ومجتمعنا اليوم تُنسج له ثياب غربية رقيعة لا تناسبه، ويُجرَّدُ من ثياب الإيمان التي كان يتوشَّح، وتفتح عليه نوافذُ فكريةٌ تهدِّد دينه وإيمانه وعقيدته، مما يحتم على المجتمع -بجميع مكوناته- أن ينتفض أمام هذه الأسباب؛ فهي الأمراض الحقيقية، وموجة الإلحاد أثَرٌ لهذا التوجُّه المريض، من هذه الشراذم المريضة التي جثمت على مفاصل القرار، وبدأت تفتك بالعباد والبلاد، والفكر والعقيدة.
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره...
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله حق التقوى.
معاشر المسلمين: يبتهجُ المؤمن عندما يرى غيرة المؤمنين على رسولهم -صلى الله عليه وسلم-، وعرضه ومقامه، ويُسَرُّ عندما يرى الهبَّة الجماعية الشعبية التي حركت العلماء والكتاب والوزراء وأعلى السلطات؛ غيرةً لله تعالى، وحميةً لدينه، وذبًا عن نبيه -عليه الصلاة والسلام-.
وإنه لأمر مُبهج حقًا أن ترى المجتمع ينتصر لربه -سبحانه وتعالى- ويغار لنبيه -عليه الصلاة والسلام- مما يعني تجديدَ المحبة والغيرة في النفوس، وتأديبَ الملحدين والمنافقين، وتعريفَهم بمعاني الغضب لله -عز وجل-، وعواقبِ العربدة الفكرية، والأفكارِ الإلحادية.
ولا شك أن الغضب من الإلحاد والتعرض للذات الإلهية، والجناب المحمدي في محله الصحيح، وكذلك البهجة بانتصار الحق وقوته وزلزلته للقلوب المريضة والنفوس الشاكة هو الآخر في محله الصحيح، إذ كيف لا يغضب الإنسان لربه ونبيه وهو يغضب لنفسه وأقاربه وقبيلته وأبناء بلده ثم لا يغضب لدين الله -عز وجل-؟، فليس لأحد منَّةٌ في غضبه لربه -سبحانه- وتعالى- ونبيه -عليه الصلاة والسلام-، وكل نعمة صغيرة أو كبيرة جاءته في هذه الدنيا فهي من الله تعالى وحده، وكل خير فمن طريقه -عليه الصلاة والسلام-، حتى قال الإمام الشافعي -رحمه الله تعالى- في كتابه الرسالة: فلمْ تمسِ بنا نعمةٌ ظهَرَت ولا بطَنَت، نلنا بها حظًا في دين، أو دُفع بها عنا مكروه فيهما أو في واحد منهما، إلا ومحمد -صلى الله عليه- سببُها، القائد إلى خيرها، والهادي إلى رشدها.
وقال ابن تيمية في الفتاوى: كل خير في الوجود، إما عام وإما خاص؛ فمنشؤه من جهة الرسول...، والدنيا مظلمة ملعونة إلا ما طلعت عليه شمس الرسالة. اهـ.
وقد وعد الله رسوله بأن يكفيه المستهزئين؛ ولذلك فإن الكفاية حاصلةٌ له -عليه الصلاة والسلام-، ولكنَّ الشرف العظيم أن تكون ممن ينصر الله تعالى ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، كما قال -تعالى-: (وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) [الحديد:25]، وقال تعالى (وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) [الحج:40].
فالشرف والرفعة أن تكون من أنصار الدين؛ لأنَّ (مَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) [العنكبوت:6]، فهو المستفيد، وله يرجع الأجر، والله -سبحانه- غني عن العالمين، فقد ينصر رسوله بنفسه، فيذيق المنتقص له العذاب الأليم والهوان المبين، وقد يسلط عليه قومًا آخرين إذا توليت أنت وأعرضت (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) [محمد:38].
والواجب لله ورسوله هو النصرة والمحبة والاتباع والتعظيم والتوقير، كما قال -سبحانه-: (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) [الفتح:8-9]، وقال -عليه الصلاة والسلام-: "ثلاث من كنَّ فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار"، وقال -عليه الصلاة والسلام-: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين".
وانتفاضة المؤمنين نصرة لله تعالى ونبيه -عليه الصلاة والسلام- هي الوضع الطبيعي لمن يقول إنه من المؤمنين المحبين لربهم ورسولهم -صلى الله عليه وسلم-، والوضع الخاطئ هو أن تعامل القضية ببرودة القلب، والتماس الأعذار، وقبول التوبة الكاذبة التي ظهرت لما رأت الأمة انتفضت وكانت قبل ذلك تنكر وجود الله تعالى، وتأخذها العزة بالإثم في محافل النقاش والحوار.
وقد اتفق العلماء من كل مذهب على كفر المستهزئ بالنبي -صلى الله عليه وسلم- والمنتقص له، وأنه كفر مخرج من الملة، ودليل ذلك قول الله -عز وجل-: (قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) [التوبة:65-66]، ولم يختلف المسلمون، لا في المذاهب الأربعة ولا غيرها؛ أن "المسلم" إذا سبّ النبي -عليه الصلاة والسلام- فحدّه الشرعي هو القتل، وقد نقل الإجماع على ذلك كثير من أهل العلم، منهم ابن المنذر رحمه الله حيث قال: أجمع عوام أهل العلم على أن حد من سب النبي -صلى الله عليه وسلم- القتل.
ومنهم الخطابي حيث قال: سابّ النبي -صلى الله عليه وسلم- مقتول، ولا أعلم أحداً من المسلمين اختلف في وجوب قتله.
ومنهم ابن تيمية حيث قال: الساب إن كان مسلمًا فإنه يكفَّر ويقتل بغير خلاف، وهو مذهب الأئمة الأربعة، وغيرهم.
وإذا تاب الذي يسب النبي -صلى الله عليه وسلم- فإن توبته تقبل فيما بينه وبين الله -عز وجل-، ولكنها لا تقبل في القضاء الشرعي؛ لأن فيها حقًا للنبي -صلى الله عليه وسلم-، وحقُّ النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يملك أحدٌ من الناس التنازلَ عنه، وهذا قولُ أكثر أهل العلم، وهو القول الراجح في المسألة.
ويتباكى كثير من الليبراليين ويقومون الليل في هذه الأيام من أجل البحث عن آيات التوبة في القرآن الكريم، وأن التوبة تجب ما قبلها، فكيف لا تُقبل توبة من يسب النبي -صلى الله عليه وسلم-؟ والجواب عن هذه الشبهة أن حقوق العباد لا تُقبل فيها التوبة إلا بعفو صاحب الحق، وحقوق الله تعالى تقبل فيها التوبة، ولو أنَّ شخصاً قتل آخر، ثم قال للقاضي إنه تائب ونادم، فهل تقبل توبته قضاءً؟ الجواب: لا تقبل توبته، فتوبته بينه وبين ربه، ولكن القصاص واجب إلا إن عفا أولياء الدم؛ لأن هذا حق آدميين، وكذلك لو أن شخصاً سرق أموال المسلمين، ثم قال للقاضي إنه تائب، فهل تقبل توبته قضاءً؟ الجواب: لا، بل توبته بينه وبين الله، ولكن الحد يمضي قضاءً؛ لأن هذا حق آدميين.
وهكذا سب النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنَّ حد الساب هو القتل ولا يملك أحد العفو؛ لأن هذا حق للنبي -صلى الله عليه وسلم- وقد مات -عليه الصلاة والسلام-، وحق للأمة جمعاء، ولا يملك أحد أن يتكلم باسمها.
معاشر المسلمين: ولا تخلو محنة أن يكون في ثناياها منحةٌ، فمع غضبنا وأسفنا أن يكون هذا في بلاد الحرمين الشريفين وعلى مسافة قريبة منهما، إلا أننا نحمد الله تعالى على قضائه وقدره، ونعلم أن كل ما أصابنا خير لنا، فلم يخل الحدث من المنح والثمرات التي يمكن الاستفادةُ منها والاعتبار بها؛ وإنَّ أهم ثمرة لهذا الحدث هو الانتفاضة الشعبية والرسمية على المتعرِّضين للذات الإلهية والجناب المحمدي؛ حتى بدأت كثيرٌ من الشخصيات الليبرالية الملحدة تتحس رقابها، وتراجع حساباتها، وتحذف كلماتها، وتفكِّر ألف مرة قبل الكلام بما في نفوسها من العفن والنتن، وأصبح الذين يقعون في الكفر ينكرونه، وإذا لم يستطيعوا إنكاره فإنهم يتأوَّلونه، كما قال الله -عز وجل-: (يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ) [التوبة:74].
بل اتهم السابُّ نفسَه بالجنون والهلوسة والضغط النفسي؛ خوفًا من أن يتدحرج رأسُه بجوار جثته، وهرب من بلده لا يلوي على شيء، وهكذا صدق فيه العذاب المهين الذي توعد الله به من يؤذِي الله ورسوله، يقول الله -عز وجل-: (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا) [الأحزاب:57]، وقال -سبحانه- عمن يؤذي نبيه: (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [التوبة:61].
ومن ثمرات هذا الحدث أنه لفت الأنظار إلى قضايا سكت عنها المجتمع طويلًا وتحملها كثيرًا، وهي التي تسببت بوجود مثل هذه الظواهر اليوم، وقد تحصل غدًا في أشخاصٍ آخرين، قد يكونون بيننا الآن من ذرياتنا وشبابنا، أو من الأجيال القادمة؛ لأن هذا المسكين الذي تفوه بالكفر المبين وتعرض لخير المرسلين كان شابًا مستقيمًا درس في هذه البلاد من الابتدائية إلى الثانوية، ودرس في حلقات تحفيظ القرآن الكريم، فكيف آلت به الأمور إلى هذا الانحدار الخطير؟!.
إن هناك حقيقة مُرة ينبغي أن يواجهها المجتمع بشجاعة بالغة، وهي الأسباب الحقيقية التي أفرزت هؤلاء الملحدين وجرَّأت هؤلاء الشاكين حتى يتكلموا بما في نفوسهم، ويفصحوا عن دواخل أفكارهم، ويتفوهوا الكفر البواح على صفحاتهم؛ وهذه الحقيقة هي أن حصونَنَا مهددة من الداخل بسبب صحفنا وإعلامنا، وأسطورةُ صبيان التوحيد أصبحت في مهب الريح.
ومجتمعنا اليوم تُنسج له ثياب غربية رقيعة لا تناسبه، ويُجرَّدُ من ثياب الإيمان التي كان يتوشَّح، وتفتح عليه نوافذُ فكريةٌ تهدِّد دينه وإيمانه وعقيدته، مما يحتم على المجتمع -بجميع مكوناته- أن ينتفض أمام هذه الأسباب؛ فهي الأمراض الحقيقية، وموجة الإلحاد أثَرٌ لهذا التوجُّه المريض، من هذه الشراذم المريضة التي جثمت على مفاصل القرار، وبدأت تفتك بالعباد والبلاد، والفكر والعقيدة.
فمجتمعنا يُقصَف في فكره، ويُمكَر بتدينه، وهذه الإفرازات الخبيثة هي نتيجة للمكر الكُبَّار التي يتعرض له شبابنا الذين مُكنوا من الشهوات، وفتحت لهم مصاريع الشبهات، وأُزُّوا إلى الابتعاث أزَّاً؛ حتى غزتهم الشكوك وغرتهم الماديات والمحسوسات، وأنكروا وجود الغيبيات، وأصبحوا ضحايا لمقولة حرية الفكر، التي حصرها بعض الناس في الشأن الديني، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ومن شاء فليلحد ومن شاء فليسب النبي -صلى الله عليه وسلم-، بحجة حرية الفكر! ولكنه لو تعرض لشخص المسؤول أو عرضه أو تعرض للمسؤولين الكبارِ أو قضايا الإرهابِ لغابت حرية الرأي، وأصبح خبرًا بعد عين، كما فعل بأشياعه من قبل!.
وقد ساعد هذا التساهل في حماية الدين على الجرأة عليه، وأعظمُ تساهلٍ في هذا الأمر هو عدم تطبيق حكم الشرع على المرتد؛ حيث إن أحدهم إذا قرأ كتابًا غربيًا لمؤلف ملحد بدأ يهرف بما لا يعرف دون تفكير وسؤال لأهل العلم، والذي جرأة على هذا أنه لم يسبق له أن رأى الحدود تطبق على أهل الإلحاد، أو على الأقل التضييق عليهم وتأديبهم واستتابتهم، ولو رأى مثل هذا لفكَّر مليًا قبل التفوه بالكفر، وسأل أهل العلم عن شبهاته قبل الكتابة حولها، ثم رجع إلى رشده دون أن يؤذي الله ورسوله ويؤذي مشاعر المسلمين.
والله -سبحانه- يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، وإقامة الحدود تؤدب من في قلبه مرض، وتجعل الملحد يفكر طويلًا قبل أن يخرج لسانه من فمه حتى تموت الزندقة في فمه قبل إخراجها، وربما يتهم نفسه بالجنون كما فعل هذا المسكين الذي ظلم نفسه، وهذا ما حصل لصبيغ بن عسل في عهد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- حيث قدم صبيغٌ المدينة، وكانت عنده كتب يقرأ فيها، فجعل يسأل عن متشابه القرآن، فبلغ ذلك عمر -رضي الله عنه-، فبعث إليه وقد أعد له عراجين النخل، فلما دخل عليه جلس، فقال له عمر: مَن أنت؟ فقال: أنا عبدالله صبيغ، فقال له عمر: وأنا عبد الله عمر، ثم أهوى إليه فجعل يضربه بتلك العراجين، فما زال يضربه حتى شجّه، فجعل الدم يسيل على وجهه، فقال: حسبك يا أمير المؤمنين! فقد والله ذهب الذي كنت أجد في رأسي.
فقد شفي صبيغ من الشبهات بسبب الضرب وليس بسبب الحوار؛ لأن شبهاته ليست في محلها، فأصبح كلما عرض عليه قوم شبهة أعرض عنها، وقال: قد نفعني الله بموعظة الرجل الصالح.
وقد حكم الإمام الشافعي في أهل الأهواء والشبهات أن يضربوا بالجريد والنعال، ويُطَاف بهم في الأسواق، ولدينا في هذه البلاد كُتاب يحتاجون إلى عراجين عمر، ويشتاقون إلى درة الخطاب التي تشفي الرؤوس الحائرة، والقلوب الزائغة، وما تجرأ هؤلاء السوقة على دين الله -عز وجل- إلا بعد قرارَين رديئين، أحدهما يُخرج قضايا الإعلاميين من المحاكم الشرعية، والآخَر يلغي مباشرة المحاكم لقضايا الاحتساب.
ولم يبدأ التجني الواضح من بعض الكُتَّاب على الشريعة الإسلامية إلا بعد استثنائهم من المحاكم وإحالتهم إلى لجنة في وزارة الإعلام، حيث أصبحت وزارة الإعلام فيها الخصام وهي الخصم والحكم، وهي التي جنت على المجتمع في صحفها وإدارتها لمعارض الكتب وفتحها الأبواب على مصراعيها لكتب الزندقة والإلحاد والضلال، واحتكارها للنوادي الأدبية بيد العلمانيين.
وقد أدى الاحتفاء بالزنادقة والملحدين في صحفنا ووسائل إعلامنا، ونوادينا الأدبية، ومراكزنا الفكرية، وجوائزنا الثقافية إلى اغترار الشباب بهم، والقراءة لهم، حتى أصبح بعضهم فتنة لشبابنا، مع أن معيار الاحتفاء بهم عند وزارة الإعلام هو تخطي المحظورات الثلاثة وهي الجنس والدين والسياسة، فإذا كان الكاتب له سوابق في روايات الدعارة والقذارة، وتقحَّم حواجز الدين، وتخطي المقدسات، كان معيارًا واضحًا لأنْ يُكَرَّم وتفتح له الأعمدة في الصحف، ويستضاف في مهرجانات الثقافة والتراث.
وقد استضفنا وكرمنا في بلادنا أساطين الإلحاد، وفلول القومية والشيوعية واليسارية بحجة الثقافة، وكان هذا الاحتفاء رسالة بالغة الوضوح لشبابنا بأن يقتدوا بهم، ويقرؤوا لهم، حتى ضلوا بضلالهم.
ونحن نناشد ولات أمرنا الذين أناط الله بهم صيانة الفكر، وحراسة العقيدة، ورعاية الملة، ومراقبة الأفكار الوافدة، وبايعناهم على كتاب الله وسنة رسوله، أن يلتفتوا إلى الإعلام في بلادنا، فليس له في الإسلام مِن خَلاق، وهو يحارب هويتنا ومسلماتنا ومقدساتنا، ويحتكر مفاصل القرار في أناس لا يمثلون هوية البلد، ولا يدافعون عنها.
ونذكر ولاة أمرنا بأنه إذا اختُرق النطاق الفكري لأيِّ دولة، أو زُعزع أمنُها الفكري، أو فكِّكت منظوماتها القيمية، فإنها تفقد قوتها الناعمة، التي هي في الحقيقة مبدأ تماسكها وترابطها.
نسأل الله أن يصلح ديننا الذي هو عصمة أمرنا، اللهم أصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، والموت راحة لنا من كل شر.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم.
الحمد لله حمدا كثيرًا طيبًا.
أما بعد: فيا عباد الله،ـ لقد قال الله -عز وجل- عمَّن قالوا اتخذ الرحمن ولدًا: (لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا)، فكيف بمَن أنكر وجود الله -عز وجل- وشكك فيه، وقال عنه مقولات أنزِّه مسامعكم عنها.
وقد ذكرت والدة هذا الشاب الكاتب في صحيفة البلاد الذي ظلم نفسه وتجرأ على ربه ورسوله -عليه الصلاة والسلام- أن ولدها يقرأ في اليوم أكثر من ستِّ ساعات، وتقدَّم معنا أن صبيغًا عندما بدأ يشكك ويضرب المتشابه من القرآن ببعضه كان معه كتب يقرأ منها، وهذا يعطينا حقيقة مفادها أن القراءة ليست خيرًا محضًا ونفعًا مستمرًا؛ بل هي في الواقع سلاح ذو حدين، وهي نافعة جدًا إذا كانت موجهة للخير وباستشارة الموثوقين، وهي خطيرة جدًا إذا كانت لكلِّ مَن هَبَّ ودَبَّ، وتركزت على كتب المأفونين والمفتونين؛ لأنها تكون مصيبة عظيمة على عقل الإنسان في هذه الحالة.
والمرء حين يقرأ بعض ما كتبه أولئك الذين قد دونوا بعض زلاتهم وشطحاتهم قد يقع فيها من حيث لا يشعر، ويوضح ذلك ابن القيم رحمه الله حين تحدث عن الخوارج في قصيدته الكافية الشافية حيث قال:
يا مَن يظُنُّ بأنَّنا حِفنا عليـ *** ـهِمْ كتْبهم تنبيك عن ذا الشانِ
فانظُرْ ترى لكنْ نرى لك تركَها *** حذراً عليك مصائبَ الشيطانِ
فشباكها والله لم يعلَقْ بها *** مِن ذي جَناحٍ قاصرِ الطيران
إلَّا رأيت الطير في قفص الـردى *** يبكي له نَوْحٌ على الأغصان
ويظلُّ يخبط طالباً لِخَلاصِهِ *** فتضيق عنه فرجة العيـدان
والذنبُ ذنبُ الطيرِ خَلَّى أطيب الثـَّ *** ـمَراتِ في عالٍ من الأفنــان
وأتى إلى تلك المزابل يبتغي الـ *** ـفضلاتِ كالحشَراتِ والدِّيدانِ
يا قومِ والله العظيم نصيحةٌ *** مِن مُشْفِقٍ وأخٍ لكم مِعْوان
جربت هذا كله ووقعت في *** تلك الشباك وكنتُ ذا طيران
حتى أتاح لي الإله بفضله *** مَن ليس تجزيه يدي ولساني (يقصد ابن تيمية شيخه)
فاللهُ يَجْزِيهِ الذي هو أهله *** مِن جنة المأوى مع الرضوان
أخذت يداه يدي وسار فلم يرمْ *** حتى أراني مطلع الإيمان
ورأيت أعلام المدينة حولها *** نُزُلُ الهدى وعساكر القرآن
إنه يشبِّه حال هذا الذي يقرأ هذه الكتب بذاك الطير الذي يترك الثمرات العالية، ويأتي إلى أسفل الشجر؛ فقد يدخل في شباك فيحاول أن يخرج فيخفق، والطائر حين يدخل في الشباك ويخفق تزيد الشبكة التواءً عليه حتى لا يستطيع الطيران، فهذا حال مَن يقع في الشُّبَه، فهو يقع في شبهة من الشُّبَه ثم يبحث لها عن حل، ثم يقع في شُبهة أخرى ويبحث لها عن حَل، حتَّى يصبح غارقاً في الشبه، فلا يكاد يقرأ إلا وعرضت له شبهة، ولا يكاد يسأل إلا مورداً لشبهة.
وحين نقرأ تراجم أهل العلم نرى أن هناك مَن بلغ منزلة عالية في العلم والتحصيل، ومع ذلك وقع في بعض البدع، ووافق أهل البدع في بعض ما دعوا إليه، وحين يقع أولئك في بعض هذه البدع فهذا يدل على أننا - نحن الأقل منهم حظاً وتحصيلاً - عرضة أيضاً لأن نقع فيما وقعوا فيه، وقد كان السلف ينهون عن القراءة في كتب أهل الضلال، وكلام الحافظ ابن القيم -رحمه الله- خير شاهد ودليل على ذلك.
وإذا تأملنا في صفحات التاريخ، وجدناها تنقل لنا من حصافة الخليفة العباسي المهدي أنه تتبع الزنادقة, فجدّ في طلبهم, وتتبعهم في سائر الآفاق, واستحضرهم، وقتلهم صبراً بين يديه.
وفي الختام؛ ينبغي للإنسان ألَّا يأمن على نفسه أو ذريته الفتنة، حيث إن فتنة الشبهات أشد وأنكى من فتنة الشهوات، مما يحتم على كل مسلم منا أن يسأل الله -عز وجل- الهداية واليقين والثبات على الصراط المستقيم، وأن يبعد نفسه وذريته عن أسباب الشبهات، ويحذَر من الاعتماد على القدرات العقلية؛ لأن الشبه خطَّافةٌ، والسلامة لا يعدلها شيء.
نسأل الله السلامة والعافية في الدنيا والآخرة.
اللهم صَلِّ على محمد وعلى آل محمد...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي