعضها في بعض، مع مطالبتهم بتوسيع العلوم الدنيوية على حسابها؛ زاعمين أن ذلك سبيل التقدم والازدهار.
يقولون ذلك وهم يرون كثيرا من الدول العربية والإسلامية التي أقصت التعليم الديني، وقضت على مدارسه وجامعاته ومنهاجه منذ عقود ترسف في الفقر والتخلف والانحطاط والتبعية، وما نفعها شيئا القضاء على مؤسسات التعليم الديني ومناهجه، بل أضر بشعوبها ضررا بالغا؛ فلا أصلحوا للناس دنياهم، ولا أبقوا لهم دينهم.
ولذا فإنه يجب على الغيورين أن يقفوا أمام محاولات المنافقين والتغريبيين العبثية التخريبية التي تستهدف عقول أولادنا، ومدارسنا وجامعاتنا، ومناهج تعليمنا، وتحاول طمس أنوار العلوم الشرعية منها، ومسخها لتكون كالعقول الغربية في تمردها على الله تعالى وعلى أنبيائه وشرائعه.
إننا ما رأينا هؤلاء المنحرفين عن شريعة الله تعالى يجيدون شيئا سوى الثرثرة في فضائياتهم وصحفهم، فلم يصنعوا للأمة مجدا، ولم يعيدوا لها حقا، ولم يخترعوا شيئا، ولم يسهموا في رقي الأمة وتقدمها، بل هم سبب رئيس في تخلفها وتقهقرها بدعواتهم المشبوهة لنبذ الدين، ومطالباتهم المكرورة بالتبعية للغرب، والانصهار في مناهجه المحرفة لتفقد الأمة ما ميزها الله تعالى به من هذا الدين العظيم (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ) [التوبة:33].
وصلوا وسلموا على نبيكم...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي