الشهداء

محمد الغزالي
عناصر الخطبة
  1. معنى الشهادة .
  2. ألوان من الاستشهاد .
  3. طبقات الشهداء .
  4. نماذج من الشهداء    .
  5. دوافع المسلم في الاستشهاد .
  6. وجوب الاحتفاء بالشهداء .

اقتباس

إن الشهداء هم سادة الحياة، وملوك الآخرة، وينبغي لأمتنا أن تعرف مَن قتلوا، ومن استشهدوا، وأن يكون عرفانها لهم لا تقديرا لأشخاصهم -مع أن التقدير واجب وفرض- ولكن ليعلم الباقون أن طريق الحياة والمجد هو في هذا المسلك! ..

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير.

وأشهد أن محمدا رسول الله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير. اللهم صَلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه والتابعين.

أما بعد: فإن فكرة الناس عن الموت غامضة، أو بتعبير دقيق: فكرة يكتنفها خطأ كثير. أغلب الناس يظن الموت فقدان الإحساس، وانتهاء الحياة، والدخول في أودية العدم، والتلاشي للذات الإنسانية؛ وكما تنفُق دابَّة من الدواب، ثم ترمى تحت أكوام التراب، لتتحول بعد قليل ترابا؛ أو كما تذبح بقرة، وتتوارى في بطون الآكلين، وتنتهي؛ كذلك ينتهي الناس بالموت!.

هذا ظن عدد كبير من الناس في الموت، وهو ظن يردد ظن الجاهلية الأولى، ويصور فهمها الشارد للحياة والموت معا، وهو فهم شاع في العصور الحديثة، لأن هذه العصور عبدت الحياة الدنيا، وأنكرت ما وراءها، ولذلك فهي تحسب المادة هي الحياة، وما وراء المادة وهماً!.

تفكير الناس في أن الموت نهاية الآلام هو الذي يجعل رجلا متألما ينتحر، لماذا؟ يتصور الأحمق أن الموت يحسم الوجود، ويقطع الألم، ولو أدرك أنه بالموت سوف يبقى حيا، وأنه بالموت ينتقل من مرحلة تمثل وجودا محدودا إلى مرحلة تمثل وجودا غير محدود لتريث كثيرا قبل أن يزهق روحه، وقبل أن يقتل نفسه.

لكن هذا التفكير المادي البحت غلب كثيرا من الناس، القرآن صور لنا الموت على أنه بدء الحياة، وفى حديث القرآن الكريم عن المجرمين وعن المؤمنين نسمع في كلا الموضعين أن الموت بدء الحياة، وبدء الحساب والثواب والعقاب.

اقرأ قوله تعالى في سورة الأنعام: (وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آَيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ) [الأنعام:93]. اليوم لا غدا. وفى قتلى المشركين يوم "بدر" يقول الله تعالى: (وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ * ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [الأنفال:50-51].

فهو يصور أن الملائكة وهى تنتزع أرواحهم تضربهم ظهرا لبطن، وتديرهم في سلسلة من العذاب ما يعرفها أو ما يحس بها إلا أولئك الناس، لأن هذا الذي يقع يتصل بالروح. وفى الحديث عن المؤمنين نقرأ قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا، وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) [فصلت:30].

يقول العلماء: إن الآية نزلت في المحتضرين من المؤمنين، فإن المحتضر، وإن كان مؤمنا، إلا أن الطبيعة البشرية فيها ضعف، فهو يتهيب العالم الذي وقف على بابه لا يدرى ما هو، وما كنهه، ثم يتخوف على ذريته أو أولاده أو أحبائه، لا يدرى ما حالهم بعده، فتتنزل الملائكة في هذه اللحظات القلقة لتقول للمؤمن وهو على أول منازل الآخرة وآخر مراحل الدنيا: لا تخف ولا تحزن، (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ) [فصلت:30-32].

وفى وصف المحتضر في أواخر سورة الواقعة آيات تشير إلى هذا: (فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ * فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ * فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ) [الواقعة:83-95].

قد تقول: فإذا كانت الحياة بعد الموت مباشرة نصيب المؤمنين والكافرين، فما معنى أن الشهداء أحياء عند ربهم؟ إذا كانت الحياة ستكون نصيب الجميع- مَن أُثِيب ومن عوقب- فما معنى أن الشهداء أحياء؟ والجواب: أن حياة الشهداء لها طراز خاص من التكريم الإلهي، ولها أوضاع آثرها الله بها.

وفى سورة آل عمران عند الحديث على قتلى "أحد" نجد القرآن الكريم يقول: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) [آل عمران:169]، العندية: مكانهم عند الله، هذا وصف خاص. يرزقون: هذا رزق خاص. (فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ) [آل عمران:170-171].

للشهداء مكانة خاصة، والفقه الإسلامي على أن الشهيد أرفع الناس درجة بعد الأنبياء والصديقين، وأن الشهادة درجة يرفع الله إليها من يتخير من عباده، فهي منحة وليست محنة، إذا أراد الله أن يرفع درجة إنسان اختاره شهيدا.

جاء رجل إلى الصلاة والنبي -صلى الله عليه وسلم- يصلي، فقال حين انتهى إلى الصف: اللهم آتني أفضل ما تؤتي عبادك الصالحين. فلما قضى النبي -صلى الله عليه وسلم- الصلاة قال: "من المتكلم آنفا؟" فقال الرجل: أنا يا رسول الله. قال: "إذا يعقر جوادك وتستشهد".

هذا أفضل ما يؤتيه الله عبدا صالحا، أن يقتل في سبيله، فالشهادة إذن مكانة خاصة لناس يريد الله أن يرفع درجتهم، ولذلك يقول الله في شهداء أحد: (وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ) [آل عمران:140].

لكن، مَن الشهيد الذي يستحق هذه الدرجة الرفيعة، وهذه المكانة السنية عند الله؟ من هو؟ أهو كل قتيل في معركة؟ لا. إن اليهودي الذي يقتل فوق الأرض العربية معتديا غاصبا يريد أن يطوي الرسالة المحمدية، وأن يجهز على التاريخ الإسلامي هذا القتيل كأي لص يسطو على بيت فيطلق عليه الرصاص فيذهب إلى النار، وبئس القرار! ليس كل قتيل في معركة يعتبر شهيدا.

وقد أوضحت السنة أن الشهداء لهم تعريف خاص، تتبعنا هذه التعريفات للشهداء فوجدنا أولها: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله ". من اعتنق الحق، وأخلص له، وضحى في سبيله، وبذل دمه ليروي شجرة الحق به، فهذا شهيد.

شهيد آخر هو الذي يأبى الدنية، ويرفض المذلة والهوان، فإن الله سبحانه وتعالى جعل العزة للمؤمنين، فإذا حاول أحد أن يستذلك فدافِع، إذا حاول أحد أن يجتاح حقك فقاوم. جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله! أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟ قال: "فلا تعطه مالك". قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: "قاتلة"، قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: "فأنت شهيد" قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: "هو في النار".

وجاء في السنن أيضا: " من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد ". فالمسلم ينبغي أن يتشبث بحقوقه، وأن يدافع عنها، وألا يجعل الدنية صفة له، بل ينبغي أن يحافظ على حقه الأدبي والمادي.

وليس معنى الحفاظ على الحق المادي والأدبي أن يكون الإنسان حريصا على الحياة، أو حريصا على الوجاهة في الدنيا، لا؛ ليس هذا هو المطلوب، وإنما حدث أن النبى -صلى الله عليه وسلم- قال للأنصار: "ستكون أثرة وأمور تنكرونها" قالوا: يا رسول الله! فما تأمرنا؟ قال: "تؤدون الحق الذي عليكم، وتسألون الله الذي لكم". ومعنى ستجدون أثرة بعدى: ستعيشون في مجتمع لا يعطيكم حقكم ولا مكانتكم.

ما معنى تؤدون الحق الذي عليكم؟ افرض أنى في مجتمع جائر، هل أخون؟ لا. أؤدي ما علي كاملا وأطلب من الله الأجر، وهو حسْبُ كل مؤمن ووكيله.

يلحق بالشهداء أيضا من مات حرقا، من مات غرقا، من مات مبطونا، من مات مطعونا. عددٌ من المصاير الفاجعة التي تصيب الناس، والأصل في هذا ما جاء في الحديث الشريف: "ما يصيب المسلم من نصب، ولا وصب، ولا همّ، ولا حزن، ولا أذى، ولا غم، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله بها من خطاياه". فإذا مات مؤمن في حادث من هذه الحوادث المحزنة المتعبة فهو يلحق عند الله بالشهداء!.

لكن هل الشهداء تستوى منازلهم عند الله؟ لا. وإن كانت الشهادة -فعلا- ختاما حسنا لحياة الإنسان، إلا أن الناس الذين استشهدوا درجات: (انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآَخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا) [الإسراء:21].

وفى حديث عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "الشهداء أربعة رجل: رجل مؤمن جيد الإيمان لقي العدو فصدق الله حتى قتل، فذاك الذي يرفع الناس إليه أعينهم يوم القيامة –هكذا، ورفع رأسه حتى وقعت قلنسوته. يقول الراوي: فلا أدرى قلنسوة عمر أراد أم قلنسوة النبي، صلى الله عليه وسلم- قال: ورجل مؤمن جيد الإيمان لقي العدو فكأنما ضرب جلده بشوك طلح من الجُبْن، أتاه سهم غرب فقتله، فهو في الدرجة الثانية؛ ورجل مؤمن خلط عملا صالحا وآخر سيئا، لقي العدو فصدق الله حتى قتل فذلك في الدرجة الثالثة؛ ورجل مؤمن أسرف على نفسه لقي العدو فصدق الله حتى قتل، فذلك في الدرجة الرابعة".

الناس درجات، والحساب الإلهي دقيق، والناقد بصير، فيجب أن ننقب في أنفسنا، وأن نعلم مَن نعامل.

الشهداء الذين ذهبوا إلى الله -على اختلاف أماكنهم ودرجاتهم- لهم نماذج في التاريخ القديم والحديث، وما أحوج الأمة الإسلامية إلى هذه النماذج! ما أحوجها أن تعرف من رجالها الكبار! ومن أبطالها الذين تأخذ منهم الأسوة! ذلك لأن أعداء الإسلام ما طمعوا فيه، ولا نالوا منه، ولا تجرؤوا عليه، إلا لأن أمتنا ثشبثت بالحياة على الأرض، وأخلدت إلى الهوى والشهوة، وقاتلت على الحطام الفاني، ونافست فيما لا وزن له عند الله.

يقول التاريخ: إن الدولة الفارسية برغم أنها هزمت في "القادسية" وسقطت عاصمتها بقيت تقاوم مقاومة عنيدة حتى خشي على بقاء الإسلام هناك، فدخل عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه- المسجد، وتفرس في الصفوف؛ ليختار قائدا من المصلين يبعث به إلى "فارس" فنظر فإذا "النعمان بن مقرن" -رضي الله عنه- يصلي، فذهب إليه و قال له: يا نعمان، أريد أن أستعملك في عمل. فقال له النعمان: إن كان جابيا فلا. أي: إن كنت تريد أن تبعثني لأجيء بمالٍ، فلا. فقال له: بل بعثتك لتقود جبهة المسلمين في فارس، فقال: نعم.

وذهب النعمان ليقود المعركة الحاسمة في "فارس"، المعركة التي أجهزت على النفوذ الفارسي تماما، وأخمدت أنفاسه إلى الأبد، وتسمى المعركة في التاريخ معركة "نهاوند". الرجل قبل أن يهجم قال للمسلمين: إني هازٌّ لوائي ثلاثا، وإني داعٍ فأمِّنوا، ودعا فقال: اللهم ارزق المسلمين نصرا، وارزقنى فيه الشهادة!.

الحقيقة أنى تأملت في المعركة واستغربت! يقول المؤرخون: إن المعركة بلغ من ضراوتها وكثرة ما سفك من دم فيها أن الخيل كانت تنزلق على الصخر من كثرة ما سفك من دم! وقاد النعمان بن مقرن المعركة، وأصيب بجرح قاتل وسقط، ولكنه سقط حيا، وقاد المعركة رجل آخر من المسلمين، وانتصر المسلمون، وجاء البشير إلى النعمان وهو جريح يقول له: انتهت المعركة. قال: على من الدائرة؟ قال: على أعداء الله. فحمِدَ اللهَ، ومات!.

انظر إلى الرجل القائد -خِرِّيج المسجد- الراكع الساجد، الرجل الذي أبى أن يذهب في منصب ينتظر أن يغنم منه شيئا، أو يفيد منه خيرا، واشترط على الخليفة عُمر -أول ما حدَّثه- ألَّا يذهب في منصب من هذه المناصب، ثم لما دعا -ناس كثيرون قد يفكرون في أن يعودوا إلى بلدهم ليجنوا ثمرة النصر الذي أحرزوه، تلتف حولهم الجماهير، يهتفون لهم، يهنئونهم، يضعون الألقاب وراء أسمائهم، النعمان احتقر هذا كله- طلب النصر للمسلمين، والشهادة للنعمان!.

ولذلك لما جاء البشير إلى عمر بن الخطاب بالنصر سأل عمر: ما فعل النعمان؟ قال: قتل، فخرج إلى الناس فنعاه إليهم على المنبر، ووضع يده على رأسه وبكى. هذا شهيد من قادتنا. شهيد آخر أحكى قصته، جاءني إمام مسجد "العريش" -وأنا رجل مسئول في المساجد- يقسم ويبكى يقول: عندما حاول اليهود دخول "العريش" وقف رجل- أظنه من "سوهاج" -أو من أي بلد هناك- وِقفةَ جبروت أمام طابور من الدبابات الصهيونية، وأبى أن يتركها تمر، وظل يقاومها نحو ثمان وأربعين ساعة حتى فني كل ما معه من ذخيرة، وأصيب بطلق ناري فمات مكانه! يقول الإمام -وهو يحلف ويبكى- إنهم جاؤوا إليه بعد يومين أو ثلاثة يطلبون جثته، فإذا هم يشمون منه رائحة العطر!.

حقيقة عندما أنظر إلى هذه البطولة أقول في نفسي: ضاعت هذه الرجولات، هي لم تضع عند الله، الرجل ذهب شهيدا، ونال مجد الدنيا والآخرة؛ ولكن الذي غاظني أن الخطط الغبية، والقيادات التافهة، الحقارات التي تولت أمرنا، أضاعت هذه البطولات سدى، ولم تحسن الانتفاع بها!.

فى سنة 1942 كنت إماما لمسجد "عزبان" في "العتبة الخضراء"، ورأيت شبابا مسلما خرج إلى فلسطين ليقاتل، واستطاع هذا الشباب أن يهاجم مستعمرة، وقتل ثمانية منهم، أو قتلوا جميعا. قال القائد الانكليزي وهو يرى جثثهم ويستغرب: لو معي جيش من هؤلاء لفتحت به الدنيا! إن "مصر" تنجب بطولات كثيرة، لكن على أساس جندي مؤمن وقائد مؤمن.

يوجد كثيرون من الشهداء الذين يشرفون تاريخنا الماضي والمعاصر على سواء، أولئك الشهداء نحب أن نوسع الدائرة التي تحيط بهم حتى نعرف، أعد من الشهداء المسلمين الذين يقاتلون الآن في "إرتيريا" لتبقى "إرتيريا" مسلمة توحد ربها، وتؤمن بنبيه محمد -صلى الله عليه وسلم-، وتقرأ القرآن، وهى تقاتل في وجه من يريد محو هذا كله!.

عددت من الشهداء ناسا قاوموا في جزيرة "زنجبار" قتل منهم ألوف وهزموا، ولكن المعارك ليست بخواتيمها القريبة، فإن الذين فتلوا هناك استماتوا في استبقاء الإسلام، وما يزال الإسلام باقيا في "زنجبار" وان كانت الضربات التي تناوشه عنيفة تجعله يترنح ويكاد يسقط!.

يوجد مسلمون الآن يحملون راية الإسلام في وجه تيارات تريد ألا يبقى للإسلام كتاب ولا سنة ولا وحي يتلى، ولا مسلك يُقتدى به، الذين يتمسكون بدينهم على هذا النحو ويقاتلون من أجله إنهم عندما يُقتلون يُقتلون شهداء.

إن الشهادة شيء ينبغي أن يقدر فعلا، لماذا؟ لأنها دلالة وفاء لمبدأ، واحترام لعقيدة، وافتداء لإيمان، كما قال أحد الشعراء قديما وهو يرثى شهيدأ مات:
وَقَدْ كَانَ فَوْتُ الموتِ سَهْلَاً فَرَدَّهُ *** إِلَيْهِ الِحفَاظُ المـُرُّ وَالخُلُقُ الوَعْرُ
تَرَدَّى ثِيَابَ الــمَوْتِ حُمْرَاً فَمَا أَتَى *** لها الليْلُ إلَّا وهْيَ منْ سُنْدُسٍ خُضْرُ

إن الشهداء هم سادة الحياة، وملوك الآخرة، وينبغي لأمتنا أن تعرف مَن قتلوا، ومن استشهدوا، وأن يكون عرفانها لهم لا تقديرا لأشخاصهم -مع أن التقدير واجب وفرض- ولكن ليعلم الباقون أن طريق الحياة والمجد هو في هذا المسلك!. قال أبو بكر -رضي الله عنه- لخالد بن الوليد -رضي الله عنه- وهو يبعثه مقاتلا: احرص على الموت توهب لك الحياة!.

هناك شيء لابد أن يذكر هنا، وهو أن الآجال ليس لها سبب مادي واضح يقربها أو يبعدها. افرض أن الشيطان قال لك: لو لم يخرج فلان إلى المعركة ما قُتل! ما الذي يضمن لك أنه لو كان ماشيا في شوارع "القاهرة" لم تدسه سيارة أو لم يصب بشيء ما يقضى عليه؟! وهذا معنى قوله تعالى: (قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ) [آل عمران:154]، انظروا إلى حادث الطائرة المنكوبة، ينجو اثنان فقط؟! لا شيء تستطع أن تجيب به إلا أن هذا قدر! لأن الجميع تعرضوا لأسباب التلف، الجميع خضعوا لمقدمات واحدة تجيء بنتيجة واحدة، فما الذي جعل هذين ينجوان، وأولئك يموتون؟.
والنَّاسُ يُلْحُونَ الطَّبِيبَ وَإِنَّمَا *** خَطَأُ الطَّبِيبِ إِصَابَةُ الأَقْدَارِ

إن إيمان الإنسان بأن الشهادة قدر، وأنها منزلة، وأن الأجل لا يحين بالتعرض للقتل، ولا يبعد بالفرار من الهلاك، هو الذي جعل عليا بنَ أبى طالب- رضي الله عنه- يقول:
أيّ يومَيَّ مِن الموْتِ أَفِرّْ *** يومَ لا يُقْدَرُ؟ أم يومَ قُدِرْ؟
يَوْمَ لا يُقْدَرُ لا أَحْذَرُهُ *** وَمِنَ المـَقْدُورِ لا يَنْجُو الحَذِرْ

بهذه الروح، الإيمان بالله الإيمان بالقدر، الإيمان بالجزاء الأخروي، الإيمان بالكتاب والسنة، بهذه الروح استطاع المسلمون أن يسودوا الدنيا قديما، وأن يحقوا الحق, و يبطلوا الباطل, ولو كره المجرمون.

أخيرا بدأنا نشعر بأن الشهداء يجب أن يحتفل بهم، إنني أعلم أن الروس -مثلا- لهم يوم يسمونه يوم الدم! تسمية رهيبة، لكنهم يريدون بهذا أن ينشروا الباطل، أو يساندوا ما لديهم من عقائد منحرفة بالتضحية، فإذا كان الناس يجعلون من أيامهم يوما للدم، فان المسلمين ينبغي -فعلا- أن يجعلوا من أيامهم أو من ذكرياتهم يوما للشهداء.

والشهداء هنا-كما أوضحنا- كل مؤمن بالله، صادق الايمان، صحيح العقيدة، وفي لربه، وأدى ما عليه، وحمى مقدساته، واستبقى الأرض بعده أرضا إسلامية يصيح المؤذن فوقها بكلمات التوحيد، وتكبير الله وتمجيده، يستبقي الأرض بعده أرضا إسلامية كما أسلمها إلينا عمر بن الخطاب وعمرو بن العاص -رضي الله عنهما-، نسلمها نحن لمن بعدنا أرضا إسلامية، وجْهُ الإسلام فوقها نضير، وتاريخه فوقها كبير. أولئك هم الشهداء، وأولئك الذين يجب أن نحتفل بذكراهم، وأن نعلم أولادنا تاريخهم، وأن تكون سيرهم أمام أعيننا.

قلت لنفسي يوما: أما يمكن أن تمثل رواية تظهر فيها بطولات للمسلمين في رد الغزو الصليبي؟ بطولات للمسلمين في كسر رأس الشرك الباغي الطاغي، بطولات للمسلمين في تطهير "فارس" من الحكم الوثني المجوسي الذي أذلها وقهرها، بطولات للمسلمين في تحرير الأرض المصرية والشمال الإفريقي كله؟!.

لكن يبدو أن المشتغلين بالفن لا يستطيعون هذا، إنهم عنصر طرى من الناس، يصلح للميوعة، يصلح لروايات الجنس، يصلح للتأوهات المريضة، ما يصلح للرجولة والبطولة!.

إن تاريخنا؛ لكي نبني على دعائمه رجالا، يجب أن يعرض العرض الصحيح، وأن يتصل الحاضر بالماضي تراثا وأصالة وتوجيها. ثم مرة أخرى: من بين الرُّكَّع السُّجود يُختار القادة الذين يطلبون ما عند الله، ويزدرون ما عند الناس!.

الخطبة الثانية:

الحمد لله (الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ) [الشورى:25-26].

وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين. وأشهد أن محمدا رسول الله، إمام الأنبياء، وسيد المصلحين. اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.

أما بعد: فإن نبينا -عليه الصلاة والسلام- كان إلى قبيل أن يلقى رب العالمين، كان يزور شهداء "أحد"، وكان يدعو للشهداء.

نحن سنصلى صلاة الغائب، وقد سألني بعض الناس: ما صلاة الغائب؟ الصلاة أربع تكبيرات، بعد التكبيرة الأولى اقرأ الفاتحة، بعد التكبيرة الثانية صلِّ على سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، بعد التكبيرة الثالثة ادع للميت بأي دعاء تحفظه، بعد التكبيرة الرابعة السلام. صلاة الجنازة أو صلاة الغائب خفيفة لا شيء فيها.

أوجه النظر إلى شيء آخر: إن الحكومة مشكورة تحارب الشيوعية، ولكننا نحن الذين ندرى أساليب الفكر الشيوعي ودسائسه وكيف يلتف علينا "كالأخطبوط" من حيث لا ندرى، ولذلك فإني أوجه النظر إلى أن الحكومة -مشكورة- ألغت حفلات الصباح في السينما، لماذا؟ لأن الطلاب كانوا " يُزَوِّغُون " ليحضروا الأحفال! الآن التفكير الشيوعى أن تعود الأحفال الصباحية، فلنوجه النظر إلى خطورة هذا التفكير.

هناك عبارات مسمومة، في "أهرام" اليوم، قرأت لكاتب شيوعي أن الطائفية في "سوريا " أحدثت هيجانا ضد الدستور المقترح، هذا تعبير مسموم. إن الدستور الذي اقترح على "سوريا" كان مستبعدا منه النص على أن الإسلام دين الدولة.

وغضب المسلمون، ومن حقهم أن يغضبوا، وبلغني أن رئيس الدولة نزل على رأى جمهرة المسلمين، وقرر أن يكون الإسلام دين الدولة في الدستور. فالقول بأن هذا طائفية هذا تعبير شيوعي.

إنه إرغام 93% من العرب على ترك الإسلام! فإذا قالوا: نبقي على الإسلام، قال مأفون أحمر إن هذه طائفية؟! هذا كلام أبحث في جيوب قائليه لأجد مالا إما من "أمربكا" أو "روسيا" أو "الصين"!. هؤلاء أجراء، عملاء ضد الإسلام وضد أمته. أريد أن نصحو لهذه الدسائس، فنحن أغنياء عن الكفر، نحن زاهدون في الضلال، نحن نريد أن نعود لربنا وكتابنا وديننا، ولا نريد نصوصا محنطة.

نريد نصوصا حية عاملة تمكن من أن تنتشر في المجتمع، وأن تطبق على الناس. الشيء الأخير هو: أن الذين يؤملون في الألوف من رواد مسجد "عمرو بن العاص"- رضي الله عنه- جاءوا يذكروننا بأن مسجد "النور" في "العباسية" يحتاج إلى عون. المسجد جمع له الكثير، ولكن لابد في هذه البقعة من مسجد يمثل الحضارة الإسلامية.

"اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر".

(رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [الحشر:10].

(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل:90].


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي