إلى المسجد

محمد الغزالي
عناصر الخطبة
  1. المسجد محضن التربية والتزكية .
  2. الناحية النفسية للصلاة .
  3. الدور الاجتماعي للصلاة .
  4. حال المساجد اليوم .
  5. النصر يتم بالعودة للمسجد .

اقتباس

إن المساجد منذ نشأت كانت مصانع للرجال، وقد لاحظنا أنه يوم هجم الاستعمار العالمي على بلاد الإسلام، واستطاع أن يحتل فلسطين، لاحظنا أنه في الوقت الذي نجح فيه عسكرياً في غزوه، كان مستميتاً من الناحية الثقافية والاجتماعية أن يسحب الإسلام من ميدان المقاومة، وأن يجعل العرب المحروبين المهزومين لا يلتقون في المساجد لقاءً نافعاً، ولا يتجمعون في دنيا الناس تجمعاً حراً..

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير.

وأشهد أن محمداً رسول الله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير. اللهم صل? وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.

أما بعد: فإننا نَلْحَظُ أن النبي، -صلى الله عليه وسلم-، أولَ ما هاجر إلى المدينة كان شغله الأول أن يبني المسجد، وأن يَصُف? المؤمنين فيه، وأن يلتقي بهم من غبش الفجر إلى العشاء، وأن يقرأ القرآن عليهم في صلوات الجهر، وأن يجعل المسجد مَحْضِناً للرجال، ومَصْنعاً للأبطال.

والحقيقة أن المسجد هو روح المجتمع الإسلامي الأول، وأن الرجال الذين يُرَبَّوْنَ فيه هم الذين يبنون النهضات، ويصنعون الحضارات، ويُكَوِّنونَ أرقى المجتمعات.

إن المَصْنَعَ نوعان: مصنع للسلع والأسلحة، والمسجد مصنع للرجال؛ وكل أمة ليست لديها مصانع للرجال فإن الأسلحة مهما تكاثرت في أيديها لا تُغني عنها لا قليلاً ولا كثيراً.

كان المسلمون في مكة يُصلون، والصلاة شُرعت أول الأمر مَثنى مَثنى، ثم أصبحت بعد ليلة الإسراء على النحو الذي نؤديه الآن خمس صلوات، منها ثلاث صلوات رباعية، وواحدة ثلاثية، وواحدة ثنائية.

كان المسلمون في مكة يُصلون، ولكن لم يكن في مكة أذان؛ لأنه فُرض على الحق أن يكون خفيض الصوت، ضعيف النبرات، ولم تكن هناك صلوات جامعة في مسجد يقيم المسلمون فيه شعائرهم، لأنه محرم على الحق أن يحتشد الناس باسمه، وأن يلتقوا تحت رايته؛ فكان أول ما اهتم به النبي -صلى الله عليه وسلم- أن أقام المسجد في المدينة، لماذا؟ لأن الناس الطيبين يوم يَكونون فرادى، ويكون كل منهم منطوياً على نفسه، بعيدا عن أخيه، فإنهم لا ينجحون في مقاومة الباطل المتجمع، والضلال المحتشد؛ لا يستطيع الحق الممزع الصفوف، الممزق القوى، أن يواجه باطلاً متماسكاً متحداً.

وقد اتحد الضلال على المسلمين الأوائل، فلم يكن بُدٌّ من صب المجتمع الإسلامي في المدينة على أن يكون صفوفاً متراصة، وجماعةً تلتقي في الصباح والأصيل باسم الله، تُنادى باسمه، وتركع له وتسجد، فيكون من هذا التجمع الشيء الكثير.

إن المساجد منذ نشأت كانت مصانع للرجال، وقد لاحظنا أنه يوم هجم الاستعمار العالمي على بلاد الإسلام، واستطاع أن يحتل فلسطين، لاحظنا أنه في الوقت الذي نجح فيه عسكرياً في غزوه، كان مستميتاً من الناحية الثقافية والاجتماعية أن يسحب الإسلام من ميدان المقاومة، وأن يجعل العرب المحروبين المهزومين لا يلتقون في المساجد لقاءً نافعاً، ولا يتجمعون في دنيا الناس تجمعاً حراً؛ لكي ينجح في بلوغ أهدافه، لابد أن يمنع الدين من أن يكون في جبهة المقاومة، وذاك ما حدث؛ فالمساجد أصبحت صوراً، وأصبح الكلام الذي يُلقى فيها ميتاً، واستمات أجراء الاستعمار في شتى الميادين أن يرفضوا أي تَجَمُّعٍ للإسلام في بلاده، وبذلك استطاع اليهود أن يَضربوا دون أن يُضربوا، وأن يَظلموا وهم آمنون من العقوبة، وأن يتبجحوا وهم يدركون أنَّ الثأر منهم والإِعداد لهم، ما دام بعيداً عن الإسلام، فلا قيمة له.

بدأ المسجد يُكَوِّن الرجال، لم يكن المسجد الذي أقامه النبي -صلى الله عليه وسلم- فخماً أو مزخرفاً، كان مسجداً في بنائه سذاجة، مفروشاً بالرمل، مسقوفاً بسعف النخيل، أعمدته جذوع النخل، ولكن هذا المسجد المبسط هو الذي بنى الرجال، وخرَّج الأبطال، لماذا؟.

أولاً: لأن استماع الناس إلى صوت نبيهم -صلى الله عليه وسلم- وهو يقرأ القرآن يربيهم به، ويتعهدهم بهداياته، ويجمعهم على أضوائه خمس مرات كل يوم؛ شحنهم بقوى روحية وأدبية وحماسية جعلت المسلم عندما اصطدم بالأنظمة الباطلة في دنيا الناس كان كأنه زلزال صدَعها، أو بركان حرَقها.

ما تَماسَكَ الباطل أمام الإسلام؛ لأن المسلمين كانوا يقاتلون، وكأنما كانت أقدار الله في صفوفهم، وحركات التحول الحاسمة في التاريخ إلى جنبهم. يقول عبد الله بن رواحة -رضي الله عنه- وهو يتحدث عن صلاة الرسول -صلى الله عليه وسلم- في المسجد:
وَفِينَا رَسُولُ اللهِ يَتْلُو كِتَابَهُ *** إذا انْشَقَّ مَعْرُوفٌ مِنَ الفَجْرِ سَاطِعُ
أرَانا الهُدَى بَعْدَ العَمَى فَقُلُوبُنا *** بِهِ مُوقِنَاتٌ أنَّ مَا قالَ واقِعُ
يَبيتُ يُجافِي جَنْبَهُ عَنْ فِراشِهِ *** إذا اسْتَثْقَلَتْ بالمشْركِين المضَاجِعُ

و عبد الله الذي قال هذه الأبيات هو الذي يَرُدُّ على من شيعوه بالسلامة وهو ذاهب إلى القتال؛ استكثر أن يقال له: تعود إلينا بالسلامة! فقال:
لكنَّني أسْألُ الرَّحْمنَ مَغْفِرَةً *** وَضَرْبَةً ذاتَ فَرْعٍ تَقْذِفُ الزَّبَدَا
أوْ طَعْنَةً بِيَدَيْ حَرَّانَ مُجْهِزَةً *** بِحَرْبَةٍ تنْفُذُ الأحْشَاءَ والكَبِدَا
حتَّى يقولوا إذا مرُّوا على جَدَثِي *** يَا أرْشَدَ اللهُ مِنْ غَازٍ! وَقَدْ رَشَدَا
في هذا المسجد تكوَّن الأبطال صباحاً ومساءً.

تتبعتُ الصلاة في نواحيها الفردية وفي نواحيها الاجتماعية، فوجدت نفسي مأخوذاً أمام بعض المرويات.

فعن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه -رضي الله عنه- قال: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقرأ في المغرب بالطور، فلما بلغ هذه الآية: (أم خُلقوا من غير شيء أم هم الخالقون. أم خَلقوا السماوات والأرض بل لا يوقنون. أم عندهم خزائن ربك أم هم المصيطرون). كاد قلبي أن يطير. رواه البخاري.

الصوت الخاشع في المحراب الجليل يرتل الوحي المبارك يناجى به رب العالمين، وتنساب أصداؤه في أفئدة الخاشعين خلفه، فإذا هي تجعل القلوب تكاد تطير. قلت: أنْظُرُ في سورة الطور، فوجدت نفسي وأنا أقرأ السورة أمام نصفها الأول وهو يتحدث عن الرسالة، وعن القيامة، وعن الجزاء، ثم وجدت نفسي أمام نصفها الأخير وقد تضمن خمسة عشر استفهاماً، أو كلمة "أَمْ" وهي تعني تحريك المعنى بحيث يُضرب الإنسان عمّا قبله ويستفهم بما بعده، هذا وضع الكلمة البلاغي في اللغة العربية.

وجدت النصف الأخير للسورة تضمن خمسة عشر "أمْ" وراءها هذه الجمل. تبدأ من قوله تعالى: (فَذَكِّرْ فَمَا أنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ * أمْ يقُولونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ المـَنُونِ) [الطور:29-30]. يقولون: شاعر يحيا قليلاً، ثم يطويه الموت ويذهب في خبر كان: (قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ * أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا؟ أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ) [الطور:31-32].

أهذا تفكير عقلي؟ أم هو الطغيان؟ (أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ * فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ * أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ * أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ * أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ * أَمْ لهُ البَناتُ ولكُمُ البَنُونَ * أمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرَاً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلونَ * أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ * أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ * أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) [الطور:33-43].

خُيل إلى أن كلمة "أَمْ" هنا وخزة للضمير الوثني الميت تحركه، صوت يلسع العقل الخامد ليبعثه على التفكير ويجعله يتحرك ويعرف ربه.

خمس عشرة كلمة "أَمْ"، بعد كل كلمة "أَمْ" جملة يحتاج شرحها إلى شيء من التطويل وهو يخرج بنا عن خطبتنا الآن، لكن تذكرت الآن كيف كان الناس وراء نبيهم -صلى الله عليه وسلم- يستمعون إلى هذا الوحي المبارك وهو يصقل العقل، وينظم الفكر، ويجمع العزم، ويحشد الهمم، ويكون المسلمون مصفوفين كأنهم بنيان مرصوص، يستمعون ويَتَرَبَّوْنَ ويتعلمون ويتزكون بهذه الصلوات.

كان مما لاحظته وأنا أتابع الصلاة والقرآن في المسجد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان في أحيان كثيرة يصلي فجر الجمعة بسورة السجدة والإنسان، ولعل هذا هو الذي جعل الشافعية يستحبون أو يعتبرون من السنن أن يصلي الإنسان فجر الجمعة بالسورتين، وإنْ كان الأحناف والمالكية يرون غير هذا ويُكَرِّهُونَ أن يواظب الإنسان على نوع معيَّن من القراءة، لأن ذلك قد يوهم العامة أن الصلاة ما تصح إلا بهذا النوع من القراءة، وهذا غير صحيح.

قال العلماء، وهم يعللون صلاة النبي -صلى الله عليه وسلم- الفجر يوم الجمعة بهاتين السورتين: لأن كلتا السورتين تحدثت عن بدء الخلق، وعن أعمال الناس، وعن درجاتهم في الآخرة؛ فكأن النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يقرأ يريد من الناس أن يعرفوا هذه الحقائق؛ لِيَبْنوا عليها سلوكهم، ويصححوا بها نياتهم ووجهاتهم.

ورجعت إلى كل سورة منهما فوجدت حقيقة أن كل سورة تحدَّثتْ عن بدء الخلق، فمثلا في سورة السجدة، بدأت السورة بأن الله هو الخالق للكون: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ، مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ، أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ؟) [السجدة:4].

وبعد الإشارة إلى خلق الكون إشارة إلى خلق الحياة، وتمهيد الأرض للإنسان، وإضفاء مواهب معينة لهذا الإنسان؛ كي يعرف ربه ويؤدي حقه، قال تعالى: (الذِي أحسَنَ كلَّ شيءٍ خلَقَهُ وبَدأ خلْقَ الإنسانِ مِن طِينٍ * ثم جعَل نسْلَهُ مِن سُلالةٍ مِن مَاءٍ مَهِينٍ * ثُمَّ سَوَّاهُ ونَفَخَ فيهِ مِن رُوحِهِ وَجعَلَ لكُمُ السَّمْعَ والأبْصَارَ والأفئِدَةَ قليلاً مَّا تشْكُرون) [السجدة:7-9].

ثم يبين أن الناس لا بد من أن يختفوا من على الأرض، لا بد أن يموتوا، لن يخلد أحد، لكن هذا الاختفاء مؤقت، لكن المقابر زَوْرة، زيارة يبقى الإنسان فيها حيناً، ثم يخرجون منها فلا يعودون إليها أبداً، بيد أن المشركين لا يصدقون هذا: (وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ؟ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ) [السجدة:10].

وأحياناً يكون الإنسان عارفاً الجواب، ولكن يبطىء في الرد به، لأن الجواب كان واضحاً ينبغي أن يعرفه العقلاء، فهم يحتاجون قبل الرد به إلى شيء من التقريع والتوبيخ، وهذا ما حدث، ففي سورة السجدة يتساءل الناس: (وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ؟ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ) [السجدة:10].

إذا كنت تستغرب أن تعود حيّاً بعد أن تموت فلم لا تنظر إلى الأرض التي تعيش عليها؟ (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ؟ أَفَلَا يُبْصِرُونَ؟) [السجدة:27].

إنك تأكل وترمي بفضلاتك وتأخذها "مجاري القاهرة" إلى "مزرعة الجبل الأصفر" ثم تعود إلينا الفضلات المزعجة فواكه ناضرة اللون جميلة الرائحة، مليئة بالسكر، مليئة بالغذاء! ألا تفكر في الذي أجرى هذا التحول على الفضلات العفنة وأحالها كذلك؟.

إن الذي يصنع هذا كل يوم، هو الذي يستطيع أن يرد إليك الحياة بعد الموت؛ فإذا أبيت إلا الجحود والجبروت، فلتسمع قوله تعالى: (أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ؟ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ. أَفَلَا يَسْمَعُونَ؟) [السجدة:26].

و السورة تتساءل: (أفمَنْ كانَ مُؤمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقَاً؟ لا يَسْتَوُون) [السجدة:18]. هذه سورة السجدة، وأجد أن سورة الإنسان تحدثت في نفس المعنى ولكن بأسلوب آخر، وهنا يبدو ما في القرآن من بلاغة، وما فيه من إعجاز.

سورة الإنسان بينت أن الله خلق الإنسان من نطفة أمشاج، أي مختلطة فيها خصائص كثيرة. قال تعالى: (إنَّا خَلَقْنا الإنسانَ مِن نُطْفةٍ أمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعلْناهُ سَمِيعاً بَصيراً) [الإنسان:2]. هنا (سميعاً بصيراً) وفي سورة السجدة: (وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون) [السجدة:9].

هنا، في سورة الإنسان، يبين بإيضاح أكثر، فهناك بين أن الجاحدين لنعمة الله كثيرون، وهنا يعرض المعنى بأسلوب آخر فيقول: (إنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرَاً وإمَّا كَفُورَاً) [الإنسان:3]، بيد أن سورة الإنسان لا تذكر أهل النار إلا في آية واحدة تقرر عقوبتهم فيقول جل شأنه: (إنَّا أعتَدْنا للكافِرينَ سَلاسِلَاْ وَأَغْلَالاً وَسَعِيراً) [الإنسان:4]، على عكس سورة السجدة التي تحدثت عن المجرمين حديثاً طويلا: (وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ) [السجدة:12].

هنا في سورة الإنسان كان الحديث أطول عن أهل الجنة، وعن النعيم الذي يمرحون فيه، وعن الخير الذي يُسِّر لهم. (وَإِذا رَأيْتَ ثَمَّ رَأيْتَ نَعِيمَاً وَمُلْكَاً كَبِيرَاً * عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ، وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا * إنَّ هذا كَانَ لكُم جَزاءً وكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورَاً) [الإنسان:20-22].

وكما استبعد الناس في سورة السجدة البعث، وألفوا الحياة وعبدوها، تجد السورة هنا تقول في الكافرين: (إِنَّ هؤلاءِ يُحِبُّونَ العَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمَاً ثَقِيلاً * نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً) [الإنسان:27-28].

السورتان تحدثتا عن الاختبار الإلهي، فإذا قال الله تعالى: (وَلَو شِئْنَا لآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا) [السجدة:13]. فمعنى الآية أن الله كان قادراً على أن يخلق الناس ملائكةً لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، أو يخلقهم جمادات لا تعقل، أو حيوانات غير مُكلَّفة، ولكنه خلق الإنسان على هذا النحو ليختبره وليبتليه فيشكر أو يكفر، (إِنَّا خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعَاً بَصِيرًاً * إنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إمَّا شَاكِرَاً وإمَّا كَفُوراً) [الإنسان:2-3].

كان المسجد يوم بُني في العصر الأول مدرسة يُقرأ فيها القرآن على هذا النحو الذي يُزكي ويُربي، وللصلاة ناحية نفسية ينبغي أن نحرص عليها وأن نستوعبها، فإنه ما من أحد إلا وكُلُّ ذرة من بدنه أثرٌ من نعمة الله عليه الذي يطعمه من جوع.

و من حق المنعَم أن تقول له بين الحين والحين: (الحمد لله رب العالمين) [الفاتحة:2]، ومن حق من يتركك تخطئ دون أن يعجل عليك بالعقاب أن تعرف له صفته الواسعة الجليلة، صفة الرحمة، وأن تذكره باسميه الحسنين: (الرحمن الرحيم) [الفاتحة:3]، ثم تعلم أنك عائد إليه: (مالك يوم الدين) [الفاتحة:4]، ثم تعاهده على أن تكون عبداً له، تابعاً له، مستعيناً به، متجهاً إليه: (إياك نعبد وإياك نستعين) [الفاتحة:5].

ثم لتعلم أنك مهما أوتيت من ذكاء، ومهما حرصت عليه من مصلحتك، فإنك أفقر الخلق إلى هداية الله، فإذا لم يعنك ولم يهد قلبك فإنك ضائع، فاضرع إليه أن يهب لك الخير المعنوي: (اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين) [الفاتحة:6-7].

إن الصلاة مناجاة لله على هذا النحو، وأثرها الأول أن تعلم الناس الإخلاص لله، والإخلاص في معرفة الآخرين ومعاملتهم، لأن الذي يُدرب نفسه على المناجاة الخاشعة والعمل الصالح خمس مرات كل يوم ينبغي أن يكون نقياً لا يعرف النفاق ولا المداهنة ولا الغش ولا سوء العمل ولا سوء الخلق.

إن الصلاة -من الناحية النفسية- تكوين روحي راق يزكي الناس ويضبط شهواتهم، ولأمر ما قال الله في المجتمعات المنحرفة، في المجتمعات الزائغة، في المجتمعات التي ليس لها هدف، في المجتمعات التائهة في هذه الدنيا، قال: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) [مريم:59]. فكأن اتباع الشهوات أثر يجيء بعد ترك الصلوات، ولذلك فإن أمتنا يجب أن تعرف هذه الحقيقة وهي تواجه قدرها وتبني مستقبلها.

أما من الناحية الاجتماعية، فالمأخوذ على المسلمين أن نزعات الأنانية في تصرفهم جعلتهم آحاداً لا رباط بينهم، بينما كانت الصلاة في تنظيم الإسلام بناء للمجتمع على صفوف، وعلى حركات لا شذوذ فيها.

قرأت فيما صح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قوله: "أما يخشى أحدكم إذا رفع رأسه قبل الإمام أن يجعل الله رأسه رأس حمار، أو يجعل الله صورته صورة حمار". أول عهدي بالعلم قلت: ما هذا الحديث؟! إنه حديث قاس، ما هذا التهديد الشنيع؟ فلما بَلوْت الناس، واختبرت الجماعات، عرفت أن الشخص الذي يأبى أن يكون مرناً مع الجماعة، ليناً بأيدي إخوانه، الشخص الذي يأبى إلا أن يكون فوضوياً يرفع ويخفض وحده دون ارتباط بنظام عام، هذا شخص أقرب إلى الحيوان منه إلى الإنسان، وكثير من المسلمين فقَد روح التجمع. إن روح التجمع تعني حركات عامة، أما أغلب الناس فصوته من دماغه، وحركاته من غرائزه، وانفعالاته من شعوره الخاص.

إذا كانت الأمة تُصف خمس مرات، وتسمع من نبيها عليه الصلاة والسلام: "سَوُّوا صفوفكم؛ فإن تسوية الصفوف من إقامة الصلاة"، "أقيموا صفوفكم؛ فإنما تَصُفون بصفوف الملائكة، وحاذوا بين المناكب، وسُدُّوا الخَلل، ولينوا في أيدي إخوانكم، ولا تذروا فُرجات للشيطان، ومن وصل صفاً وصله الله، ومن قطع صفاً قطعه الله عز وجل". وقال لرجل صلى وحده خلف الصف: "زادك الله حرصاً. ولا تعد".

وقد رفض -صلى الله عليه وسلم- أن يدخل المسجد من كانت له رائحة كريهة، وسقطت صلاة الجماعة باتفاق الفقهاء عمن كان مريضاً بفمه تصدر منه رائحة كريهة، لماذا؟ لأن الإسلام يريد أن يتجمع الناس في جو نقي ليس فيه ما يثير الاشمئزاز أو الضيق، واستحب للمؤمنين أن يدخلوا المساجد قي ثياب نظيفة، وإن وجدوا شيئاً من الطيب أو الزينة فليفعلوا.

هكذا بدأ المسجد يؤدي دوره في المجتمع الإسلامي، كان أول ما اهتم النبي -صلى الله عليه وسلم- به أن بنى المسجد وشارك هو في البناء، وعندما كان الصحابة من المهاجرين والأنصار يُغنون وهم يبنون:
اللهمَّ لا خَيْرَ إلا خيرُ الآخِرهْ *** فارحم الأنْصارَ والـمُهَاجِرهْ

كان -صلى الله عليه وسلم- يردد الكلمات الأخيرة من مقاطع هذا الشعر الغنائي الخفيف؛ كي يشارك بعاطفته وبيده وبلسانه مع الذين يبنون المسجد. كان بناء المسجد كما قلت لكم مصنعاً للرجال، ولا قيمة لأمة لا تؤدي مصانع الرجال فيها واجبها.

إن المساجد هانت رسالةً، وهانت مظهراً وجوهراً، إن الاستعمار العالمي استطاع أن يُكوِّن شعوباً وأجيالا صلتها بالمساجد مبتوتة، بينما رأينا أن أهل الأديان الأخرى تشبثوا بعقائدهم ولو كانت باطلة، وبعباداتهم ولو كانت شاردة.

إن الإسلام ينادي الناس من عقولهم، لأنه لا يشدهم من حواسهم، بل يشدهم من عقولهم، فالنداء إلى الصلاة عندنا كلمات مفصلة واضحة: "الله أكبر، الله أكبر"، كأنها بين الحين والحين ساعة من الزمن تدق لتذكر الناس بأن كل شيء بعد الله تافه، وأن كل شيء غيره صغير، وأن على الناس أن يستجيبوا للنداء، وأن يُهرعوا إلى المساجد كي يذكروا الله، وكان ذلك من الفجر إلى العشاء.

إنني أنظر إلى المجتمعات الإسلامية الآن فأجد أن الصلوات خَفّتْ، وأن ناساً كثيرين يُصلون فُرادى، وأن المجتمعات الإسلامية ندر فيها القادة المؤمنون الذين يعرضون الكتاب والسنة عرضاً سليماً، فلنعرف علتنا، فماذا لم تعد المساجد مصانع للرجال، فنحن لن نستطيع أن نقاوم العدوان ما لم نعرف هذه الرسالة، ولنعرف لِمَ كان أول عمل قام به النبي -صلى الله عليه وسلم- بناء المسجد؟.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله، (وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ) [الشورى:26].

وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين، وأشهد أن محمداً رسول الله، إمام الأنبياء، وسيد المصلحين.

اللهم صَلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.

أيها الإخوة: بيننا في المسجد الآن أحد الرجال الذين فقدوا أبناءهم في الطائرة "الليبية" المنكوبة، أجمل الله عزاءه، وثبت بالإيمان قلبه، وأقدره على مواجهة ما يواجه من آلام الفقد.
و أنا أعرف بعض علماء الأزهر من "ليبيا" الذين قُتلوا في الطائرة المفقودة.

والحقيقة أن الخبر ملأني غماً، لا لأني أشعر بأن ناساً ماتوا، والموت نفسه مصيبة، لكن لهوان الأمة الإسلامية على نفسها، وعلى الآخرين، ولعنة الله على من أوصل أمتنا إلى هذا الدَّرْك فجعلها تُضرَب ولا تضرِب، وجعلها يُجار عليها ولا تستطيع أن تثبت وجودها، ولا أن ترفع رأسها.

إن الذين قُتلوا لعلهم ذهبوا إلى الله شهداء، ولعلهم وجدوا عنده من حُسن الجزاء ما يُزهدهم في دنيانا التي نعيش فيها؛ وإذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب، ولا هم ولا حزن، ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها، إلاَّ كفر الله بها خطاياه". فهذا المصير المتعب الفاجع كفارة للخطايا، ورفعة للدرجات إن شاء الله.

لكن يبقى أن اليهود وصفهم الله في كتابه فقال فيهم: (ثُمَّ قسَتْ قُلوبُكُمْ مِن بَعد ذَلك فهِيَ كالِحجَارةِ أوْ أشَدُّ قَسْوَةً) [البقرة:74].

اليهود شعب جزَّار، مصَّاص للدم، مستكبر في أردية الذل التي كان يرتديها قديماً، فلما تمزقت هذه الأردية، وواتتْ هذا الشعب فرص لكي يبين عن وجهه، ويكشف عن طبيعته، كشف عن طبيعة ذئب، لكن أذكر قول العقاد رحمه الله:
أنصَفْتَ مَظْلُومَاً فأنْصِفْ ظَالِمَاً *** فِي ذِلَّةِ المظْلُومِ عُذْرُ الظَّالِمِ

إن العرب ينبغي أن يعودوا إلى أنفسهم، لقد مرت بهم قوارع توقظ النيام مهما كان غطيطهم مرتفعاً، ومهما كانت غيبوبتهم عميقة، لكن العرب كالمنافقين قديماً، الذين يقول الله فيهم: (أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ) [التوبة:126].

إننا لا ننتفع بالآلام ولا بالمصائب، إننا ما دمنا بعيدين عن الإسلام، ولا أقصد بالكلمة المدلول القريب لها؛ إنما أقصد ما دام الإسلام بعيداً عن المعركة، بعيداً عن تصفيف المجتمع في المساجد والمعاهد، بعيداً عن ضبط التقاليد وجعلها في سياج من الشرف والحق، ما دام الإسلام مبعداً عن التشريع والتثقيف، وما دامت الأمة تقاتل على نحو فردي، فهيهات النصر!.

النصر إنما يجيء يوم يكون الإسلام صيحتنا وجبهتنا، ورباطنا وسياجنا، ويوم يتعلم الجيش كله أن الصلاة من الفجر إلى العشاء فريضة فيصلي، وأن الصيام فريضة فيصوم، وهكذا.

لقد أمكن استخراج فتوى ضالة بإبطال "رمضان" سنة 1968 للجيش! لماذا؟ قيل كلام غير صحيح، وكانت الفتوى غير صحيحة، وكانت الدولة ضاغطة على نفر من العلماء يذكرون الدنيا أو الناس ولا يذكرون الله رب الناس. و ما بقيت أمورنا بين متملق يحرص على الدنيا، ومحب للدنيا يسوق الآخرين إليها، فلن تصلح أمورنا.

إننا بحاجة إلى عود حاسم إلى الإسلام، لقد مرت عدة سنين انتشرت فيها الشيوعية والإلحاد، وتبخرت معاني الوطنية، بل حتى روابط القومية الحيوانية، ووجدنا شباباً يبحث عن الجنس، يبحث عن الإباحية، ووجدنا عشرات الألوف يقال لهم: احتشدوا لرؤية "كرة" وملايين يُطلب إليهم أن ينظروا إلى الشاشة لرؤية "كرة"!.

أمة صبَغ الذلُّ وجهَها على هذا النحو الشائن تُبدد جهودها في التسلية واللهو! أين الرجولة؟ أين الإحساس بالألم؟ أين الاستعداد للمعركة؟.

إن ذلك لا يكون بالكلام الأجوف، إنما يكون بعمل حقيقي يسوق الشباب إلى دين الله، ويمنع هذا الرجس الذي ظل ينتشر بيننا في السنوات الأخيرة، حتى ملأ القلوب الفارغة بالإلحاد والضياع، وشتت القوى، وجعل اليهود -وهم كلاب الأرض- ينالون منا على هذا النحو الشائن!!.

"اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير واجعل الموت راحة لنا من كل شر ".

(رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [الحشر:10].

عباد الله: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل:90].


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي