جعْل الناس يحسُّون بعظمة الله، وينبعِثُون إلى طاعته، بعزائمَ صلبةٍ، وشَوقٍ مِلحاح؛ إنَّ غَرْسَ هذه العقائد في النفوس لا يقدر عليه عالِمٌ نظَري، ولا عالم مرْتَزِق، ولا عالم من طُلَّاب الدنيا؛ إنما يقدر عليه رجل في قلبه حُبٌّ مضغوطٌ لله، فهو إذا تكلَّم تفجَّر هذا الحبُّ على لسانه، ووصل إلى القلوب. ومن هنا استطاع أولئك الصوفية الأقدمون أن يؤثروا في الجماهير ..
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير.
وأشهد أن محمداً رسول الله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير. اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.
أما بعد: فإن الثقافة الإسلامية بحر متلاطم الأمواج، واسع الأبعاد، يقف الإنسان بشاطئه فيجد أمامه من جهود الفكر البشري في فهم الوحي الإلهي وخدمته، وفي فهم اللغة العربية وتوسيع دائرتها، يجد من ذلك العجب العجاب، وكما أن بحار العالم ومحيطاته كثيرة، فإن الثقافة الإسلامية بحار شتى، ومحيطات شتى.
أمس كنت أطالع كتاب " المحلى"، وهو كتاب يمثل فقه أهل الظاهر، ووجدت الرجل -وهو عبقري له جدل وله ذكاء- يشتبك مع أئمة الفقه كرا وفراً، وطولاً وعرضاً، ويخطئ ويصيب، وليس هذا مستغربا على البشر، فكلنا يخطئ ويصيب، وقرأت في كتاب آخر لابن مفلح في الفقه الحنبلي فوجدت لونا آخر من التفكير يخدم السنة بطريقة تمزج بين احترام الرواية واحترام الفكر، وقرأت في كتاب آخر في مذهب الأحناف الذي يمثل مدرسة الفحوى والاستحسان والرأي والقياس، وما إلى ذلك.
وانتقلت في مكتبتي إلى بعض كتب التفسير، والتفسير بحار متفاوتة الألوان، فهذا التفسير أثرى كتفسير ابن جرير الطبري وابن كثير، يعتمد هذا اللون من التفسير على الكتاب والسنة، وعلى أفهام الصحابة والتابعين، أي على الرواية والنقل؛ هناك تفسير بلاغي يعتمد على التحليل الأدبي، وضبط ألفاظ القرآن من ناحية الأداء البياني، وتصريف الكلمات، وتركيب الجمل؛ وهناك تفسير عقائدي كتفسير الإمام الرازي الذي يطرح فيه عقائد الإسلام، ويتناول الفلسفات والمذاهب الأخرى؛ هناك تفسير فقهي كتفسير ابن عجيبة. التفاسير كثيرة، الثقافة الإسلامية بحر متلاطم الأمواج.
دعاني إلى هذه المقدمة أني أحببت أن ألقي نظرة خاطفة على التصوف والتراث الصوفي، وأن أكون منصفاً قدر ما أستطيع، فلا أهادن خطأ، ولا أتبع عورة، ولا أستهجن صواباً، ولا أغمط لأحد حقه؛ اجتهدت في هذا، وفي الحقيقة قرأت في التراث الصوفي لكثيرين لمتصوفين يحبون مذهبهم، ويتعصبون له، ويدعون إليه، وقرأت لنقاد يحملون على هذا اللون من الثقافة الإسلامية، ويضيقون به، ثم يختلفون، فبعضهم ينصف في نقده كما قرأت لابن القيم في كتابه "مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين"، الذي يرد به على كتاب "منازل السائرين" لشيخ الإسلام أبي إسماعيل الهروي، الصوفي. وفي الحقيقة إن الجدل بين الرجلين -هنا- كان على مستوى عال من عمق الفقه، وحسن الخلق، وتحرى الحق، والرغبة في نفع المسلمين، وإرضاء رب العالمين.
أول ما ألفت النظر إليه أن ما يسمى طرقا صوفية في البلاد الإسلامية بينها وبين التصوف القديم -بما لَه وما عليه، بخطئه وصوابه- مسافة شاسعة. بين الطرق المعاصرة وبين هذا التصوف القديم مسافة شاسعة، بل تكاد تكون العلاقة منقطعة! علاقة الطرق الموجودة الآن بالتصوف القديم تشبه علاقة اليونان الذين يبيعون الخبز في الأفران او المسكرات في الحانات أو البقالة في حوانيتها بالنسبة إلى سقراط صاحب نظرية المعرفة أو أفلاطون صاحب نظرية المثل أو أرسطو صاحب المنطق.
الفرق بعيد بين صوفية العصر الحاضر والمتصوفين القدامي، والمتصوفون القدامى أنواع، فيهم فكر فلسفي انتشر قديماً وعُرف رجاله مثل محي الدين بن عربي، وأبن الفارض، وابن سبعين؛ وهذا اللون من التصوف كان موضع ضيق من جمهرة المسلمين، ورفَضه أغلبهم؛ لأنه تصوف فلسفي غلبت عليه عناصر مستوردة من فكر رواقي يوناني، أو فكر هندي، أو فكر بعيد الصلة بالإسلام.
وهؤلاء قد يقع الخطأ من أحدهم فيكون خطأ شنيعاً، ومن أخطاء ابن عربي -وهو فيلسوف صوفي- أنه يرى أن فرعون نجا، وأنه من اهل الجنة! الله يقول (فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ * يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ) [هود:97-98]. فكيف يقال عن هذا إنه نجا؟!! الله يقول: (وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ) [القصص:42]، ومع ذلك فقد قرأت رسالة للرجل يقول فيها: إن فرعون آمن ومات طاهراً؛ لأنه عند الغرف قال: (آَمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آَمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) [يونس:90] فالرجل آمن ومات طاهراً. طاهراً! ما هذا يارجل؟! آمن في وقت لا يصلح فيه إيمان، والله قال له: (آَلْآَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) [يونس:91]، فخطأ بن عربي هنا مع أخطاء أخرى تنسب إليه ويعرف بها تجعلنا نؤيد جمهرة المسلمين في رفضهم للفلسفة الصوفية عموماً؛ لأنها بعيدة عن الإسلام، بعيدة عن المنطق الديني، بعيدة عن الضوابط الفقهية التي لابد منها لإدراك الحقائق.
لكن المسلمين عموماً قبلوا التصوف السلوكي، أي قبلوا تصوف الأخلاق والآداب والشمائل، والذكر والعبادة، ومن أئمة هذه الطريقة التربوية أو السلوكية أبو الحسن الشاذلي، وشيخ المذهب لون وأتباع المذهب بعد ذلك قد يخطئون ويصيبون، أبو الحسن كان رجلاً له فقه، وله مع الله أدب، وله مع الناس توجيه حسن، وهو صاحب التوجيهات اللطاف؛ كان غنياً، وعندما وضع احد الدراويش يده على ثوبه فوجده سخياً فقال: يا إمام! أهذا ثوب يُعبد الله فيه؟ قال له: ثوبي ينادي عليّ بالغنى عن الناس، وثوبك ينادي عليك بالفقر إلى الناس!. وأبى الرجل الكبير إلا أن يكون ثوبه حسنا مخالفا بذلك حمقى المتصوفة الذين كانوا يلبسون المرقعات، ويرون ذلك من باب التواضع لله، أو الزهد في الدنيا.
ابن عمر -رضي الله عنه- وهو متشدد في معاملة نفسه قال لمن استنصحه: ألبس ما لا يزدريك فيه السفهاء، وما لا يعيبك عليه العقلاء! ملابس عادية محترمة لا هي مزخرفة ولا هي سيئة. وأيضا أبو الحسن هو صاحب الكلمة المشهورة؛ قال له تلميذه: أنا أترك الماء في الشمس. قال له:لم؟ قال: أحارب نفسي؛ فهي تشتهي شراب البارد. فقال له: انقل الماء من الشمس إلى الظل فإنك إن شربته بارداً فحمدت الله انتزعت الحمد من أعماق قلبك! كان رجلاً عاقلاً، من هذا المسلك، مسلك الحسن، جاءته حلوى فاخرة فأخذ يوزعها، فاتقبضت يد صوفي حوله وأبى أن يأكل، فقال له الحسن: كل يا أحمق!... فلا بد من ضبط العاطفة.
التصوف السلوكي انتشر بين المسلمين، وانتشرت طرقه، وعرفه ابن خلدون بأنه علم محدث في الملة يتصل بأعمال القلوب والجوارح، وهو تعريف لا بأس به. ما معنى أنه محدث في المائة؟ أكثر العلوم استحدثت عناوينها وإن كانت موضوعاتها قديمة، بمعنى أنه ما يتصل بالإيمان وقضاياه والدفاع عنها -خصوصاً عقيدة التوحيد وما يحميها- فهذا علم استقل به علم الكلام، أو علم التوحيد، أو علم العقائد؛ وما يتصل بالعبادات من وضوء، وصلاة، وزكاة، وصيام، وحج، فهذا علم انفرد به فقه العبادات؛ وما يتصل بالبيوع، والتجارات، والشركات، والكفالات، والحوالات، فهذا علم انفرد به فقه المعاملات.
تفسير القرآن له علم التفسير، السنة وما يتصل بتقويم السند ومعرفة الرجال انفرد به علم الحديث دراية، وما يتصل بالمتون وما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- انفرد به علم الحديث رواية؛ فما يتصل بحب الله، والصبر به، علم التصوف؛ وكُتبت المؤلفات على هذا الأساس.
عند التأمل وجدت التراث الصوفي يشبه منجماً مليئاً بنفائس كثيرة، وغثاء كثير، وأن الذي يدخل هذا المنجم قد يكون غبيا فلا يخرج إلا بقفف من التراب، وقد يكون ذكيا فيستطيع أن يستخرج بعض النفائس وينتفع بها!. وأشهد أن ابن القيم في كتابه "مدارج السالكين" كان منصفاً؛ لأنه ما وجد خيراً إلا التقطه ونمـَّاه، وما وجد خطأ إلا ورد عليه بالحسنى، واجتهد أن يعتذر لصاحبه إن كان له عذر؛ وكان متواضعاً لله، غمط نفسه ومكانته عندما قال: شيخ الإسلام حبيب إلينا، والحق أحب إلينا منه. ثم قال: إذا كنت قد أصبت بعض الحقائق التي لم يرها شيخ الإسلام فأنا مع شيخ الإسلام كالهدهد مع سليمان عندما قال له (أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ) [النمل:22]، والهدهد هو الهدهد، وسليمان هو سليمان! في الحقيقة إن هذا اللون من البحث عن الحقيقة والأدب مع الخصوم يحتاج إليه الكثيرون في مصرنا، فإن أمتنا فقدت كثيراً من أدوات البحث، ومن حب الحق، ومن تزيينه للآخرين؛ حتى يكون حبيباً إليهم. وكثير من الذين عرفوا بعض الحقائق لم يحسنوا عرضها، وربما كانوا فتَّانين يصدُّون الناس عنها.
لقد قرأت كما قلت في الثقافة الصوفية شيئاً كثيراً فوجدت أن هناك أموراً ينبغي أن نأخذها في هذا التراث، وقد تكون موجودة ضمن علوم إسلامية أخرى، لا بأس؛ لكن التوسع فيها والحديث عنها كثر في التصوف، وتناوله أولئك العلماء بعاطفة حارة، ونفس ملتاعة، وأحيانا كنت أشعر -والكلمة تخرج من مُرب كبير في ميدان التصوف، أو من محب لله- أشعر كأن الكلمة فيها فعلا لذْع الأشواق، ونور الحب، والرغبة في مرضاة الله؛ عليها من قلب صاحبها رواء يجعلها تصل إلى القلوب.
التصوف من هذه الناحية يُقبل يقيناً. لماذا؟ لأنه تدريب على مقام الإحسان، الإحسان تعريفه: "أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك"؛ هذا كلام نظري، لكن عند التطبيق كيف يتحول الإدراك النظري إلى حس حقيقي تشارك فيه المشاعر ويكاد الإنسان يلمس بيده ما يريد أن يوضحه للناس؟ لأضرب لكم مثلا: المدرس عندما يشرح للطلاب في الفصل حقيقة من الحقائق، إذا لم يكن هذا المدرس في دماغه من الوضوح والعمق، وفي لسانه من القدرة على الأداء ما ينقُل هذا الوضوح إلى القلوب والعقول؛ فإنه سيكون مدرساً فاشلاً.
وكذلك جعْل الناس يحسُّون بعظمة الله، وينبعِثُون إلى طاعته، بعزائمَ صلبةٍ، وشَوقٍ مِلحاح؛ إنَّ غَرْسَ هذه العقائد في النفوس لا يقدر عليه عالِمٌ نظَري، ولا عالم مرْتَزِق، ولا عالم من طُلَّاب الدنيا؛ إنما يقدر عليه رجل في قلبه حُبٌّ مضغوطٌ لله، فهو إذا تكلَّم تفجَّر هذا الحبُّ على لسانه، ووصل إلى القلوب. ومن هنا استطاع أولئك الصوفية الأقدمون أن يؤثروا في الجماهير.
حتى دخلوا أدب اللغة العربية العادي، ونقلوا منه ما لا يصلح... رفض الصوفية أن تكون هذه الأبيات في سيف الدولة، ونقلوها في مدح الله:
فَلَيْتَكَ تَحْلُو وَالحَيَاةُ مَرِيرَةٌ *** وَلَيْتَكَ تَرْضَى وَالأَنَامُ غِضَابُ
وَلَيْتَ الَّذِي بَيْنِي وَبَيْنَكَ عَامِرٌ *** وَبَيْنِي وَبَيْنَ العَالَمِينَ خَرَابُ
إِذَا صَحَّ مِنْكَ الوُدُّ فَالْكُلُّ هَيِّنٌ *** وَكُلُّ الَّذِي فَوْقَ التُّرَابِ تُرَابُ
نقلوها في معاملة الله، والله أولى بها في الحقيقة، الله أولى بهذه المناجاة، وهذا المدح.
ولهم في هذا أشياء جديرة بالتأمل، ولقد قرأت في هذا كتاب ابن عطاء الهل السكندري، رفضتُ الشروح التي حول هذا الكتاب، لكني وجدت حكم الرجل من أنضر ما قرأت في حياتي في أدب السلوك ومعاملة الناس، يقول: "تحقق بأوصافك يمدك بأوصافه، تحقق بذُلِّك يمدك بعزه، تحقق بعجزك يمدك بقدرته، تحقق بضعفك يمدك بحوله وقوته". وهذا كلام صحيح؛ لأن الله لا يقبل إنسانا يجئ إليه شامخا، أنت عبد مقبل على سيدك، فلماذا هذا الشموخ؟ ويقول في هذا: "معصية أورثت ذلا وانكساراً، خير من طاعة أورثت عزاً واستكباراً" وهذا كلام صحيح.
ثم يعيب على الناس ما هم فيه فيقول: "اجتهادك فيما ضمن لك، وتقصيرك فيما طلب منك، دليل على انطماس البصيرة". كفل الله لك شيئاً وكلفك شيئاً، ما كفله لك تنشغل به، وما كلفك به تكسل عنه؟! انطماس بصيرة، وهذا كلام صحيح، لأن الله يقول لنبيه -صلى الله عليه وسلم- حتى يتعلم العباد منه: (فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آَنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى * وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى * وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى) [طه:13-15]. تأمل "نحن نرزقك" يا أخي لو أن رئيس دولة، وما رئيس دولة؟ قال لك: سأعطيك كذا؛ فإنك تصدقه فوراً. فكيف بملك الملوك؟ لماذا ترتاب؟ ما وجه الريبة؟ لكن يقول لك: "نحن نرزقك"، ترتاب؟.
في التربية نجد أموراً تحتاج إلى دقة، ولذلك لا يستطيع، أو لا ينبغي أن يدخل في هذا الميدان من لا يحسنه؛ من أوائل ما كتبه ابن عطاء الله: "ادفن وجودك في أرض الخمول، فما نبت مما لم يدفن لا يتم نتاجه". كلمة غريبة! وربما قراها أحد الناس الآن فقال: هذا هو الجنون الديني.
رجل يقول لتلميذه: ادفن نفسك في أرض الخمول! طبعاً معنى الكلمة ليس كما يتصور قصار الفكر والنظر، معني الكلمة: لا تتقدم الصفوف حتى تنضج، لا تحاول أن تكون إماماً قبل أن تستكمل مسوِّغات الإمامة؛ بعض الناس؛ لأنه صنع قصيدة، يريد أن يكون شاعر الغبراء! بعض الناس؛ لأنه كتب مقالا، يريد أن يكون أديب الأدباء! لا؛ كما تختفي الحبة في التراب فلا تظهر مدة من الزمن حتى تستكمل قدرتها على الإنبات والإخصاب والإثمار، ثم تبدأ تشق طريقها لترى الشمس والهواء؛ كذلك على كثير من المتعلمين ألا يستعجلوا الشهرة، وأن يعيشوا جنوداً مجهولين يستكثرون من المذاكرة والتحصيل، ومن أمور كثيرة؛ حتى يمكن أن يكونوا نافعين.
أما الحبة التي توضع فوق ظهر الأرض فلا ثمرة لها ولا نتاج، وما دام حريصا أن يُرى من أول يوم فلا خير فيه: "ادفن وجودك في أرض الخمول، فما نبت مما لم يدفن لا يتم نتاجه"!.
ويقول "ما بسقت أغصان ذل إلا على بذور طمع" وهي كلمة جليلة، كلمة عظيمة، وكما قال الشاعر : مَـلَكْتُ نَفْسِي مُذْ هَجَرْتُ طَبْعِـي *** اليأسُ حُرٌّ والرَّجَاءُ عَبْدُ
مادمت ترجو غنيا، أو حاكماً، فأنت ذليل؛ اليأس حر، والرجاء عبد؛ ما دمت ترجو فأنت ذليل؛ عندما تيأس من الخلق وتعاملهم على أن لا أمل فيهم إطلاقاً فأنت ملِك.
هذا فيما يتصل بالناحية الطيبة في التصوف. هناك نواح مخيفة، ما هذه النواحي؟ النواحي كثيرة أكتفي منها بثلاثة أمور.
الأمر الأول: كثرة المبتدعات مع جماح العاطفة، بمعنى أن ناساً كثيرين اخترعوا من عندهم أموراً كلفوا الناس بها، وعندما أنظر إلى العبادات أجد أن الشارع هو الذي استقل بتكليف الناس بها، فمعنى الحكم الشرعي: خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين؛ ولذلك لا يمكن أن يضع حكماً شرعياً بشر؛ لأن رب البشر هو الذي يكلف، ونشأ عن سوء التكليف عندنا -عندما أخذ بعضنا يكلف البعض الآخر- نشأت مفارقات كانت من بين أسباب ضعف الأمة الإسلامية الفكري والفقهي.
يقول الله تعالى: (وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا) [الأعراف:18]، هذا نص قرآني على رأسي، ما معنى أن أدعو الله باسمه الحسن؟ واحد يقول لك: قل يا لطيف مائة ألف مرة بالليل! هذا تكليف من عند واحد من الناس. ما المعنى الحقيقي للآية؟ أضرب له مثلين لتدرك ما المقصود شرعا به. عندما تأمل يوسف الصديق أيامه التي مضت لما كان طفلاً في أحضان أبويه لما اختطف وبيع عبداً رقيقاً بثمن بخس دراهم معدودة، لما تعرض لفتن النساء في القصور، لما أصبح واليا على شئون المال، لما تربع على عرش مصر، استعرض هذا كله ثم أعجبه القدر وتصرف الله معه فقال: (إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ، إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) [يوسف:100]، ملاحظة اللطف الإلهي في تاريخ البشر، في حياة الناس، في المسالك العادية. اعْبُد الله بهذا، بملاحظة اللطف الإلهي، هذا في تاريخ البشرية.
أما في الأحوال العادية فعندما ترى التراب الميت تنزل عليه المياه من السماء فإذا الحبة المدفونة تخرج حاملة السكر والزلال والدهون والفيتامينات والأملاح، من صنع هذا؟ (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً؟ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) [الحج:63]، لطيف، لطافة ينبغي أن تدرس، علم يدرس، الأسماء الحسنى لها معان كثيرة.
ممكن أن ألحظ معنى "المنان". كيف مَنّ علىَّ أبي؟ كيف منَّ علىّ؟ كيف من على غيري؟ ألاحظ المن الإلهي في كل شيء. ولأبي حامد الغزالي كتاب اسمه "المقصد الأسني في شرح أسماء الله الحسنى" وهو كتاب لطيف.
ينبغي أن يعرف الدعاة إلى الله الفرق بين أنواع التفكير البشري. ابن حزم فيلسوف، لكنه رجل مساح لظاهر الحياة والتواريخ، مع ذكاء غير عادي. ابن تيمية فقيه لا نظير له في حرية الفكر، والأخذ من المنابع الأصيلة للإسلام، ولكنه يحمل دماغ فقيه فقط؛ بينما أبو حامد الغزالي يحمل دماغ فيلسوف، ولذلك فإن كلامه في التربية يكاد يكون المصدر الأول أو الأوحد في الثقافة الإسلامية، وهذه طبائع الخلق. من هنا أحب أن أقول للناس: من أعجبه من التصوف ما ذكرنا فليضبط نفسه بضوابط الشريعة، فالبدع كلها مرفوضة. هذه واحدة.
الأمر الثاني: ما يتصل بقانون السببية، من الظلم أن أقول: إن المتصوفة من أسباب انهيار الحضارة الإسلامية؛ لأنها وهَّنت قانون السببية؛ لأن هذا التوهين اشترك فيه علماء الكلام، وخصوصاً الأشاعرة، واشترك فيه عدد من علماء الحديث.
الحقيقة إن قانون السببية قانون ملزم، وأن ما يقع لهذا القانون من خوارق هو شذوذ، والشذوذ -كما قيل-: يؤكد القاعدة ولا يهدمها. فإذا كانت النار تحرق فالنار تحرق، كون النار لم تحرق إبراهيم فليس معنى هذا أن النار تخلف حريقها أو انهدم قانونها، لا؛ إبراهيم وحده له معجزة خاصة، وبقى القانون على امتداده يطبق على الكل، فلو رميت أحداً في النار فينبغي أن يقبض علىّ على أنني قاتل، وما يغني عني أن يقال: النار كانت برداً وسلاماً على إبراهيم! لا، هذا كلام لا يقال، فالقاعدة قاعدة.
من أسباب انهيار الثقافة الإسلامية أن قانون السببية دعى مع المتصوفين فإن كل رجل طيب فيهم جعلوا خوارق العادات تحشو حياته، فهو يفتح الباب بغير مفتاح، ويطير في الجو بغير جناح، كل شيء سهل، كانت النتيجة أن البحر أصبح طحينة كما يقولون، ولم يبق في حياة البشرية شيء متماسك، ووُجد هذا في كتب الفقه! قرأت في الفقه المالكي وفي الفقه الحنفي -مع أن أبا حنيفة ومالكا من أئمة الرأي وليسوا من أئمة الأثر- ومع ذلك قرأت كلاماً لا بد من رفضه، وما ينبغي أن يقال أبداً، ولا عصمة لأحد بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
من ذلك قول المالكية – في كتاب من حوالي ألف صفحة أعطتنيه حكومة قطر العام الماضي، وكما تعلمون الذي يصلي الظهر في مكة يصليه قبل الذين يصلونه في القاهرة بحوالي خمس وعشرين دقيقة؛ لأن خطوط الطول التي تنظم الوقت لها دخل في هذا، فبين مصر وجرنتش ساعتان، فيجئ سائل في الفقه المالكي ويقول: لو صلى الظهر في مكة ثم طار -كيف طار؟! وهذا الكلام من قرون!- ووصل إلى المغرب فهل يصلى الظهر مرة أخرى لأنه وصل قبل وجوبه على أهل المغرب؟ هذا كلام سخيف، عيب، أسقط العقل الإسلامي في ميدان الاختراع والفيزياء والكيمياء وما إلى ذلك. كلام لا يليق! الطامة التي يقولها الأحناف أن رجلا في المشرق تزوج إمرة في المغرب وولدت دون أن يتصل بها، كيف هذا؟ يقولون : هو ابنه، فقد يكون من أهل الخطوة!.
هذا كلام عيب أن يقال، قانون السببية طحنه المتصوفون بكثير من خوارق العادات، ويجئ رجل ببلاهة فيقول لك: هل تنكر خوارق العادات؟ هل تنكر كرامات الأولياء؟ وفرضنا جدلا أن رجلا أنكر هذا، ابن حزم أنكر هذا ودينه محفوظ، وغيره أقر بها إذا كانت مروية بسند صحيح ورفضها إذا كانت بغير سند صحيح، فالمسألة فرعية لا دخل لها في العقائد، ولا دخل لها في الكفر والإيمان؛ هذا أمر ثان يؤخذ على التصوف.
الأمر الثالث هو ما يتصل بالدنيا، فالدنيا سلاح خطير، يستطيع بها الإنسان بمالها وجاهها وسلطانها أن يخدم عقيدته، وأن يرفع شأنها إذا كان مؤمناً، إذا عبدها الإنسان أودت به، وإذا سخرها في خدمة الحق رفعت مستواه، وأعلت درجته، وذهبت به إلى عليين؛ انظر إلى رجل كعثمان بن عفان -رضي الله عنه- أنفق على جيش، واستطاع أن يجعل المسلمين يكسبون معركة، والآن نجد العجائب؛ لأن المسلمين فقراء في البنغال في بنجلاديش، في الصومال، في أندونسيا، نجد التبشير المسيحي يعرض اللقمة بسرقة العقيدة، كيف نستهين بالدنيا؟ "نعم المال الصالح للرجل الصالح". هكذا علمنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
يقول الله: (وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا) [النساء:5]، التمكين في الدنيا ولاية، منصب كبير، هذا شيء عظيم، يقول الله في يوسف الصديق: (وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ، نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ، وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) [يوسف:56]، سمى التمكين في الأرض رحمة، هذا في الدنيا؛ لأنه بعد ذلك يقول: (وَلَأَجْرُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ) [يوسف:57]، فلما جاء من قبح وجه الدنيا للناس على كل حال خسر المسلمون دنياهم، فلما خسروا دنياهم وتمكن منها أعداؤهم ساوموهم على عقائدهم وشرائعهم وشمائلهم؛ فكانت النتيجة ما نحن فيه!.
الأمر يحتاج إلى إدراك للحقائق؛ ولذلك فإن التراث الصوفي كله كالفقه، ككثير من أبواب الثقافة الإسلامية المختلفة، يحتاج إلى غربلة، وحسن نظر؛ والعصمة لكتاب الله، ولما صح من سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
الحمد لله (الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ) [الشورى:25-26].
وأشهد أن لا إله إلا الله، الملك الحق المبين، وأشهد أن محمداً رسول الله، إمام الأنبياء وسيد المصلحين؛ اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.
أما بعد: أيها الأخوة، لفتت نظري أمور -في هذا الأسبوع- تتصل بطريقتنا في تربية المسلمين، وفي تفهيمهم ما هنالك في دنيا الناس، نظرت إلى صور الشابين اللذين ماتا في (إيرلندا) خدمة لمذهبهما الديني وهو الكاثوليكية، فراعني وأنا انظر إلى الصور أن الصور كانت لشباب نسميه نحن (الخنافس)، شباب وجهه صبيح، متجرد من كل شيء، شعره غزير يكاد يكون على منكبيه، استغربت! طول عمري لا أغتر بالمظاهر، ولا أهتم بالأشكال، لكن حقيقة راعنى أن المعتقد الديني الذي يرسو في قلوب شباب من هذا النوع، فإذا أحدهما يظل تسعة أسابيع يرفض الأكل حتى يموت ويصاب بالعمى، وهو الوسيم الجميل، ولا يبالي؛ وكذلك الشاب الآخر قضى ثمانية أسابيع حتى مات هو الآخر.
اهتمام غيرنا بالتربية التي تنغرس في القلوب لابد أن ندركه نحن، لم؟ لأن عدداً كبيراً من المسلمين لا يفكر إلا في الصور والمظاهر، ويعول عليها كثير جداً، والصور والمظاهر في معارك الحياة الكبيرة ليست كبيرة القيمة، قد تكون الصورة صورة، وكما يقول علماء القانون: الشكل لابد منه حتى يقبل الموضوع. لكن، مع هذا، فإن ديننا اهتم بالقلوب قبل كل شيء، وقال لنا: "إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم". هذا شكل رأيته فأحببت أن أقول لناس كثيرين من البكَّائين على الأشكال: اهتموا إلى جانب الشكل بالموضوع وبالحقيقة. هذه واحدة.
اهتممت أيضا بمحاولة اغتيال (بابا روما)، أنا اكره الاغتيالات؛ لأنها خِسة، لا أحبها بطبيعتي، وعندما جاء قاتل (كليب) بالرمح وقال له: الرمح وراءك. قال له: تعال إلىّ من أمامي، لأن القتل غيلة ليس شرفاً. أنا أحتقر هذا النوع من التصرفات، لكن -في الوقت نفسه- أعجب لكل هذه الضجة العالمية التي اصطنعت اصطناعاً، وافتعلت افتعالاً، بابا روما لا يزال يرى أن القدس لا تُدر إلى العرب، وبابا روما لما ذهب إلى "الفلبين" قال للمسلمين: ضعوا السلاح! وهم يقاتلون عن دينهم؛ وما قال "لماركوس" القاتل: دع الناس أحراراً يتدينون بما يشاءون. فالرجل أتفه من كل هذه الضجة. أنا أرفض -كما قلت- أن يُغتال، والاغتيال لا ينصر قضية لأمة، إنني أكره تكبير الصغار، أكره تكبير الخرافيين، إنني أحترم الرجولة. كَانِسُ طريقٍ يؤمن بأن الله واحد أفضل من رجل على رأسه التاج يقول: إن الله ثلاثة!!!.
"اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر".
(رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [الحشر:10].
(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل:90].
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي