أنا رجل ممن يشتغلون بالكلام في الإسلام، ويعلم الله أن الكلام عندي ليس هواية ولكنه واجب أقوم به، لكنى ألحظ أن المسلمين جعلوا من الكلام في الإسلام عملا لهم، وهذا شيء لا يصلح به أمر ديننا؛ التاجر لا يخدم الإسلام بالكلام، الطبيب لا يخدم الإسلام بالكلام، المهندس لا يخدم الإسلام بالكلام، قد يكون عمل هؤلاء في ميادينهم أكثر مثوبة عند الله وأرجح في موازين الصالحات من خطبة بليغة يلقيها مثلي ..
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. وأشهد أن محمدا رسول الله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير. اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.
أما بعد: فقد شرحنا -في الجمعة الماضية- أن خلود الإسلام وعمومه يفرضان أن تكون معجزته خالدة تصنع الإيمان على امتداد الزمان والمكان، وأن القرآن الكريم هو المعجزة الباقية التي لا تزال تزكى الإنسانية، وتصقل معدنها، وترفع مستواها، وتقودها -على بصيرة- إلى الله رب العالمين.
ومع ذلك فإن ناسا تطلعوا إلى معجزات حسية، وطلبوا خوارق عادات من النوع الذي جرى مثله على أيدي الأنبياء السابقين: (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آَيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا) [الأنعام:109]، ولكن رب العالمين لم يجب هؤلاء إلى ما يطلبون، لأن مهمة الدين ليس تجميد الطفولة العقلية لبعض الناس، ولا السير مع جماعة من المنكرين والمعاندين الذين لا يجدي شيء في إقناعهم، بل وظيفة الدين أن يربى الناس بتفتيق عقولهم، وتهذيب طباعهم، والاستعلاء بغرائزهم، حتى يكونوا ربانيين حقا. وقد أجاب القرآن هؤلاء المقترحين أو طلاب الخوارق الحسية قائلا: (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [العنكبوت:51].
ومع ذلك فإن بعض الناس يتساءل -ومن حقه أن يتساءل- وما المانع أن تساق لهم الخوارق التي اقترحوها، والمعجزات المادية التي طلبوها؟ والجواب: أن أسلافهم طلبوا هذه الخوارق، فلما أجيبوا إليها كفروا بها، فكان كفرهم بها سببا في عذاب الاستئصال الذي نزل بهم فلم يُبق منهم شيئا؛ والله عز وجل يعلم من طبيعة المشركين في مكة أن خوارق العادات لو تنزلت عليهم ما آمنوا بها؛ لأن عنادهم بلغ حدا غريبا، أليس من العجب أن يبلغ العناد -بأصحابه- الحد حتى يقولوا: (اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) [الأنفال:32].
هل يدعو عاقل بهذا الدعاء؟ العاقل يقول: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا إليه، ووفقنا إلى اتباع صاحبه، والسير معه. أما أن يبلغ الحقد على صاحب الرسالة وعلى الحق الذي جاء به أن يقول القائل: (اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) فيدل على أن هؤلاء قوم أفقدهم العناد عقولهم، وكما قال -جل شأنه-: (وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ) [الحجر:14].
وقد حدث -قديما- أن طلبت ثمود معجزة تجعلها تؤمن بنبيها صالح، وخُلقت لهم ناقة من العدم، وقيل لهم: الناقة عندكم تشهد لصاحبها بالنبوة. ولكن هيهات!: (وَآَتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا) [الإسراء:59]، كيف؟ قال تعالى: (إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ * وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ * فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ * فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ * إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ) [القمر:27-31].
أصبحوا كالهشيم الذي يكون في حظيرة دهستها الأقدام فلم تُبق لها معلما، هذا هو السبب في أن ربَّ العالمين لم يعط هؤلاء طلباتهم، لكن؛ حتى تنقطع الألسنة المعاندة، وحتى لا يقال: إن محمدا لم يسلح بما سلح به الأنبياء السابقون من خوارق حسية، أجرى الله خوارق حسية على يد نبيه -محمد صلى الله عليه وسلم- من النوع الذي يقهر أهل العناد على الإيمان، ولكنه لم يرتب على هذه الخوارق الحسية ما ترتب على الخوارق الأولى عندما كذب بها أصحابها.
بمعنى أنه أرى الناس أن محمدا موصول بالسماء، وأن سنن الله الكونية يمكن أن تلين له، وأن خوارق العادات يمكن أن تقع على يده؛ ولكن معجزته الكبرى ليست هذه، معجزته الأولى هذا الكتاب الذي جاء يفتح العقول، ويصقل المعادن، ويرفع المستويات.
لكن مع هذا حدث جفاف كاد الناس يهلكون معه، والجفاف يقع في الإنسانية باستمرار، من عشر سنين هلك نحو مليون شخص في شرق أفريقيا من الجفاف، والآن يوجد جفاف في ظل الحكومات الشيوعية في "الصومال" وهي حكومة عربية كافرة- للأسف- قتلت نحو عشرة من العلماء حرقا لأنهم طلبوا الحكم بما أنزل الله، ولا تزال الحكومة التي فعلت ذلك قائمة! ليكن، أصيبت بالجفاف، والجفاف مصيبة.
لما وقع على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذهب الناس إلى صاحب الرسالة يطلبون منه الإنقاذ، وفعلا طلب صاحب الرسالة -وهو على منبره- من ربه أن ينزل الغيث، فنزل الغيث أسبوعا متكاملا، حتى جاء الطالبون يقولون له: الماء زاد، كاد يأتي علينا، فإذا هو -على منبره- يطلب من الله: "اللهم! حوالينا ولا علينا"، وكلما أرسل ذراعه يمينا أو شمالا كانت الأشعة كأنها طوع أصابعه تبدد السحب، وتنكشف الآفاق، ويذهب المطر! أليست هذه معجزة؟ هي معجزة بيقين، وعرفها الناس أنها خارقة من خوارق العادات.
من خوارق العادات أن إناء محدودا فيه قليل من الحبوب واللحوم لا يكفي إلا أسرة من أشخاص تعد على الأصابع أكل منه جيش وشبع، ولا تزال البُرمة تفور، والحبوب تزيد، واللحوم تتصل! ممكن جدا أن تكثر هذه المعجزات، ولكن، كما قيل، هذه خوارق أيَّد الله بها نبيه -صلى الله عليه وسلم-، ولكن لم يعطها المكانة الأولى في الشهادة له بالنبوة، لأن الشهادة له بالنبوة وتصديق الرسالة جاءت على النحو الذي يليق برسالة عامة خالدة.
وإذا كانت المعجزة تورث أصحابها -الذين رأوها- يقينا فإن هذا القرآن لا يزال -كما قلنا- يصنع اليقين، ويؤكد أن الإسلام هو الحق الفذ إلى يوم الدين. ووسيلة القرآن في هذا أنه -كما قلنا- يقول للإنسان: لست إنسانا إلا بعقلك، ولست إنسانا إلا بخلقك، ومهمة هذا القرآن أن يفتح عقلك فلا يظلم، وأن يفتح قلبك فلا يسفّ ويهبط.
ونختار الآن عدة نماذج تشهد لما نقول، وتبين أن كتابنا جاء ليفجر الطاقة الإنسانية في الناس، وليصحح نظرتهم إلى الأمور، وليجعل لهم منطقا سديدا يعرفون به الحق، ويبتعدون به عن الظنون والأوهام؛ ثم هو دين يقوم علي تصحيح القلب الإنساني، وإبعاد الشهوات عنه، وما يتم ذلك إلا بأنواع من الرغبة والرهبة، والخوف والرجاء، والوعد والوعيد. يقول الله تعالى في سورة البقرة: (وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ) [البقرة:163].
هذا كلام تضمن قضية من القضايا هي أن الله واحد، ليس ثلاثة كما يقول بعض المنحرفين، وليس أكثر أو أقل، لا، هو واحد، وما عداه عبد له، خاضع لحكمه، طوع إرادته، لا يمكن إلا أن يذل في ساحته وأن يخضع لأمره ونهيه! ما الدليل على هذا؟ الآية التي تليها: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) [البقرة:164].
فإذا عرفت بعقلك أن الأرض والسماء وما بينهما من خلق الله، وأن هذا الملكوت المبدع يدل على بديع السموات والأرض، وأن هذه القوانين المحكمة تدل على إرادة شاملة، وحكمة دقيقة، وأن الكون فعلا له خالقه الذي ينبغي أن نسبح بحمده، وأن نعترف بمجده، وأن نشكر له عطاءه ورفده، إذا عرفت هذا؛ فما تكون علاقتك به؟ إن المشركين أحبوا أصنامهم، وإن الضالين استراحوا إلى ضلالهم، فماذا تكون علاقة المسلم بربه؟ ينبغي أن يكون أقوى عاطفة، وأعظم حبا، واكز تضحية، وأشد ولاء لربه من كل ولاء، أو عاطفة، أو حب، أو علاقة تربط الآخرين بما يعبدون؛ ولهذا قال الله مباشرة بعد هذه الآية: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) [البقرة:165].
على هذا النحو يقيم الإسلام قلبا مفعما بمحبة رب العالمين، بعد أن شرح العقل بمعرفة الله، وأسمائه الحسنى، وصفاته العلا؛ فالقضايا تساق ومعها أدلتها وآثارها. خذ مثلا آخَر من أول سورة الحج: البعث حق، وهذا الكون لابد أن ينتهي إلى أجله، وكما يتحلل جسد الإنسان عند مجيء الأجل فإن لهذا العالم أجلا ينتهي عنده كذلك، ويبدأ الانتهاء بصيحة البعث، وانتشار الزلازل وهذا الدمار الذي يغزو كل شيء في الأرض والسماء: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ) [الحج:1-2].
لكن هذا الكلام خبر، فما دليله؟ ما الذي يجعلنا نصدقه؟ يقول الله تعالى بعد هذا مباشرة: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفي وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا) [الحج:5].
ما دخل البشر في هذه الأطوار كلها؟ البشر لا يصنعون شيئا، لا قطرات المني، ولا العلقة، ولا المضغة، ولا الطفل وهو كيان هلامي، ولا بعد تصوير أجهزته من سمع وبصر، ولا بعد كسوة العظام لحما، ليس لبشر مدخل في هذا. وقد استمعنا يوما إلى بعض الصحفيين المخبولين الذين قالوا: إن الإنسان يصنع في الأنابيب! الرواية على هذا النحو نوع من الخبل، أو التضليل، أو حيل الحواة؛ فإن النطفة التي أُخذت من الرجل صنعها الله، والبويضة التي أُخذت من المرأة صنعها الله!.
ماذا صنع الطبيب؟ قرب الالتقاء -في الأنبوبة- بين الاثنين لمدة أربع وعشرين ساعة، أو ثمان وأربعين ساعة، ثم يعود هذا الكائن إلى الرحم مرة أخرى ليتكون فيه، ويأخذ أطوار التخلق السبعة التي حكاها القرآن، كل ما صنعه الطبيب أنه قرب التقاء الحيوان المنوي بالبويضة لأن الرجل ضعيف أو لأن بويضة المرأة ضعيفة، هذا هو الذي صنعه، وبإلهام الله له صنعه، وما خلق شيئا قط!.
وإذا كان تكثير العجول أو تكثير الدجاج -الآن- يقع في بعض مزارع الدجاج أو مزارع العجول، فهل هذا صنع لبشر؟ أم أن أصل التخلق و الإشراف على الخلق من واهب الخلق جل شأنه؟! بعد ذلك يجيء دليل آخر: (وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) [الحج:5]؛ النتيجة ماذا؟ (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَأَنَّ السَّاعَةَ آَتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ) [الحج:6-7]. أترى هذا المنطق العقلي؟ معجزة تصنع الإيمان إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها!.
وأنا أقرأ السيرة رأيت ما جعلني أتوقف وأتأمل، فقد كان لقريش -بعد غزوة بدر- سبعون أسيرا في المدينة، أرسلوا مفاوضا عنهم اسمه "جبير بن مطعم" لكي يدفع الفدية ويرد الأسرى، قال الرجل: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقرأ في صلاة المغرب بالطور -وذلك قبل إسلامه حين جاء إلى المدينة ليكلم النبي -صلى الله عليه وسلم- في أسارى بدر- قال: فلما بلغ هذه الآية (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَا يُوقِنُونَ * أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ) [الطور:35-37]، كاد قلبي أن يطير.
الرجل تأثر بهذه التلاوة، وقد بدا لي أن أتدبر السورة، وجئت عند الآيات التي قال: إنها كادت تُطير قلبه، وبدأت أدرس فوجدت -فعلا- أن هذه الآيات تضمنت خمسة عشر استفهاما أو كلمة "أم" وهي تعنى تحريك المعنى بحيث يضرب الإنسان عما قبله ويستفهم بما بعده، هذا وضع الكلمة البلاغي في اللغة العربية، وبدأت أقرأ: (فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ) [الطور:29].
التدين في الإسلام ليس كهانة، ممكن لبعض ذوى الألاعيب والشهوات أن يشتغلوا كُهَّانا ويضحكوا على شعوبٍ وعلى رؤساء دول، ممكن جدا للكهان -وما أكثرهم في تاريخ الدنيا!- أن يخدعوا الجماهير، لكن نبي الاسلام -صلى الله عليه وسلم- ليس كاهنا، نبي الإسلام صاحب منطق راشد، وصاحب سياسة حكيمة، نبي الإسلام -كما قلت- فجر الطاقة الإنسانية للبشر، وقال: إنما يتبعني أولو الألباب، إنما يتبعني من يحترمون عقولهم، لا كهانة هنا، ليس هنا إلا الفطرة الإنسانية السليمة!.
(فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ * أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ * قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ * أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ * أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ * فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ * أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَا يُوقِنُونَ * أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ * أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ * أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ * أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ *أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ * أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ * أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) [الطور:29-43].
خمس عشرة مرة تتكرر الكلمة، ويشعر الإنسان بأنه أمام كل جملة يمكن أن يتوقف ليشرح، ونكتفي -الآن فقط- بشرح ثلاث كلمات. قال تعالى: (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ) هل العدم يخلق شيئا؟ هل الصفر يوجد شيئا؟ أبدا! (أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ) هل خلق الإنسان نفسه؟ هل خلقه أبوه؟ هل خلقته أمه؟ هل أشرف الأبوان على تكوين الجنين خلال المراحل السبع التي يمر بها؟ لا. (أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ؟ بَل لَا يُوقِنُونَ).
الفطرة البشرية التي أيقظها الإسلام في هذا المجال تجعل الإنسان يذكر -من باب ضرب الأمثال والتذكير بالوقائع- حادثتين حدثتا في العالم الشيوعي... عندما كان "بريجنيف" الرئيس السوفيتي يفاوض "كارتر" الرئيس الأمريكي، كان هناك إلحاح من الروس على إمضاء المعاهدة، وإذا الرجل يقول لكارتر: إن الله لن يغفر لنا تأخيرنا في إمضاء هذه المعاهدة!.
الفطرة نطقت على لسان ملحد كفور، وغضب الحزب الشيوعي في روسيا أشد الغضب لهذا الكلام ثم عدل العبارة لتنشر في الصحف بعد ذلك على هذا النحو: إن الأجيال القادمة لن تغفر لنا تأخيرنا في إمضاء المعاهدة! وتواصوا مرة أخرى على الكفر بالله، وإنكار صوت الفطرة.
الحادثة الثانية: في أول غزو للفضاء أحس الرجل في مركبته الفضائية أن الأرض تسبح في الجو وحدها، فأنطقته الفطرة قائلا: من يحملها في هذا المكان؟! والجواب الذي قاله القرآن هو: (إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا) [فاطر:41].
الحمد لله (الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ) [الشورى:25-26]. وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدا رسول الله إمام النبيين، وسيد المصلحين. اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين، أما بعد: عباد الله! أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل.
أيها الأخوة: أنا رجل ممن يشتغلون بالكلام في الإسلام، ويعلم الله أن الكلام عندي ليس هواية ولكنه واجب أقوم به، لكنى ألحظ أن المسلمين جعلوا من الكلام في الإسلام عملا لهم، وهذا شيء لا يصلح به أمر ديننا؛ التاجر لا يخدم الإسلام بالكلام، الطبيب لا يخدم الإسلام بالكلام، المهندس لا يخدم الإسلام بالكلام، قد يكون عمل هؤلاء في ميادينهم أكثر مثوبة عند الله وأرجح في موازين الصالحات من خطبة بليغة يلقيها مثلي! العمل أهم في خدمة الإسلام -الآن- من كلام كثير يتسلى المسلمون بسماعه، أنا لاحظت أن أعداءنا يقل كلامهم، ويكثر عملهم في السر والعلن، ونحن أمة مطالبة أن تخدم دينها -الآن- بالعمل السديد، والخطط المدروسة.
"اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر".
(رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [الحشر:10].
عباد الله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهي عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل:90].
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي