الخطة الجديدة لضرب الإسلام

محمد الغزالي
عناصر الخطبة
  1. خطة الإلهاء والتغفيل قديما .
  2. تجهيل عقول المسلمين بالتفسير المادي للتراث الإسلامي .
  3. دور الشيوعية المادية في تغييب المسلمين عن واقعهم .
  4. تزيين الأفكار المعادية للإسلام .
  5. إخراس الجُهال المتعاقلين ضرورةٌ لنهضة الأمة .

اقتباس

إن الإسلام دين يقوم على العقائد والعبادات والمعاملات والأخلاق، وكما يهتم بتقديم الغذاء الواجب للمعدة يهتم -قبل ذلك وبعده- بتقديم الهدى الواجب للقلب الإنساني، ويستحيل أن يُشغل بعمل عن عمل، فهو كما يهتم بأن يلبسك لباس التقوى، يهتم بأن يوارى سوأتك، وأن يجعلك تزدان في ملابس، بل في زينة، تكفل بها ضروريَّاتك ومرفِّهاتك على سواء..

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير.

وأشهد أن محمداً رسول الله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير. اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.

أما بعد: فإن أعداء الإسلام لجؤوا إلى خطة جديدة في النيل منه، خطة تنطوي على شيء غير قليل من المكر السيئ، والكيد الخبيث؛ كانت الخطط القديمة تقوم على تقوية التعليم المدني وإضعاف التعليم الديني؛ حتى تشب الأجيال الإسلامية الناشئة وهى ضعيفة البصر بحقائق الإسلام، ضعيفة البصر بمزالق الشيطان.

كانت الخطط القديمة تقوم على تكثير ميادين اللهو واللغو، وجعل مصايد الشهوات تنطبق على أقدام السائرين؛ فيشغل الناس باللهو واللعب، عن الحق والخير. وكانت الخطط القديمة تقوم على أنواع كثيرة مما يزهِّدُ الناس في دينهم، ويغريهم بأي أمر آخر غير الحديث عن الدين، والعمل به، والسهر على مستقبله، والخوف من المهالك التي تراد له.

لكن بدا كأن الخطط القديمة لم تؤت ثمارها كما يبغي أولئك الذين وضعوها، فوضعوا خطة جديدة نحب أن نلفت النظر إليها، قد تكون هذه الخطة هي الخطة التي ستنفرد بالسوق، أو تنضم إلى ما قبلها من خطط ليزداد الطين بلة أمام المتدينين والحُرَّص على إيمانهم.

لا ندرى بالضبط ما سوف يقع، إنما الذي نحب أن نكشفه هو أبعاد الخطة الجديدة. تقوم هذه الخطة على اتهام المسلمين وعلمائهم بأنهم لا يفهمون الإسلام، وأن فهم الإسلام -على حقيقته- احتاج إلى عبقرية اختصوا هم بها، وعرفوا هم الأسلوب الوحيد لشرح الوحي الإلهي!!.

فهم يقولون: أنتم تدرسون أن للذكر مثل حظ الأنثيين، لكن لا تدرون أن هذا كان قديما لظروف اقتصادية وثقافية، فإن المرأة كانت تجهل ولا تعلم، وكانت تكسل ولا تعمل، أما الآن فهي كالرجل علما، وهى كالرجل عملا، ومن هنا فدعوا الحديث عن أن للمرأة نصف حظ الرجل من الميراث، فهذا كلام قديم، أنتم لا تفهمون القرآن!.

وهم يقولون: أنتم تحرمون الخنزير، وهذا قصور في الفهم، لقد كان تحريم الخنزير يوم كانت المراعى رديئة، ولم يكن هناك أطباء بيطريون يكشفون على اللحوم، ويفحصون ما قد يكون بها من ديدان مهلكة؛ لكن الآن ذهب هذا القصور الصحي، وبالتالي لا يجوز أن تقولوا: إن لحم الخنزير نجس، أو لا يجوز أكله.

على هذا النحو من تحريف الكلم عن مواضعه، وتشويه الحقائق اللغوية والعلمية للنص، وجد فكر جديد، مهمة هذا الفكر أن يقول لك لقد كانت رسالة الإسلام إصلاحا اجتماعيا واقتصاديا مبكرا في تقدمه وفى خطواته نحو الرقي العالمي.

يقول لك: لقد كان محمد زعيما اقتصاديا جاء ليرجح جانب الفقراء الذين ظُلموا؛ وليجعل كفتهم تميل نحو مصلحتهم، لا نحو القلة المستأثرة بالمنفعة والتي احتكرت المصلحة لجانبها. ويتبع هذا الكلام بأن رسالة الإسلام رسالة مادية اقتصادية دخلت في معركة "الخبز"؛ لأنها تريد أن تنصف الجياع، وأن تكسو العراة.

أما أن الإسلام دين يأمر الناس بأن يؤمنوا بالغيب، وأن يوحدوا ربهم، وأن يعبدوه على ما يسدي إليهم من نعم، وأن يحيوا وفق أمره ونهيه ووصاياه وحدوده، فهذا كلام لا يقال، وبناء على هذا اعتبر صاحب الرسالة مصلحا اقتصاديا، أو محررا اجتماعيا!.

ثم ذُكِر تاريخ الصحابة، فقيل إنه كان فيهم يمين ويسار. وما اليمين واليسار؟ هذه كلمات اخترعت أيام الثورة الفرنسية، لكن هذه الكلمات طبقت كما يريد هؤلاء على عصر الصحابة، فاعتبر أن عمارا وأبا ذر هم قادة الإصلاح الإسلامي، أما أبو بكر وعمر وعثمان وعلى وأبو عبيدة وعبد الرحمن بن عوف وطلحة وغيرهم من قادة هذا الدين فهم يمينٌ جارَ على الأمة، وأكل حقوقها!.

وبدأ عرض الإسلام على هذا النحو، أي إن الذين يحاربون الإسلام دخلوا في خطة جديدة أساسها أن يفسر الإسلام وفق المادية الجدلية، أو وفق التفسير المادي للتاريخ، وبالتالي فلا يؤخذ منه إلا هذا الجانب الاقتصادي، ويطرح ما عداه من جوانب!.

الخطة الجديدة خطورتها أنها كذب على الإسلام، وجهل بنصوصه ومعانيه، وقيمه ومبادئه، إلى جانب هذا فإن أولئك الذين مضوا في خطتهم الجديدة لتشويه الإسلام ونشر الجهل بحقائقه ضموا إلى هذا جهدا آخر، هذا الجهد هو زخرفة المبادئ المعادية للإسلام، وستر عوراتها البادية، ورفض جوانب هائلة من حقائقها المريبة الكريهة، رفض اطلاع الجماهير على هذه الجوانب حتى تقع فيها وهى لا تدرى كنهها.

إن سكان القارات الخمس -من مثقفين وعامة- يدركون الماركسية كما قدمها طاغيتها ومفكر الشيوعية الكبير "كارل ماركس" تعتبر أن الدين مخدر للشعوب، وأن الحياة هي المادة، وأن الروح خرافة، وأن الدنيا هي الأمل الأول والأخير لكل من في بدنه حس، فليس بعد الدنيا آخرة ولا بعد الحياة على الأرض عيشة أخرى.

يعلم الناس أن هذا هو الفكر المادي، هكذا يدرس هناك، وأن الشيوعية لما أخذت مرحلتها التطبيقية في "روسيا" أو في "الصين" اعتبرت الأديان مخلفات يجب الإجهاز عليها، وإخماد أنفاسها، واختير رجال الحزب الرسميون ممن بدا في سلوكهم وفكرهم الكفر بالله والمرسلين جميعا، وعلمنا علم اليقين أن من بدت عليه أعراض التدين من أعضاء الحزب طرد شر طردة، ولم يمكن من منصب قيادي هناك، وعرف أن موقف الشيوعية من الدين إما أن تلجأ إلى حمامات الدم لتصفية الجماهير الكثيفة التي تعتنقه، أو أن تترك بعض البيئات يتغير المناخ فيها كما تغير الطقس على بعض الحيوانات القديمة فبادت تلقائيا!.

هذا المعنى مؤكد ومعروف حتى جاء الغشاشون الدساسون ممن يفسرون الإسلام على أنه مادية جدلية، وخطوة اقتصادية، وممن يفسرون حياة الصحابة على أنها قد تقسمها اليمين واليسار، إلى آخر هذا اللغو؛ حتى جاء هؤلاء فزعموا أن الحياة الاجتماعية في روسيا والصين حياة اصطلحت مع الدين، واحترمت القرآن، وأقيمت في جوانبها الصلوات، وسيرت مواكب الحجيج!.

وهذا كله من أفضح الكذب وأجرئه على الله وعلى الناس، نريد أن نعرف الحقائق في هذه المجالات؛ لأن كل شيء في حياتنا الاجتماعية يجعلنا نستبين بوارق الشر، ونذُر الضلال من هنا ومن هنا؛ لنحرس ديننا ممن يهاجمونه، سيما وأن الفكر الشيوعي كان مطاردا في "مصر"، ثم بعد ثورة 23 يوليو سنة 1952م أخذ هذا الفكر يبذر بذوره، ويستعيد نشاطه، ويكابر العوائق التي كانت موضوعة قديما أمامه، وأمكن في يوم ما أن يوجد معهد في "حلوان "يدرس الشيوعية باسم الاشتراكية، وتخلَّل أجهزة الإعلام في الإذاعة المرئية والمسموعة وفى الصحافة اليومية والأسبوعية كثير من الحُمُر الذين يكفرون بالله والمرسَلين، ويحتالون على سرقة العقائد بأساليب كثيرة.

فإذا غير هؤلاء خططهم، وانضم إليهم من أعداء الإسلام قوم آخرون، فلا بد أن نكشف الخطة الجديدة، وأن نبين الحقائق التي يحتاج الناس إلى معرفتها. الذي نعرفه أن حالة المسلمين في "روسيا" وفى "الصين" تمضى بهم إن قريبا وإن بعيدا إلى أودية التلَف وأماكن الفناء والتلاشي.

كان المسلمون أيام القيصرية في روسيا نحو ثلاثين مليونا، وكان سكان روسيا نحو مائة وعشرين مليونا، أي كان المسلمون ربع السكان، فإذا بلغ الروس الآن مائتي مليون فكان يجب أن يكون المسلمون خمسين مليونا على الأقل، بل كان يجب أن يكونوا ستين أو سبعين مليونا، لأن المسلمين في العالم كله معروفون بالعفة، والعفة أساس في تكاثر النسل! فإن الذين يبعثرون نطفهم هنا وهناك لن يكون لهم شيء، وربما وجد بعض اللقطاء، ولكنها بقية تفنى، أما جو الأسرة فهو الذي يكثر فيه الأولاد، وتنمو فيه باسم الله.

كان المفروض أن يكون المسلمون ستين أو سبعين مليونا، أي ثلث السكان فيما يسمى "الاتحاد السوفيتي"، لكن الذي حدث أن آخر تعداد وصف المسلمين هناك بأنهم نحو سبعة عشر مليونا؛ أي إن حمامات الدم، ومؤامرات الاضطهاد، وخطط التصفية، تعمل في صمت لإبادة هؤلاء المسلمين المنكودين!.

لعل أخبث وأحقر استعمار عالمي هو الاستعمار الروسي، ولكن تجهيل المسلمين في هذه الحقيقة مقصود، لماذا؟ روسيا تشمل -الآن- جانبا من أوربا، وجوانب كثيرة من آسيا، وما تملكه من آسيا يساوى تقريبا أفريقيا الإسلامية، وهذه كلها أرض إسلامية مائة في المائة!.

كانت "سيبيريا" أرضا إسلامية، ولها ملك مسلم ظل يقاتل حتى فقدت عينه، وهُزم جيشه، وأرغم على أن يمضى معاهدة استسلام فأبى، ومات وهو يأبى! ولكن المثقفين في بلدنا يدرسون "روما" ويدرسون "فرنسا" ولا يدرسون "سيبيريا"!.

هكذا وُضِع التخطيط للعقلية الإسلامية حتى تشب جاهلة، وقد نشرت هذه الصفحات في كتاب لي مُنِع دخوله "مصر" عدة سنين، وطبع ثلاث طبعات في الخارج، وضحت فيه هذه الحقائق، وضحت فيه أن روسيا الأوربية كانت تساوى -تقريبا- في مساحتها مساحة "مصر"، نحو أربعمائة ألف ميل، ولكنها دخلت الأرض الإسلامية في "تركستان"، وتركستان في مساحة مصر والسودان وجزيرة العرب! الأرض إسلامية مائة في المائة، والمسلمون لا يعرفون هذا، لا يعرفون أن "البخاري" من "أوزبكستان"؛ لأن الاستعمار الروسي محا الاسم القديم، محا عنوان الوطنية القديمة، والقومية الأولى، والديانة الأولى؛ الاستعمار مسح كل صلة للأرض بأصحابها، ودينهم ويومهم وغدهم، وقيل: الاتحاد السوفيتي! ولو قيل لشعوب الاتحاد السوفيتي: تذهب كلُّ أمَّةٍ إلى دينها وجنسها؛ لأصبحت روسيا بلدا صغيرا في شرق أوربا.

لكن هذا الاستعمار يغطيه بعض المثقفين هنا فلا يجعلون الناس يتبينون فضايحه ومظالمه. المسلمون في روسيا يملكون أخصب البقاع وأغناها، ولو أن روسيا جردت من الأرض الإسلامية التي استولت عليها؛ لعاش شعبها فقيرا، لكنه من أرض الإسلام يأكل، ومن بنيه يغتني وينتفخ!.

ثم يجئ بعض حملة الأقلام، وكُتَّاب الصحف، وسماسرة الغزو الثقافي في بلدنا، ليقولوا: إن روسيا تؤمن بالله واليوم الآخِر، وإن بها مساجد يصلى فيها المصلون، وإن... إلى آخر سلسلة الأكاذيب التي برع فيها من برع. نحن نريد أن يعرف الناس الحقائق، إن الأمة العربية خانت الإسلام خيانة فاجرة، ونتج عن هذه الخيانة أن الله أهانها وجعل المستعمرين يضربونها على أم رأسها، ويستبيحون أرضها؛ لأنها خانت الإسلام!.

نحن -ببساطة- نعتبر "فلسطين" أرضا إسلامية يجب أن تستعاد، ولكن، لم لا تستعاد "تركستان"؟ لم لا تستعاد "الأورال"؟ لم لا تستعاد "القرم"؟ لم لا تستعاد الأرض الإسلامية التي أكلها الاستعمار الروسي؟.

لكن كلمة "استعمار روسي" اختفت من القواميس، اختفت من الصحافة! لأن العملاء الذين يأكلون من موائد الغرب والشرق معا يريدون هذا، حتى يقال: لا استعمار هنالك. مع أن الاستعمار الإنكليزي -علي شراسته، وخباثته، وسوء ما خلف في أرضنا- كان أقل شرَّا، وأضعف أثرا، من الاستعمار الروسي في البلاد الإسلامية التي نُكبت به. نحن لا نفاضل بين شر وشر، ولكننا نريد أن يعرف الناس الحقائق!.

المعروف من مكر الفلسفة الحمراء أنها تركب قمة الموجة، وتختفي وراء مواكب النصر التي تقع بعد الانتكاسات أو الانقلابات الكبيرة، وهذا هو الذي حدث في "البرتغال" فإن الأمة هناك بينت أنها لا تريد النظام الشيوعي، ولكن النظام العسكري هناك يريد فرض الشيوعية قسرا!.

إن انتشار الشيوعية لن يتم إلا بعد تدمير معاقل إسلامية كبيرة، فلم يتمكن الذين اعتنقوا الشيوعية أو خدموها من إلغاء "الأزهر"، ولكن أمكنهم أن يطوروه حتى يتوصلوا إلى إلغائه! وهذا هو الذي حدث من خدام الاستعمار في "تونس" فإنهم لم يستطيعوا إلغاء جامع "الزيتونة" وهو يؤدى في المجتمع التونسي ما يؤديه الأزهر في المجتمع المصري، فاحتالوا على الأمر بتطوير الدراسة هناك حتى يتخرج متدينون عجاف، أو علماء قاصرون، أو ناس لا يحسنون أداء الرسالة الإسلامية؛ وبذلك يمكن أن ينهار الإسلام، وأن تتلاشى معالم كتابه، وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-.

والذي حدث في العالم العربي أنه لما اشتبك مع الاستعمار العالمي انتهزت الشيوعية الموقف وعرضت على الحكام -هنا- السلاح لكن بشروط أحصيناها:

الشرط الأول: أن تبقى إسرائيل داخل حدودها، فلا تهاجَم، ولا تُمس، ولا يجرؤ أحد على النيل منها.

الشرط الثاني: أن السلاح الذي يأخذه العرب سلاح دفاعي.

الشرط الثالث: أن هذا السلاح يباع بأغلى الأثمان. فلو جاء الآن من يعيد النظر في ديون روسيا لدى مصر لوجد أن ألوف الملايين التي ندان بها ليست في حقيقتها إلا بضع مئات فقط، ولكن الشيء الذي يباع بقرش سجل علينا في الدفتر بعشرة قروش، والمغفلون يشترون، وهؤلاء يسجلون، ونحن مكلفون بالدفع -الآن- من قوتنا، من ثمرات أرضنا، من حصيلة تعبنا.

الشرط الرابع: أنه لكي نأخذ هذا السلاح الدفاعي الباهظ الثمن يجب أن يمكَّن للدعاة الشيوعيين أن ينطلقوا، وكما يمكَّن هؤلاء من الانطلاق في المعاهد الاشتراكية، أو في الصحافة اليومية والأسبوعية، يجب أن تضرب الجبهة الإسلامية في صميمها، فإذا ارتفع رأس فيها قطع، وإذا تحرك لسان أخرس، وإذا وجدت تجمعات قوية بُدِّدَتْ. هذا كله حتى ينطلق الباطل دون أن يكون أمامه ما يعوقه.

والشيء الأخير في هذا "قطع الغيار" فإنه يكفى أن تفسد "لمبة" في جهاز حتى يقول الخبير الروسي: الجهاز كله لا يصلح. كان يمكن أن تصلح بخمسة قروش، لا، الجهاز كله يشترى، لأن الجهاز الموجود أصبح معطوبا لا قيمة له، ويضاف هذا إلى قائمة الديون!.

هذه هي المساعدات الروسية للعالم العربي، يجب أن ندرك أن القوى الكافرة بالله، سواء كانت ملحدة أو غير ملحدة، قد تضافرت جميعا على ضرب الإسلام.

يبقى أن نذكر شيئا لابد أن نذكره هو أن الإسلام رسالة عامة خالدة ضمن بها الحق -جل شأنه- ما يكفل للناس معاشهم ومعادهم، وما يضمن لهم ماديتهم ومعنوياتهم، وما يغنيهم عن حلول غلط يقعون فيها في غيبة الوحي.

إن الإسلام دين يقوم على العقائد والعبادات والمعاملات والأخلاق، وكما يهتم بتقديم الغذاء الواجب للمعدة يهتم -قبل ذلك وبعده- بتقديم الهدى الواجب للقلب الإنساني، ويستحيل أن يُشغل بعمل عن عمل، فهو كما يهتم بأن يلبسك لباس التقوى، يهتم بأن يوارى سوأتك، وأن يجعلك تزدان في ملابس، بل في زينة، تكفل بها ضروريَّاتك ومرفِّهاتك على سواء.

الإسلام دين شامل ينبغي، أن يستبشر المتعبون به، وأن يستريحوا إليه: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) [النحل:89]، ربما تضمن هذا الدين مجموعة من التعاليم التي يُصطلح -الآن علميا- بوصفها اقتصادية، أو يصطلح علميا بوصفها اجتماعية، أو يصطلح علميا بوصفها إيمانية أو غيبية، هذه الاصطلاحات لا نهتم بها، إنما الذي نهتم به أن مجموعة التعاليم تُغنى وتسد الحاجات البدنية والروحية للناس.

خذ مثلا حديثا يعطيك فكرة عن الإسلام كله، وهو: "الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان". أعلى ما في الدين أن تعرف مَن خلقك، وأن توقره، وأن تشكره، وأن تستعد للقائه، وأن ترتبط به. من تعاليم هذا الدين-لأنها بضع وستون أو بضع وسبعون شعبة-مجموعة اقتصادية تتصل بإيتاء الزكاة، وإنفاق المال في وجوه شتى يحتاج إليها المجتمع، وإذا كان من شُعب هذا الدين منع الأذى عن الطريق، فهل يُمنع الأذى من الطريق ليسير فيه الكادحون ناكسي رؤوسهم لأنهم مظلومون؟!.

إن الإسلام -في تعاليمه الاقتصادية- اعترف برأس المال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ) [النساء:29]، وقال: (وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا) [النساء:5]. والإسلام إنما اعترف برأس المال لأن الإنسان أحسن مستغل لماله، فهو يشد زناد النشاط الإنساني إلى آخر مدى عندما يعترف بالملكية الخاصة، ولهذا كان الإنتاج في جو الملكية الخاصة إنتاجا ضخما كثيفا، أما في جو القطاع العام أو في جو الشيوعية السائدة فإن الإنتاج يضعف بيقين! ومهما قيل في المغريات، وأنواع الإرهاب، والسياط التي تمسك بها الأنظمة الاستبدادية، فإن الإنتاج فيها أضعف -يقينا- من الإنتاج في البلاد التي تحرر فيها رأس المال من القيود المصطنعة.

لكن الإسلام الذي اعترف بحق التملك واحترم رأس المال أثقله بالحقوق الاجتماعية، وبين أن لكل عامل حقا في أن يأخذ أجرا وأن لكل عاطل حقا في أن يأخذ عونا، وبين الإسلام أن المجتمع متماسك يأخذ قويه بضعيفه وغنيه بفقيره وعالمه بجاهله، بل إن الركب يسير وفق خطا الضعيف لأن الضعيف أمير الركب.

فلسفة الإسلام الاقتصادية تحتاج إلى محاضرة خاصة، لكننا نلفت النظر إلى شيء خطير، هناك من يحارب الشيوعية لحساب رأس المال المستغل الجائر في الشرق أو في الغرب، في العرب أو في العجم، وهناك من يحارب رأس المال لحساب الجهة المقابلة، نحن لا نحارب الشيوعية لحساب رأس المال المتسلِّط، ولا نحارب رأس المال المتسلط لحساب الشيوعية، ولكننا -من ثلاثين سنة- نعرض الإسلام على أنه يرفض الرأسمالية الجائرة، كما يرفض الشيوعية الكافرة، وأن ناسا ينتسبون إلى الإسلام ربما جاروا عليه وأساءوا إليه بغباوتهم، أو بسوء كسبهم، أو باستحلالهم السحت. وما أكثر هؤلاء في الأنظمة كلها! حتى ما يدعى أنه اشتراكي، فكم من لصوص كبار تغلغلوا في النظم الاشتراكية واستطاعوا أن يجتاحوا من أموال الأمة ما تترنح الأمم الآن بسببه!.

إننا نرفض أن نحارب مذهبا اجتماعيا لحساب مذهب آخر، فإننا ندافع عن وحى الله، وعن تراث محمد -صلى الله عليه وسلم- وعن تطبيقات الخلافة الراشدة، وعن هذا الدين الذي صان الله لنا أصوله، وعرَّفَنا ما ينبغي أن نؤديه؛ ولذلك فإننا ننظر نظرة غريبة إلى الهجوم الذي شُن أخيرا على شيخ الأزهر، لا لأننا نهتم بشخص شيخ الأزهر، ولكننا نرى أن التحرك الشيوعي له ما وراءه، وأن مناوشة شيخ الأزهر تعنى تصديا لهذا الدين ولممثليه، تتم به حلقة أخرى إلى جانب حلقات سبقت لضرب المتحدثين باسم الإسلام، والنيل منهم، وشلِّ حركاتهم.

إن هذا كله يجعلنا نذكر الأمة بأن انطلاق الشيوعية على هذا النحو يجب أن تتصدى له الجماهير الإسلامية بالاستنكار والضيق.

الخطبة الثانية:

الحمد لله (الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ) [الشورى:25-26].

وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين. وأشهد أن محمدا رسول الله، إمام النبيين، وسيد المصلحين.

اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.

أما بعد: عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، واعلموا أيها المسلمون أن هناك ناسا يتاجرون بكلمات طنانة لها رنين، كما قيل: يُشبه رنين قطعة النقد المزيفة، كلمات طنانة عن العلم، عن النظريات العلمية، فإذا تمشيت مع هؤلاء وجدت أن الجبل تضخم ثم تمخض عن فأر!.

قصة تحديد النسل قصة انكشفت، لم؟ سألني البعض وأجبت، ولم ينشر ما أجبت به، قلت له: لقد رأيت اليهود قد صدرت إليهم الأوامر بتكثير النسل، ورأيت الكاثوليك صدرت إليهم الأوامر بتكثير النسل، ورأيت الهندوك صدرت إليهم الأوامر بتكثير النسل، ورأيت الروس صدرت إليهم الأوامر بتكثير النسل، وهم يعطون نحو مليوني جائزة سنويا -تسمى جائزة الدولة للاتحاد السوفيتي أو شيئا من هذا القبيل- لكل أم أنجبت أكثر من غيرها!. وجدت الآن -وفى يوم الناس هذا- أن كل ذي دين صدر إليه الأمر بتكثير النسل، وقرأنا في الصحف -هذا الأسبوع- أن فرنسا زادت في الإحصاء الأخير بضعة ملايين!.

فقلت: هل مشكلة زيادة السكان لا تُحل إلا بفناء الأمة الإسلامية وقلة عددها؟ ما هذا أيها الناس؟ كل ذى دين ينفذ أوامر مشددة بتكثير النسل إلا المسلمين فإن الأوامر مشددة بتقليل النسل! ويجئ اليوم من يكتب في إحدى الصحف عن نظرية النسبية، نظرية الكم، نظرية التكاثر، نظرية العدد!.

هذا الهراء الذي يكتبه بعض المتعاقلين، وما أكثر المتعاقلين في مجتمعنا الذي تضخم فيه التافهون! ذكَّرني بكلمة المتنبيء:

وَمَا التِّيهُ طِبِّى فِيهُمُ غَيْرَ أَنَّنٍى *** بَغِيضٌ إلى الجَاهِلُ الـمُتَعَاقِلُ

ما أكثر الجُهَّالَ المتعاقلين في صحافتنا! وفى إذاعتنا! وفى وسائل الإعلام عندنا! ماذا يريد الكاتب؟ يريد تحديد النسل آخر الأمر، ويقيم الدنيا ويقعدها، ويقيم النظريات العلمية ويقعدها؛ لكي يقل النسل الإسلامي وحده! وهو يعلم أن النسل زاد في فرنسا وفى إيطاليا وفى روسيا وفى الهند وفى كل مكان! ما المقصود؟ المقصود أن يقل المسلمون وحدهم.

هؤلاء الأوغاد السماسرة الذين يعملون ضد الإسلام هل يعلمون أن هذا الكلام ليس إلا تغطية لفشل الاقتصاد الذي وضعته مراكز القوة في بلدنا؟ لو كان الاقتصاد المصري بين أيدي علماء الاقتصاد من عشرين سنة لكانت مصر قادرة على أن تُطعم ثمانين مليونا!.

متى يسكت الجهَلة؟ متى يتاح للعلماء في كل مضمار أن يقودوا هذه الأمة؟ متى نؤدي حق الله علينا بأدب؟ متى تخرس السفهاء فلا ينطقون؟ يبدو أن هذه التساؤلات لن نجد الإجابة عليها كما ينبغي!.

إنني أطلب من المسلمين أن يتشبثوا بدينهم أمام الاستعمار، وأمام الشيوعيين، وأمام القوى التي وضعت خطة جديدة لتفسير القرآن، وتفسير السنة، وتفسير التاريخ الإسلامي، على نحو لم يعرفه عالم مسلم، ولا حتى مستشرق خبيث، من أربعة عشر قرنا إلى يوم الناس هذا؟!.

"اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر ".

(رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [الحشر:10].

عباد الله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل:90].


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي