لقد خلق الله الخليقة وحثهم على التعاون، وجعل المسلم أخًا للمسلم، وجعل لكل منهما حقوقًا على الآخر، وجعل الحقوق من بداية الحياة وحتى موته ودفنه، بل حتى بعد دفنه، وذلك بالدعاء له، ولقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم هذه الحقوق في كثير من الأحاديث ..
إن الحمد لله....
أما بعد:
فيا أيها المؤمنون: لقد خلق الله الخليقة وحثهم على التعاون، وجعل المسلم أخًا للمسلم، وجعل لكل منهما حقوقًا على الآخر، وجعل الحقوق من بداية الحياة وحتى موته ودفنه، بل حتى بعد دفنه، وذلك بالدعاء له، ولقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم هذه الحقوق في كثير من الأحاديث فمنها ما أخرجه مسلم في صحيحه من حديث أبي هُريرة - رضي الله عنه -، عَن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: "مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤمِنٍ كُرْبةً مِنْ كُرَبِ الدُّنيا، نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَومِ القِيامَةِ، ومَنْ يَسَّرَ على مُعسِرٍ، يَسَّرَ الله عَليهِ في الدُّنيا والآخرَةِ، ومَنْ سَتَرَ مُسلِماً، سَتَرَهُ اللهُ في الدُّنيا والآخِرة، واللهُ فِي عَوْنِ العَبْد ما كَانَ العَبْدُ في عَوْنِ أخيهِ، ومَنْ سَلَكَ طَريقاً يَلتَمِسُ فِيه عِلماً، سَهَّلَ الله لَهُ بِهِ طَريقاً إلى الجَنَّةِ، وما جَلَسَ قَومٌ في بَيْتٍ مِنْ بُيوتِ الله، يَتْلُونَ كِتابَ الله، ويَتَدارَسُونَه بَينَهُم، إلاَّ نَزَلَتْ عليهِمُ السَّكينَةُ، وغَشِيتْهُمُ الرَّحمَةُ، وحَفَّتْهُم المَلائكَةُ، وذَكَرَهُم الله فِيمَنْ عِنْدَهُ، ومَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ، لم يُسرِعْ بِهِ نَسَبُهُ" رواهُ مسلمٌ.
فهذا الحديث العظيم ذكر بعضًا من الحقوق الواجبة على المسلمين لبعضهم البعض، فمن فوائد الحديث الظاهرة أنَّ الجزاءَ من جنس العمل، وقد تكاثرت النُّصوصُ بهذا المعنى، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّما يرحم الله من عِباده الرُّحماء"، وقوله: "إنَّ الله يعذِّب الَّذين يُعذِّبونَ النَّاس في الدُّنيا".
وفيه أن التنفيس على أهل الكرب من أفضل الأعمال، والكُربة: هي الشِّدَّةُ العظيمة التي تُوقعُ صاحبَها في الكَرب، وتنفيسُها أن يُخفَّفَ عنه منها، مأخوذٌ مِنْ تنفيس الخناق، كأنه يُرخى له الخناق حتَّى يأخذ نفساً، والتفريجُ أعظمُ منْ ذلك، وهو أنْ يُزيلَ عنه الكُربةَ، فتنفرج عنه كربتُه، ويزول همُّه وغمُّه، فجزاءُ التَّنفيسِ التَّنفيسُ، وجزاءُ التَّفريجِ التَّفريجُ، وخرَّج الترمذي من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعاً: "أيما مُؤْمِنٍ أطعمَ مؤمناً على جُوعٍ، أطعمه الله يوم القيامة من ثمار الجنة، وأيما مؤمن سقى مؤمناً على ظمأ، سقاه الله يومَ القيامة من الرَّحيق المختوم ، وأيما مؤمنٍ كسا مؤمناً على عُري، كساه الله من خضر الجنة". وخرَّجه الإمام أحمد بالشكّ في رفعه، وقيل: إنَّ الصحيحَ وقفُه.
وروى ابن أبي الدنيا بإسناده عن ابن مسعود قال: "يُحشر الناسُ يوم القيامة أعرى ما كانوا قطُّ، وأجوعَ ما كانوا قطُّ، وأظمأَ ما كانوا قطُّ، وأنصبَ ما كانوا قط، فمن كسا للهِ - عز وجل -، كساه الله، ومن أطعم لله - عز وجل -، أطعمه الله، ومن سقى لله - عز وجل -، سقاه الله، ومن عفا لله - عز وجل -، أعفاه الله".
وخرَّج البيهقي من حديث أنس مرفوعاً وفيه ضعف: "أنَّ رجلاً من أهل الجنَّةِ يُشرف يومَ القيامة على أهلِ النَّارِ، فيُناديه رجلٌ من أهلِ النّار، يا فلان، هل تعرفني؟ فيقول: لا والله ما أعرِفُك، من أنت؟ فيقول: أنا الذي مررتَ بي في دار الدُّنيا، فاستسقيتني شَربةً من ماءٍ، فسقيتُك، قال: قد عرفتُ، قال: فاشفع لي بها عند ربِّك، قال: فيسأل الله - عز وجل -، ويقول: شفِّعني فيه، فيأمر به، فيُخرجه من النار".
وقوله: "كُربة من كُرَبِ يوم القيامة"، ولم يقل: "من كُرب الدُّنيا والآخرة" كما قيل في التَّيسير والسَّتر، وقد قيل في مناسبة ذلك: إنَّ الكُرَبَ هي الشَّدائدُ العظيمة، وليس كلّ أحد يحصُلُ له ذلك في الدُّنيا، بخلاف الإعسار والعورات المحتاجة إلى الستر، فإنَّ أحداً لا يكادُ يخلو في الدُّنيا من ذلك، ولو بتعسُّر بعض الحاجات المهمَّة. وقيل: لأنَّ كُرَبَ الدُّنيا بالنِّسبة إلى كُرَب الآخرة كلا شيءٍ، فادَّخر الله جزاءَ تنفيسِ الكُرَبِ عندَه، لينفِّسَ به كُرَب الآخرة، ولنعلم تلك الشدائد التي في القيامة لنستمع لما خرَّج مسلم من حديث المقداد، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: "تدنُو الشَّمسُ مِنَ العباد حتَّى تكون قدرَ ميلٍ أو ميلين، فتصهرُهم الشَّمسُ، فيكونون في العَرَقِ كقدر أعمالهم، فمنهم مَنْ يأخذُه إلى عَقِبَيه، ومنهم من يأخذه إلى ركبتيه، ومنهم من يأخذه إلى حَقْويْهِ، ومنهم من يُلجمه إلجاماً".
قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ومن يسَّر على مُعسِرٍ، يسَّرَ الله عليه في الدُّنيا والآخرة". هذا أيضاً يدلُّ على أنَّ الإعسار قد يحصُل في الآخرة، وقد وصف الله يومَ القيامة بأنّه يومٌ عسير وأنّه على الكافرين غيرُ يسير، فدلَّ على أنَّه يسير على غيرهم، وقال: (وَكَانَ يَوْماً عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيراً).
وفي الصحيحين عن أبي هُريرة عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: "كان تاجرٌ يُداينُ النَّاسَ، فإذا رأى معسراً، قال لصبيانه: تجاوزوا عنه، لعلَّ الله أنْ يتجاوزَ عنّا، فتجاوز الله عنه". وفي رواية أن الله قال: "نحن أحق بذلك منه، تجاوزوا عنه" اللهم تجاوز عنا يا رب العالمين، أقول قولي..
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين...
أما بعد فيا أيها الناس: ولا يزال الحديث موصولاً في حقوق المسلم على أخيه، فقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ومن سَتَرَ مُسلماً، ستره الله في الدُّنيا والآخرة". هذا مما تَكاثرتِ النُّصوص بمعناه. وخرَّج ابن ماجه من حديث ابن عباس، عن النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم-، قال: "من ستر عورةَ أخيه المسلم، ستر الله عورته يومَ القيامة، ومن كشفَ عورة أخيه المسلم، كشف الله عورته حتّى يفضَحَه بها في بيته".
وقد رويَ عن بعض السَّلف أنَّه قال: "أدركتُ قوماً لم يكن لهم عيوبٌ، فذكروا عيوبَ الناس، فذكر الناسُ لهم عيوباً، وأدركتُ أقواماً كانت لهم عيوبٌ، فكفُّوا عن عُيوب الناس، فنُسِيَت عيوبهم".
قال ابن رجب رحمه الله: "واعلم أنَّ النَّاس على ضربين: أحدهما: من كان مستوراً لا يُعرف بشيءٍ مِنَ المعاصي، فإذا وقعت منه هفوةٌ، أو زلَّةٌ، فإنَّه لا يجوزُ كشفها، ولا هتكُها، ولا التَّحدُّث بها؛ لأنَّ ذلك غيبةٌ محرَّمة، وهذا هو الذي وردت فيه النُّصوصُ، وفي ذلك قد قال الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ). والمراد: إشاعةُ الفَاحِشَةِ على المؤمن المستتر فيما وقع منه، أو اتُّهِمَ به وهو بريء منه، كما في قصَّة الإفك.
قال بعض الوزراء الصالحين لبعض من يأمرُ بالمعروف: اجتهد أن تستُرَ العُصَاةَ، فإنَّ ظهورَ معاصيهم عيبٌ في أهل الإسلام، وأولى الأمور ستر العيوب، ومثل هذا لو جاء تائباً نادماً، وأقرَّ بحدٍّ، ولم يفسِّرْهُ، لم يُستفسر منه، بل يُؤمَر بأنْ يرجع ويستُر نفسه، كما أمر النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ماعزاً والغامدية، والثاني: من كان مشتهراً بالمعاصي، معلناً بها لا يُبالي بما ارتكبَ منها، ولا بما قيل له فهذا هو الفاجرُ المُعلِنُ، وليس له غيبة، كما نصَّ على ذلك الحسنُ البصريُّ وغيره، ومثلُ هذا لا بأس بالبحث عن أمره، لِتُقامَ عليه الحدودُ. قال مالك: "من لم يُعْرَفْ منه أذى للناس، وإنَّما كانت منه زلَّةٌ، فلا بأس أنْ يُشفع له ما لم يبلغ الإمام، وأمَّا من عُرِفَ بشرٍّ أو فسادٍ، فلا أحبُّ أنْ يشفعَ له أحدٌ، ولكن يترك حتى يُقام عليه الحدُّ، حكاه ابن المنذر وغيره". اهـ.
وقوله: "والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه"، فيه الحث على قضاء حوائج الناس خصوصًا الضعفاء والمحاويج، وكان عمر يتعاهد الأرامل فيستقي لهنَّ الماءَ باللَّيل، ورآه طلحةُ بالليل يدخلُ بيتَ امرأةٍ، فدخلَ إليها طلحةُ نهاراً، فإذا هي عجوزٌ عمياءُ مقعدةٌ، فسألها: ما يصنعُ هذا الرَّجلُ عندك؟ قالت: هذا له منذ كذا وكذا يتعاهدني يأتيني بما يُصلِحُني، ويخرج عنِّي الأذى، فقال طلحة: "ثكلتك أمُّكَ طلحةُ، عثراتِ عمر تتبع"؟
وكان أبو وائل يطوفُ على نساء الحيِّ وعجائزهم كلَّ يوم، فيشتري لهنَّ حوائجهنّ وما يُصلِحُهُنَّ.
فمن أعان الناس سخر الله له من يقوم بشئونه من غير أن يطلب منهم؛ وذلك لأن الله تولى شأنه.
عباد الله: نحن في وقت عظمت فيه الحاجة، فلنتلمس المحاويج، ولنبدأ بالأقارب فكم من غني له أقارب يتضورون جوعًا وفقرًا، وهو عنهم بمعزل، فتجده إن أنفق تصدق على الأبعدين ولا يتفقد أقاربه، وكذلك الجيران فهم أولى بالمعروف من غيرهم، فلم ضاعت حقوق الجار هذه الأيام، وقد كانت في السابق القريب من أعظم الحقوق، حتى كانوا يعدون الجار من أهل الدار فيحسب له في كل نفقة وطعام.
اللهم اجعلنا من عبادك المفلحين، فتول أمرنا، واغفر ذنوبنا، واستر عيوبنا يا رب العالمين... اللهم اغفر للمسلمين... اللهم أعز الإسلام والمسلمين.... اللهم أنج المستضعفين.... اللهم ول على المسلمين.... اللهم أنت الله لا إله إلا أنت...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي