فقد سألني البعض عن العلاقة بين الإسلام وما سبقه من أديان، وما نزل قبله من كتب، وعن علاقة نبيه -صلى الله عليه وسلم- بالمرسلين الذين قادوا قوافل البشر من قبله، وهدوا الناس إلى الصراط المستقيم؛ وذلك السؤال لمناسبة ما قرأه من شبهات سطرها المستشرقون، ورددها أتباعهم ممن لا يُحسنون إلا التقليد الأعمى، وإلا نقل الأفكار المستوردة، دون استبانة لحقيقتها ..
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد وهو على كل شيء قدير. وأشهد أن محمداً رسول الله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير. اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.
أما بعد: فقد سألني البعض عن العلاقة بين الإسلام وما سبقه من أديان، وما نزل قبله من كتب، وعن علاقة نبيه -صلى الله عليه وسلم- بالمرسلين الذين قادوا قوافل البشر من قبله، وهدوا الناس إلى الصراط المستقيم؛ وذلك السؤال لمناسبة ما قرأه من شبهات سطرها المستشرقون، ورددها أتباعهم ممن لا يُحسنون إلا التقليد الأعمى، وإلا نقل الأفكار المستوردة، دون استبانة لحقيقتها.
قلت له: هذا سؤال يحتاج إلى إجابة مُفصلة، ولا بأس أن يطول النفَس فيها حتى نعرف حقاً ما العلاقة التي تربطنا بغيرنا، وما صلة نبينا -صلى الله عليه وسلم- بإخوته المرسلين الذين سبقوه إلى رفع راية الحق، وهداية البشر.
هناك محور يجمع بين تعاليم الأنبياء كلهم، وتدور عليه هذه التعاليم على اختلاف المكان والزمان؛ أساس هذا المحور أن الدين الحق يقوم على معرفة الله عز وجل معرفة صحيحة، وعلى الخضوع له خضوعاً مطلقاً، بمعنى أننا يجب أن نؤمن بالله وحده إيماناً راسخاً، وأن نشعر بأنه ليس له ند، ولا ضد، ولا صاحبة، ولا ولد: (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا) [الإسراء:111].
مع هذه المعرفة الصحيحة التي جاء الأنبياء كلهم من لدُن آدم أول الأنبياء، ومن لدن نوح أول المرسلين، إلى خاتمهم وكبيرهم وإمامهم محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم-، كان هذا المعنى -معنى توحيد الله، وأن ما عداه عبد رِقٌّ له وحده- منتشراً على ألسنة الكل، ونقله المرسلون كابراً عن كابر: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) [الأنبياء:25].
إلى جانب هذا الإيمان الواضح، لابد من عمل صالح، لابد أن نخضع لوحي الله، وأن نسير في الطريق التي رسمها الله لنا، وأن نتبع الخُطة التي وضعها، وفيها سعادتنا ونجاتنا، وهذه الخطة خلاصتها: (تِلْكَ الدَّارُ الْآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا...) [القصص:83].
فلابد أن نعيش صالحين مُصلحين، ولابد أن نعيش مؤدين للعبادات المطلوبة منا؛ وما شُرع في الإسلام من عقائد وعبادات، ومعاملات وأخلاق، هو صورة مكبرة لما بدأ شرعه على لسان الأنبياء الأولين من عقائد وعبادات، ومعاملات وأخلاق، فإن الطريق واحدة، والهدف واحد.
ولابد وأن يجمع الناس بين الإيمان والصلاح، بين اليقين والاستقامة، بين صدق المعرفة لله وبين حُسن العمل بما أمر، إذا جمع الناس بين هذين فهم مؤمنون حقاً؛ والجمع بين الإيمان الواضح والعمل الصالح لُخص في كلمة واحدة هي: الإسلام!.
يخطيء بعض الناس فيتصور أن لله ديناً جاء به نوح، وأن لله ديناً جاء به عيسى، وأن لله ديناً جاء به محمد -صلى الله عليه وسلم-، لا! الذين عند الله واحد، أركانه ومعالمه ما ذكرناه الآن، هذا الدين الواحد له رجال بلغوا معناه، وشرحوا تفاصيله، هم المرسلون، والدين اسمه الإسلام.
كلمة الإسلام وردت على لسان أول المرسلين نوح عليه السلام، وعلى ألسنة من جاء بعده، قال تعالى: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآَيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ * فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) [يونس:71-72]، هذا نوح يقول: (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ)!.
إبراهيم -عليه السلام- هو جذع الشجرة التي تفرع منها أنبياء كثيرون على العصور والأمصار المختلفة كان شعاره الإسلام: (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ، هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ...) [الحج:78].
ابنه يعقوب، الملقب بإسرائيل، يقول الله على لسانه: (أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آَبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) [البقرة:133].
يوسف -عليه السلام-، وهو أشرف أولاد يعقوب، وأجدرهم بالاحترام، يقول: (رَبِّ قَدْ آَتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) [يوسف:101].
سليمان -عليه السلام- يرسل إلى بلقيس يدعوها إلى الدين: (إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) [النمل:30-31].
موسى -عليه السلام- كان يدعو إلى الإسلام: (وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آَمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ *فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) [يونس:84-85].
عيسى -عليه السلام- كان مسلماً يدعو إلى الإسلام: (فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) [آل عمران:52].
الأنبياء جميعاً كانوا يدعون إلى الإسلام، وصلة الإسلام الذي جاء به محمد -صلى الله عليه وسلم- بالنسبة للإسلام الذي جاء به الأنبياء من قبل صلة الإنسان بطفولته، فأنا وعُمري خمس سنين، أنا وعُمرى خمسون سنة! كل ما هنالك أن العقل نضج، وأن الجسم كبر، ولكن أنا لم أتغير جسماً وكياناً.
فحقائق الإسلام الأصلية موجودة في الرسالات الأولى، ولكنها في القرآن الكريم نمت واتضحت وكثرت أدلتها، وتلاقت البراهين عليها في وفرة وإحاطة لم تعرف في كتاب سبق؛ والعقائد والعبادات والتعاليم التي استوعبها القرآن والتي تمثل الحقيقة الضخمة للإسلام تجمعت عندنا في سياق لا يدركه محو ولا تغيير، يكابر الزمن ولا يجرؤ الزمن أن ينال منه، وهذا شيء يحتاج إلى توضيح.
أما أن القرآن أو تعاليم الإسلام هي ما مضى فقد قال جل شأنه: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ...) [الشورى:13]، وقال جل شأنه: (مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ) [فصلت:43].
فإذا كان الإسلام دين الله، وإذا كان الأنبياء السابقون مُدرسين في مدرسة ناظرها أو مديرها محمد -صلى الله عليه وسلم-، والكل يسعى إلى حقيقة واحدة، فما العلاقة بين القرآن الكريم وبين الكتب السابقة؟ الجواب: لا خلاف بيننا -نحن المسلمين- في أن القرآن مُصدق كل التصديق للتوراة التي نزلت على موسى، وللإنجيل الذي نزل على عيسى، وللصحف التي نزلت على إبراهيم. يقول الله في آخر سورة الأعلى: (إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى) [الأعلى:18-19]
فإذا زكى القرآن الكتب القديمة فعلى النحو الذي شرحنا، فالتوراة التي نزلت على موسى، والإنجيل الذي نزل على عيسى، والصحف التي نزلت على إبراهيم، كل هذه الكتب موضع احترامنا، والإيمان بها كالإيمان بأصحابها، جزء من تعاليم الإسلام، وركن من أركان الإيمان؛ في سورة البقرة، في الآيات الأولى منها: (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) [البقرة:4].
هذه حقيقة لابد أن تُعرف. لكن يجئ سؤال له خطورته: أين صحف إبراهيم؟ اختفت انتهت مع الزمن. أين توراة موسى؟ أين إنجيل عيسى؟ نتساءل لنجيب أولئك المستشرقين الذين يتساءلون: كيف يمدح القرآن التوراة والإنجيل؟ ويقول في التوراة: (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ) [المائدة:44]، ويقول في الإنجيل: (وَقَفَّيْنَا عَلَى آَثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآَتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) [المائدة:46].
كيف يتحدث القرآن عن الكتب التي تنزلت على أنبياء الله بهذا الأسلوب الجميل اللطيف؟ ثم كيف نُوفق بين ذلك وبين موقف المسلمين من هذه الكتب؟ والجواب: أن التوراة التي نزلت على موسى كتبها الكاتبون وإن لم يحفظها الحافظون؛ لأن الكتاب الوحيد الذي حفظت أحرفه عن ظهر قلب هو القرآن وحده! أما ما عداه فما كان يحفظ بهذا النسق الفريد.
التوراة بعد أن تعرض اليهود للشتات، وبعد أن دُمر هيكلهم، ومزقوا في الأرض شَرَّ مُمَزَّقٍ، اختفت وضاع تواترها، ثم كتبت مرة أخرى كتابة لا نستطيع أن نقول إنها طبق الأصل لما نزل على موسى. لماذا؟ الجواب هو أن الله -جل شأنه- الذي وصف نفسه بالوحدانية المطلقة وبأنه: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشورى:11]، وبأنه: (عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ) [الرعد:9]؛ لا يمكن أن تقبل الصفات التي وجدت له في التوراة التي كتبت أخيراً، وكذلك الأشخاص الذين اختارهم لتبليغ رسالاته، وهم ما يُختارون عادة إلا من أشراف الناس، ما يمكن أن تقبل الأوصاف التي وصفوا بها في التوراة الموجودة الآن.
كيف هذا؟ يوصف الله تعالى بأنه تعب بعد أن خلق السماوات والأرض في ستة أيام فاستراح في اليوم السابع! والله عز وجلَّ لا يتعب، قال تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ) [ق:38]، وفي التوراة الموجودة الآن أن الله لا يعلم ما يقع في الجنة ولم يعرف أن آدم عصى، وفيها أيضاً أن الله ندم وبكى على ما فعل ببني إسرائيل! وفيها كذلك أن الله دخل في ملاكمة مع إسرائيل ظلت طوال الليل كأن إسرائيل هذا يشبه "محمد على كلاي"! هذا كلام لا يقال عن الله رب السماوات والأرض، هذا كلام تافه.
ثم جاءت في التوراة صفات أخرى غريبة عن أنبياء الله، منها أن إبراهيم قدم امرأته هدية إلى فرعون مصر كي يظفر ببعض الحمير، كأن إبراهيم هذا رجل ديوث! وفيها أن لوطاً أسكرته ابنتاه فزنى بهما، وأنجب من كل واحدة منهما قبيلة من القبائل، وفيها أن داود احتال على قتل رجل من قواده أعجب بامرأته! كلام فارغ لا أصل له وُجدد في هذه التوراة.
إلى جانب هذا فيها إلى الآن أن الزاني يرجم إذا كان متزوجاً، وأن القاتل يُقتل. فهذه الكتب،كما قال الله تعالى، التبس فيها الحق بالباطل، فيها حق وفيها باطل، فيها حق ما نستطيع أن ننكره، فيها باطل ما نستطيع أن نصدقه.
والغريب أن هؤلاء بالنسبة إلى ما لديهم من حق لم ينفذوه، وبالنسبة لما لديهم من باطل تعصبوا له والتفوا حوله، فكان فسادهم مزدوجاً، ما بقى من حق أهمل، وما اختلق من باطل تُعصب له.
إذن، فمدحُ القرآن الكريم لهذه الكتب يرجع إلى أمرين: الأمر الأول أن أصلها الذي نزل على موسى صحيح يقينا، وهو موضع احترامنا، ونحن نؤمن بموسى النبي الرسول، ونحن نؤمن بما أنزل الله عليه؛ ما لديهم من كتب فيه حق قليل وباطل كثير، نسوا الحق الذي لديهم والتفوا حول الباطل الذي لديهم، فنحن نؤيد الحق ونكذب الباطل، ونعتبر كتابنا المرجع الذي تُحاكَم إليه الصحف التي بين أيدي الناس، فما وافق كتابنا علمنا أنه صحيح.
فإذا وُجد في هذه الكتب أن الزنا باطل لا يجوز، وأن القتل منكر لا يجوز، فهذا كلام صحيح لا نكذبه؛ وإذا وُجد أن الله واحد لا نكذب هذا؛ إنما نكذب ما خالف كتابنا إذ كتابنا هو المرجع المهيمن الحاكم المصدق على ما قبله من كتب. قال تعالى: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ...) [المائدة:48].
بالنسبة إلى الإنجيل فالإنجيل كتاب نزل على عيسى، ولا يوجد الآن في دنيا الناس ما يُسمى إنجيلاً نزل على عيسى! اختفى هذا الكتاب كما اختفت الصحائف التي نزلت على إبراهيم وموسى، وما يوجد من الإنجيل فهو نتف أو نبذ كتبها بعض التلامذة الذين حضروا عليه، أو الذين لم يروه، وألفوا سيراً أو قصصا تضم حياته وبعض ما وصلهم من تعاليمه.
وهذه الكتب كثرت، وعلى كثرتها أو قلتها لا تسمى إنجيلاً، وتسميتها إنجيلاً نوع من التجوز، أو نوع من إطلاق الكلام بغير حقائقه، لأن ما نزل على عيسى غير موجود، وما كتبه "متى أو يوحنا أو لوقا أو مارقوس" لا يسمى إنجيلاً.
لقد كتب "ابن هشام" سيرة لمحمد -صلى الله عليه وسلم-، وكتبت أنا سيرة لمحمد -عليه الصلاة والسلام- فهل ما كتبناه نحن أو غيرنا يعتبر قرآنا لمحمد -عليه الصلاة والسلام-؟ لا هذه كتب ألفها بعض التلامذة والأتباع تضمنت بعض التعاليم.
فإذا نظرنا إلى الأناجيل التي تشيع الآن وجدناها قصصا كتبها بعض تلامذة عيسى عنه، تضمنت حقاً وباطلاً، فأما الحق فإن الله واحد كما جاء في بعض النصوص، وأما الباطل فأن الله ثلاثة كما جاء في بعض النصوص.
فإذا مدح القرآنُ التوراةَ أو الإنجيلَ فهو لا يمدح توراة وُصِفَ فيها لوطٌ بأنه سِكِّير وزانٍ. وإذا مدح القرآن الإنجيل فهر لا يمدح إنجيلا وصف فيه الله بأنه ثالث ثلاثة! أو أنه إنسان دخل بطن امرأة ثم قُتِل! هذا كلام لا أصل له، وما يمكن أن يعتبر القرآن متناقضا؛ لأن الأمر كما شرحناه لكم.
نحن نؤمن بموسى وعيسى، ونؤمن بالكتب التي تنزلت عليهما، فأين هي هذه الكتب؟! لا توجد إطلاقا، أو توجد وفيها خطأ وصواب، وفيها حق وباطل، وفيها صدق وكذب. وشيء آخر نحب أن يعرف، سألني بعض العامة يقول لي: إنه سمع إنسانا يقول: إن الحي أفضل من الميت، وعيسى حي وغيره مات! وضحكت لهذا الكلام، إن بعض الحمالين في المحطات أحياء، وبعض الأنبياء ماتوا، فهل الحي أفضل من قمم الخليقة الذين ماتوا؟! كلام مضحك، ومع هذا فأنا أحب أن أشرح الفكر الإسلامي في هذا المجال شرحا لا عوج فيه.
ربما ورثنا بعض الأقوال، وجهلنا أقوالا أخرى، فبالنسبة إلى عيسى بن مريم -على نبينا وعليه الصلاة والسلام- اتفقت كلمة المسلمين على أنه لم يقتل ولم يصلب، وهذا نص حاسم في قرآننا لم نختلف عليه، ولكنَّ هناك خلافا لاشك فيه عند علمائنا هو كيف كانت نهايته؟ قال بعضهم: مات موتا طبيعيا كغيره من سائر الخلق، وقال آخرون: بل رفع رفعا لا ندريه، كلا الرأيين موجود في الإسلام، ففقهاء الظاهر في تراثنا يرون أن عيسى مات، ويستدلون على ذلك بظاهر القرآن الكريم: (فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ) [المائدة:117]، وابن حزم في كتابه "المحلى" يشرح هذا فيقول: كلمة الوفاة ليس لها إلا معنيان: معنى الموت، ومعنى النوم. فمن قال: إن عيسى نائم فهو كاذب، فلم يبق إلا أنه مات. وهذا رأى في الإسلام.
وكما اختلف العلماء في هل يقرأ الإنسان خلف الإمام أم يسكت، كذلك اختلفوا: هل عيسى مات أو لم يمت؟ كلا الرأيين موجود، وليس هناك من حرج في أن ترى أي الرأيين شئت.
الرأي الآخر أن عيسى لم يمت وإنما رفع بطريقة لا ندري كنهها يستدل أصحابه بقوله تعالى: (بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ) [النساء:158]، ويرد ابن حزم ومن معه بأن الرفع هنا معنوي، كقوله تعالى في إدريس: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا * وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا) [مريم:56-57].
وأنأ شخصيا عندما أناقش طائفة من أهل الكتاب توصف بالتبجح أحب أن أخرسها، فأخلص من الأمر ابتداء بأن أقول لهم: لقد مات عيسى كما مات غيره من الناس، ولا أريد لجاجة، ولا أحب أن أسمع لغوا كثيرا؛ لا يعنيني الآن أي الرأيين أقرب إلى الصواب، إنما الذي يعنيني هو أن يعرف المسلمون دينهم معرفة صحيحة، وألا يقفوا عند ظواهر بعض الآيات كوقفة أحد البسطاء الذي جاء إلى عبد الله بن عباس -رضي الله تعالى عنهما- وقال له: إن القرآن يتشابه علي. فقال له: ويحك! ما الذي يتشابه عليك فيه؟ قال: هناك آية تقول: (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ) [الصافات:34]، وأقرأ آية أخرى تقول: (فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ) [الرحمن:39]. فقال له ابن عباس -رضي الله عنهما-: إنها مواقف! يقصد ابن عباس أن المجرم قبل أن تثبت التهمة عليه يقدم إلى المحاكمة ويسأل؛ فإذا ثبتت التهمة بعد التحقيق وسيق إلى السجن فإنه لا يسأل. يعنى: قبل أن يبت في الحكم: (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ). بعد الحكم: (فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ).
هذا وصف لموقف، وذاك وصف لموقف آخر، ولا تناقض ولا تشابه. فإذا قال القرآن: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ) [المائدة:73]، فلا يقولن أحد: كيف يطعن القرآن في المثلِّثين مع أنه مدح الإنجيل! هذا شأن وذاك شأن آخر، ولا تشابه ولا تناقض.
الحمد لله: (الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ) [الشورى:25-26].
وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين. وأشهد أن محمدا رسول الله إمام الأنبياء وسيد المصلحين، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله، وأصحابه، والتابعين.
أما بعد: أيها الأخوة: مما يذكر في مثل هذه الأمور أن كلمة "آية" لها معنيان في الإسلام: فكلمة آية قد تكون بمعنى المعجزة الخارقة للعادة.. قال تعالى: (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آَيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا) [الأنعام:109]، فكلمة آية هنا: تعنى خارق العادة الذي يقترحه المشركون. وكلمة آية تعنى: الجمل من القرآن، كما قال تعالى: (تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ) [يوسف:1، الشعراء:2، القصص:2]، الآية هنا غير الآية هناك، فيجئ بعض الناس ويقول: في القرآن تناقض! أين هذا التناقض؟ يقول: في إحدى السور قال الله: (وَإِذَا بَدَّلْنَا آَيَةً مَكَانَ آَيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ) [النحل:101]، وفى سورة أخرى يقول: (َلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ) [الأنعام:34]؛ والجواب: أنه لا مبدل لكلمات الله في الآيات التي قال الله فيها : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [الزلزلة:7-8]، أما خوارق العادات فتبدل، فإن الله تعالى أيد موسى بمعجزة وغيَّرَها، وأيد عيسى بمعجزة أخرى وغيرها، وأيد محمدا -صلى الله عليه وسلم- بآية أخرى، وهكذا... فأين التناقض؟ ولكنه القصور العقلي، وطول اللسان، لا تناقض هناك، وكذب المستشرقون والمبشرون.
إنما يحتاج المسلمون إلى أن يعلموا دينهم، وأن يعرفوا حقائقه، فإذا علموا دينهم، وعرفوا حقائقه، ثم مدوا أبصارهم في الكتب الأخرى؛ لحمدوا الله عز وجل ظاهرا وباطنا، سرا وعلنا؛ على أن الله تعالى جعلهم أتباع محمد -صلى الله عليه وسلم-، ولم يجعلهم ضحايا للإفك والكذب، والتناقض المضحك في العقائد، كما وقع في ذلك غيرهم. الحمد لله على نعمة الإيمان وتوفيق الإسلام.
"اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر".
(رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [الحشر:10].
عباد الله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل:90].
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي