مع الإخلاص والمخلصين

أمير بن محمد المدري
عناصر الخطبة
  1. الإخلاص هو حقيقة الدين ومفتاح دعوة الرسل .
  2. الإخلاص هو أساس قبول الأعمال وردها .
  3. للإخلاص ثمرات عظيمة .
  4. نظرة على أخبار المخلصين .
  5. صور من إخلاص السلف الصالح .
  6. شيء من عجائب المخلصين .

اقتباس

الإخلاص أن يكون العمل لله تعالى، لا نصيب لغير الله فيه. الإخلاص إفراد الحق سبحانه بالقصد في الطاعة. الإخلاص هو تصفية العمل عن ملاحظة المخلوقين. الإخلاص هو تصفية العمل من كل شائبة. الإخلاص نسيان رؤية الخلق بدوام النظر إلى الخالق ..

الحمد لله مُعزّ من أطاعه واتقاه، ومذلّ من خالف أمره وعصاه، قاهر الجبابرة وكاسر الأكاسرة، لا يذل من والاه ولا يعز من عاداه، ينصر من نصره ويغضب لغضبه ويرضى لرضاه، أحمده سبحانه وأشكره حمدًا وشكرًا يملآن أرضه وسماه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدة لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله وخيرته من خلقه ومصطفاه، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه والتابعين ولكل من نصره ووالاه.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) [النساء: 1].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) [الأحزاب: 70-71].

عباد الله: سنقف وإياكم مع الإخلاص والمخلصين.

الإخلاص -عباد الله- هو حقيقة الدين ومفتاح دعوة الرسل عليهم السلام.

قال تعالى: ( وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) [البينة: 5]، وقال تعالى: (أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ).

الإخلاص هو لُبّ العبادة وروحها، قال ابن حزم: "النية سر العبودية، وهي من الأعمال بمنزلة الروح من الجسد، ومحال أن يكون في العبودية عمل لا روح فيه، فهو جسد خراب".
والإخلاص هو أساس قبول الأعمال وردها، فهو الذي يؤدي إلى الفوز أو الخسران، وهو الطريق إلى الجنة أو إلى النار، فإن الإخلال به يؤدي إلى النار وتحقيقه يؤدي إلى الجنة.

الإخلاص أن يكون العمل لله تعالى، لا نصيب لغير الله فيه.
الإخلاص إفراد الحق سبحانه بالقصد في الطاعة.
الإخلاص هو تصفية العمل عن ملاحظة المخلوقين.
الإخلاص هو تصفية العمل من كل شائبة.
الإخلاص نسيان رؤية الخلق بدوام النظر إلى الخالق.

المخلص -عباد الله- هو الذي لا يبالي لو خرج كل قدر له في قلوب الناس من أجل صلاح قلبه مع الله عز وجل ، ولا يحب أن يطلع الناس على مثاقيل الذر من عمله.
المخلص عباد الله: هو من يكتم حسناته كما يكتم سيئاته.

وقال تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: ( قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَّهُ دِينِي ) [الزمر:14].
وقال تعالى: ( قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) [الأنعام162].

وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمِعت رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم- يقول: «إنما الأعمالُ بالنيات، وإنما لكلِّ امرئٍ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرتُه إلى الله ورسوله، ومن كانت هِجرتُه لدنيا يصيبُها أو امرأةٍ ينكِحها فهِجرته إلى ما هاجَر إليه» [رواه البخاري ومسلم].

وعن أبي كبشة عمرو بن سعدٍ الأنماريّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنما الدّنيا لأربعة نفَر: عبدٍ رزقه الله مالاً وعلمًا، فهو يتّقي اللهَ ويصِل فيه رَحِمه ويَعلَم لله فيه حقًّا، فهذا بأفضل المنازل، وعبدٍ رَزَقه الله علمًا ولم يرزُقه مالاً، فهو صادِق النية يقول: لو أنَّ لي مالاً لعمِلتُ بعمَل فلان، فهو نيّته فأجرهما سواء، وعبدٍ رزَقَه الله مالاً ولم يرزقه عِلمًا، فهو يخبِط في ماله بغيرِ عِلم، لا يتّقي فيه ربَّه ولا يصِل فيه رحِمه ولا يعلَم لله فيه حقًّا، فهذا بأخبَثِ المنازل، وعبد لم يرزقه الله مالاً ولا علمًا، فهو يقول: لو أنَّ لي مالاً لعمِلت فيه بعمل فلان، فهو نيّتُه فوِزرُهما سواء» [رواه الترمذي 2325 وصححه الألباني].

فتدبَّر -أيها المسلم- هذه الأعمالَ الصالحة التي أريد بها وجهُ الله والدار الآخرة، وكان الإخلاص روحَها ومبناها كيف صارَ صاحبُها منَ الفائزين المقرَّبين.

قال تعالى: ( الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ) [الملك: 2].
وقال تعالى: ( وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ) [هود:7].
وقال تعالى: ( إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ) [الكهف: 7].

قال ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره: "لم يقل: أكثر عملاً بل أحسن عملاً، ولا يكون العمَلُ حسنًا حتى يكون خالصًا لله عز وجل على شريعةِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، فمتى فقَد العمل واحدًا من هذين الشّرطين حبط وبطل".

وقال الفضيل بن عياض رحمه الله في تفسير: ( لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ): "أَخلَصُه وأصوَبُه، فإذا كان العمل خالصًا ولم يكُن صوابًا لم يُقبَل، وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يُقبَل، فلا بدّ أن يكون خالصًا صوابًا".

ثم قرأ قوله تعالى: ( فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً ) [الكهف: 110].

والذين يريدون وجه الله فليبشروا بالجزاء: ( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ) [الكهف:28].

وقال تعالى: ( ذَلِكَ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) [الروم: 38].

وأما أهل الرياء فإن الله ذمّهم وبيّن عاقبتهم فقال: ( مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ ) [هود: 15].

وقال تعالى: ( مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً ) [الإسراء18].

وقال جل شأنه: ( مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ ) [الشورى:20].

وقد مدح الله المخلصين فقال تعالى: ( لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً ) [النساء: 114].

عباد الله: إن للإخلاص ثمرات عظيمة:

فالإخلاص مصدر رزق عظيم للأجر وكسب الحسنات، قال -صلى الله عليه وسلم -: "إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أُجرت عليه حتى ما تجعل في فم امرأتك" [رواه البخاري].

الإخلاص ينجي من العذاب العظيم يوم الدين ،كما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن أول الناس يُقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد فأُتي به، فعرّفه نعمته فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استُشهدت، قال: كذبتَ ولكنك قاتلت ليُقال: جريء فقد قيل، ثم أُمر به فسُحب على وجهه حتى أُلقي في النار .


ورجل تعلم العلم وعلّمه وقرأ القرآن، فأُتي به يعرفه نعمه فعرفها، قال فما عملت؟ قال تعلمت العلم وعلمته، وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت ولكن تعلمت ليُقال عالم، وقرأت القرآن ليقال قارئ، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى أُلقي في النار.


ورجل وسّع الله عليه، وأعطاه من صنوف المال فأُتي به فعرّفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها لك ألا أنفقت فيه، قال: كذبت، ولكنك فعلت ليقال: جواد، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار
» [رواه مسلم].

وهذا الحديث كلما حدَّث به أبو هريرة رضي الله عنه كان يُغشى عليه من هوله، ويمسح وجهه بالماء حتى يستطيع التحديث به.

وقال صلى الله عليه وسلم: «من تعلم علماً مما يبتغى به وجه الله لم يتعلمه إلا ليصيب به عرض من عرض الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة» [رواه ابن ماجه] وقال صلى الله عليه وسلم: «من تعلّم العلم ليماري به السفهاء أو ليباهي به العلماء أو ليصرف به وجوه الناس إليه فهو في النار" [رواه الترمذي وضعفه الألباني في مشكاة المصابيح، رقم: «225»].

الإخلاص يريح أصحابه يوم يقول الله للمرائين: "اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون بأعمالكم في الدنيا، فانظروا هل تجدون عندهم جزاء".

الإخلاص ينجّي الإنسان من حرمان الأجر ونقصانه، ولذلك فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - جاءه رجل غزى يلتمس الأجر والذكر فقال: «لا شيء له» "ثلاثاً"، «إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصاً وابتُغي به وجهه».

وجاء رجل من أهل الشام فقال: يا رسول الله رجل يريد الجهاد في سبيل الله وهو يبتغي عرضاً من عرض الدنيا، فقال صلى الله عليه وسلم: «لا أجر له»، فأعظم ذلك الناس، فقالوا عد لرسول الله فلعلك لم تفهمه، فقال صلى الله عليه وسلم له : «لا أجر له».

قال صلى الله عليه وسلم: قال الله تعالى: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك؛ من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه» [صحيح مسلم «5300»].

الإخلاص يُعظِّم العمل الصغير حتى يصبح كالجبل، كما أن الرياء يحقّر العمل الكبير حتى لا يزن عند الله هباء، وقال تعالى: (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً) [الفرقان23].

وقال ابن المبارك رحمه الله تعالى: "رُب عملٍ صغير تُكبّره النية، ورُب عمل كبير تصغّره النية".
وجاء في الحديث العظيم الذي أخرجه الترمذي وحسنه والنسائي وابن حبان والحاكم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يُصاح برجل من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة، فينشر له تسعة وتسعون سجلاً، كل سجل منها مدّ البصر، ثم يقال: أتنكر من هذا شيئاً؟ أظلمك كتبتي الحافظون؟ فيقول: لا يا رب، فيقال: أفلك عذر أو حسنة فيها؟ فيقول الرجل: لا، فيقال: بلى إن لك عندنا حسنة، وإنه لا ظلم عليك اليوم، فيخرج له بطاقة فيها، أشهد ألا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، فيقول: يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات، فيقال: إنك لا تُظلم، فتوضع السجلات في كفة، والبطاقة في كفة فطاشت السجلات وثقلت البطاقة» [ابن ماجه 4300 وصححه الألباني].

الإخلاص -عباد الله- يقلب المباحات إلى عبادات فينال بها عالي الدرجات، قال أحد السلف: "إني لأستحب أن يكون لي في كل شيء نية حتى في أكلي ونومي ودخولي الخلاء".

بالإخلاص عباد الله: تُنفّس كروبنا، والدليل على ذلك حديث الثلاثة الذين حبستهم صخرة ففرّج الله همّهم، وقد كان يقول كل واحد منهم: «اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرّج عنا ما نحن فيه».

اللهم أخلص نياتنا، واجعل أعمالنا كلها صالحة، ولوجهك خالصة يا رب العالمين.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم..

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وإمام المتقين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد -أيها المسلمون- اسمعوا إلى أخبار المخلصين، وكونوا منهم؛ فإنهم في كنَفِ الله وحِفظِه ورِعايتِه وعِصمتِه، قد نجّاهم الله من مكائِدِ الشيطانِ وحَسرَة الخسران، وآواهم إلى حِزبِه المفلِحين، قال الله تعالى عن إبليس: (قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ) [الحجر: 39-40].

وقال تعالى: ( فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ )[ص:82-83].

وشرَط الله تعالى لتوبَةِ التائبين تحقيقَ الإخلاص في أعمالهم.
قال تعالى: (إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا ) [النساء:146].

وكتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعريّ: "من خلُصت نيّته كفاه الله ما بينه وما بين الناس".
وقال عليّ -رضي الله عنه- : "لا تهتمّوا لقِلّة العمل، واهتمّوا للقَبول".

وقال بعض العُبّاد: "إنَّ لله عبادًا عَقَلوا، فلمّا عَقَلوا عمِلوا، فلمّا عمِلوا أخلَصوا، فاستدعاهم الإخلاصُ إلى أبوابِ البرِّ جميعًا".

يقول الحسن البصري -رحمه الله تعالى- : "إن كان الرجل جمع القرآن ولما يشعر به الناس، وإن كان الرجل لينفق النفقة الكثيرة ولا يشعر الناس به، وإن كان الرجل ليصلي الصلاة الطويلة في بيته ولا يشعر الناس به، ولقد أدركت أقواماً ما كان على الأرض من عمل يقدرون أن يعملونه في السر فيكون علانية أبداً".

لقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء ولا يسمع لهم صوت إن كان إلا همساً بينهم وبين ربهم.
ومن عجائب المخلصين ما حصل لصاحب النفق، فقد حاصر المسلمون حصناً واشتد عليهم رمي الأعداء، فقام أحد المسلمين وحفر نفقاً فانتصر المسلمون، ولا يُعرَف من هو هذا الرجل، وأراد مَسْلَمَة قائد الجيش أن يعرف الرجل لمكافأته، ولمَّا لم يجده سأله بالله أن يأتيه، فأتاه طارق بليل وسأله شرطاً وهو أنه إذا أخبره من هو لا يبحث عنه بعد ذلك أبداً فعاهده، وكان مسلمة يدعو دائماً ويقول: "اللهم احشرني مع صاحب النفق".

يقول حماد بن زيد - رحمه الله تعالى -: "كان أيوب السختياني ربما حدّث بالحديث فيرقّ وتدمع عيناه، فيلتفت ويمتخط ويقول: ما أشد الزكام!!، فيظهر الزكام لإخفاء البكاء".

وقال الحسن البصري -رحمه الله تعالى-: "إن كان الرجل ليجلس المجلس فتجيئه عَبْرته فيردها فإذا خشي أن تسبقه قام وذهب وبكى في الخارج".

ويقول محمد بن واسع -رحمه الله تعالى-: "إن كان الرجل ليبكي عشرين سنة وامرأته لا تعلم".

وللإمام الماوردي قصة في الإخلاص في تصنيف الكتب، فقد ألف المؤلفات في التفسير والفقه وغير ذلك ولم يُظهر شيء في حياته، ولما دنت وفاته قال لشخص يثق به: الكتب التي في المكان الفلاني كلها تصنيفي، وإنما إذا عاينت الموت ووقعت في النزع فاجعل يدك في يدي، فإن قبضت عليها فاعلم أنه لم يقبل مني شيء فاعمد إليها وألقها في دجلة بالليل، وإذا بسطت يدي فاعلم أنها قُبلت مني وأني ظفرت بما أرجوه من النية الخالصة، فلما حضرته الوفاة بسط يده، فأُظهرت كتبه بعد ذلك.

وكان علي بن الحسن رحمه الله يحمل الدقيق والطعام بالليل على ظهره إلى بيوت الفقراء المساكين في ظلمة الليل، وكان الفقراء يعيشون لا يدرون من أين معاشهم، فلما مات عرفوا، ورأوا على ظهره آثاراً مما كان ينقله في ظلام الليل، فكان يعول مائة بيت.

تلك الأحوال والقصص أظهرها الله ليكون أصحابها أئمة (وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) [الفرقان:74].

وهكذا كان أحدهم يدخل في فراش زوجته فيخادعها فينسل لقيام الليل، وهكذا صام داود بن أبي هند أربعين سنين لا يعلم به أهله، فكان يأخذ إفطاره ويتصدق به على المساكين ويأتي على العشاء.

عن شداد رضي الله عنه أن رجلاً من الأعراب جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فآمن به واتبعه، ثم قال أهاجر معك؟ فأوصى به النبي -صلى الله عليه وسلم- بعض أصحابه، فلما كانت غزوةٌ، غنم النبي -صلى الله عليه وسلم- شيئاً، فقسم وقسم له، فأعطى أصحابه ما قسم له، وكان يرعى ظهرهم، فلما جاء دفعوه إليه، فقال: ما هذا؟ قالوا: قسمٌ قسمه لك النبي -صلى الله عليه وسلم- فأخذه، فجاء به إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: ما هذا؟ قال عليه الصلاة والسلام: «قسم قسمته لك» قال الأعرابي: ما على هذا اتبعتك، ولكني اتبعتك على أن أُرمى إلى ههنا وأشار إلى حلقه بسهم فأموت فأدخل الجنة، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إن تصدق الله يصدقك» فلبثوا قليلاً ثم نهضوا في قتال العدو، فأُتي به إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- يُحمل قد أصابه سهم حيث أشار، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أهو هو»؟ قالوا: نعم، قال: «صدق الله فصدقه» ثم كفّنه النبي -صلى الله عليه وسلم- في جبته، ثم قدمه فصلى عليه، فكان فيما ظهر من صلاته «اللهم هذا عبدك خرج مهاجراً في سبيلك، فقتل شهيداً، أنا شهيد على ذلك».

هذا هو المؤمن الصادق، أمّا أهل النفاق والرياء وحب الدنيا إنما يتقربون ويبايعون لأنفسهم ولمآربهم، نسوا الله فنسيهم، وأحبوا الدنيا فأعمى أبصارهم. [القصة ثابتة كما في صحيح الجامع رقم: «3756»].

اللهم ارزقنا الإخلاص في أقوالنا وأعمالنا، واجعلها خالصة لك، صواباً على سنة رسولك -صلى الله عليه وسلم -آمين، هذا وصلوا -عباد الله - على رسول الهدى فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: ( إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب:56]، اللهم صلِّ وسلّم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين.


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي