تأملات في سورة الممتحنة

محمد الغزالي
عناصر الخطبة
  1. حياة المسلم لله ووفق منطق الإيمان .
  2. سبب نزول السورة: قصة حاطب بن أبي بلتعة .
  3. إرساء قاعدةٍ للولاء والبراء .
  4. التعامل مع المهاجرات المؤمنات ومبايعتهن .

اقتباس

ففي القرآن الكريم سورة يمر أكثر الناس بها لا يلقون إليها بالا، لعل غرابة أسلوبها، وطرافة موضوعها، جعلها لا تقف بإزائها، ولا تحملهم على تدبرها واستبانة ما فيها، وأمُرُّ بهذه السورة فأتدبرها وأقف طويلا بإزائها، وأحيانا أسميها سورة الحب في الله والبغض في الله، أو سورة التعصب للحق، أو سورة الوفاء للمبدأ أو العيش به ومن أجله ..

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. وأشهد أن محمدا رسول الله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير. اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه والتابعين.

أما بعد: أيها الناس ففي القرآن الكريم سورة يمر أكثر الناس بها لا يلقون إليها بالا، لعل غرابة أسلوبها، وطرافة موضوعها، جعلها لا تقف بإزائها، ولا تحملهم على تدبرها واستبانة ما فيها، وأمُرُّ بهذه السورة فأتدبرها وأقف طويلا بإزائها، وأحيانا أسميها سورة الحب في الله والبغض في الله، أو سورة التعصب للحق، أو سورة الوفاء للمبدأ أو العيش به ومن أجله.

هذه السورة اسمها في المصحف سورة "الممتحنة"، وكلمة الممتحنة تعنى: المرأة التي هاجرت من مكة إلى المدينة تاركة زوجها وعشيرتها وأهلها مؤثرة عليهم جميعا أن تذهب إلى المدينة المنورة كي تلحق بالمجتمع الإسلامي وتعيش في كنفه، هذه المرأة هي التي سميت السورة باسمها، ونزلت فيها آيات سوف نقرؤها.

لكن السورة كما ذكرت لكم تدور حول محور أعمق، وتتجه إلى أهداف أبعد، ومع أنها نزلت من أربعة عشر قرنا، وأحاطت بنزولها مناسبات خاصة، إلا أن هذه السورة لا تزال تزكي مشاعر نحن بحاجة اليوم إلى إزكائها، وتقرر أحكاما نحن بحاجة اليوم إلى تقريرها.

والسورة عند النظر السريع تتكون من ثلاثة أقسام، قسمها الأول نزل في السنة الثامنة من الهجرة -قُبيل فتح مكة- في نفس الاستعداد للفتح والنفير العام، الذي عبئت فيه قوى المسلمين في المدينة كي يستعدوا لهذا الفتح.

أما وسط السورة المتعلق باسمها -وهو الممتحنة- فإنه نزل في السنة السادسة أوائل السابعة بعد معاهدة الحديبية، وأما آخر السورة فنزل بعد فتح مكة في السنة الثامنة، وهذا ترتيب غريب في السورة أن يكون أولها في صدر الثامنة، وآخرها بعد الثامنة، ووسطها قبل السابعة! ولكن الذي استيقنا منه أن المصحف الذي نقرؤه الآن على الترتيب الموجود عليه هو هو المصحف بترتيبه في سجل اللوح المحفوظ عند رب العالمين، ولكن ينزل منه أو نزل منه أول ما نزل وفق المناسبات التي تتطلب توجيها خاصا وهداية معينة، فإذا نزلت هذه الهدايات تلبية للمناسبات التي طلبتها فإن صاحب الرسالة -صلى الله عليه وسلم- يأمر بوضع الآيات في المكان الذي يلهمه الله أن يأمر بوضعها فيه وفق ترتيب المصحف عند رب العالمين.

إن الواحد منكم قد يفتح المصحف فيقرأ أول ما يقرأ فاتحة الكتاب، وهو يعلم أنها نزلت بعد المدثر، ويقرأ بعدها سورة البقرة، وهو يعلم أنها نزلت بعد فاتحة الكتاب بأكثر من ثلاث عشرة سنة، أي في العهد الأول للهجرة، لكن هذا النزول المتأخر غيّر الترتيب عند الله في اللوح المحفوظ، بدليل أن قارئ الفاتحة يدعو في ختامها: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) [الفاتحة:6]، وتجئ سورة البقرة بيانا لطريق الهدى فيقول جل شأنه: (ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ) [البقرة:2]، فالسورة الصغيرة التي فتح بها المصحف جاءت سورة البقرة تلبية وإجابة لدعاء المؤمنين فيها. فالترتيب عند الله قائم حسب مصحفنا الذي نقرؤه، فكل محاولة لتغيير هذا الترتيب أو الخروج عليه فهي محاولة تمزيق الوحي، وإبعاد الناس عن الترتيب الطبيعي له.

إن السورة كلها نزلت كي تجعل المسلم يحيا لمعتقده، ويعيش وفق منطق الإيمان، فإذا أملى الإيمان حبا أحببنا، وإذا أملى كرها كرهنا، وإذا أملى زواجا تزوجنا، وإذا أملى طلاقا طلقنا، وإذا أملى بيعة بايعنا، وإذا أملى قطيعة قطعنا. أساس السورة أنها نزلت كي تجعل المؤمنين يحيون لله؛ ولذلك بدأت السورة تؤكد معنىً ما أحوج المسلمين إليه في أيامهم هذه!: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ) أي: أصدقاء، (تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ)، ماذا صنعوا؟ (وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ)؛ لأنكم آمنتم بالله أخرجوكم (إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي) أي: فلا تفعلوا هذا، وعلى مَن تخبؤون نياتكم؟ وتطوون أعمالا غير لائقة في طواياكم؟ (تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ) [الممتحنة:1].

نزلت هذه الآيات قُبَيْل فتح مكة، والسبب في نزولها أن رجلا من المسلمين اعترته ساعة ضعف، فلما علم بذكائه أن العدة تُعد لفتح مكة أرسل كتابا مع إحدى النساء إلى أصدقاء له في مكة يبلغهم بما يقع في المدينة، وكأنما يحذرهم ما يعد لهم. هذا تصرف غريب، هذا عمل لا يليق، وقد يوصف بالخيانة، كيف يقع هذا العمل؟ إن الرجل اعتذر عن نفسه لما كشف عمله وقبض على خطابه الذي أرسله، قال للنبي -صلى الله عليه وسلم-: أنا رجل مؤمن، ولكني في مكة لا عزوة لى ولا مكانة، وخشيت أن تدور بالمسلمين الدوائر؛ فأردت أن تكون لي يد هناك، إذا ما أصبنا لم ينكلوا لي! والنبي -صلى الله عليه وسلم- كما وصفه رب العالمين: (بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [التوبة:128].

إن عمر -رضي الله عنه- قال: يقتل هذا المنافق! لكن النبي -صلى الله عليه وسلم- في محاكمته للرجل نظر إلى ماضيه، فوجده صاحب ماضٍ طيِّب، فمِن أمجاده أنه ممن حضروا "بدرا" فعذر الرجل، أو بتعبير أدق رق له، وقدر أن ساعة ضعف ألمت به فجعلته يرتكب مالا يليق، وقرر أن يعفو عنه، لكن العفو عنه ربما فهم الناس منه أن ذلك الموقف يُقبل، أو سهل، أو يتجاوز عنه، وهذا لا يمكن أبدا.

ويستحيل أن تكون لهذا الموقف عند الله صفة القبول، إنها في ذلة أن تُضرب فتستكين، إنها وضاعة أن يعتدي عليك فتقبل العدوان في دينك ودنياك، إنه لا يجوز إذا أهين الإنسان في معتقده، وإذا أصيب في كرامته الدينية والدنيوية، لا يجوز بتاتا أن تلقى ذلك بالتسليم والخنوع، يجب أن يغضب لربه ونفسه، يجب أن يمنع أي شعور بالرضا أو بالهوادة يتسلل إلى فؤاده، يجب أن يغضب لله، وأن يحقد على من أهان الإسلام والمسلمين، ومن استباح حرماتهم، وتجاوز حدودهم، ونال منهم، ولذلك نزلت الآية هنا في مطلع تلك السورة تكره للمسلمين هذا الموقف، وتقول لهم: (لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ).

ثم بيَّن جل شأنه أن هؤلاء الذين هادناهم، أو أرسلناهم، أو أسررنا مودتهم، بين أن هؤلاء يكرهون الإيمان، ويحبون أن يجتثوه من جذوره، وأن يأتوا عليه من قواعده، وأن يروا المؤمنين كفارا ليس فيهم موحد، وليس فيهم من تبقى على الإسلام، أو يعتز بالانتساب إليه، فقال مبينا حالهم: (إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ) [الممتحنة:2].

ثم بين جل شأنه أن الصلات التي تربط بين الناس بالدم أو بالمال أو بأي نوع من الصدقات أو المهادنات لا قيمة لها عند الله: (لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [الممتحنة:3].

ما الموقف الواجب؟ ما المسلك المفروض على المؤمن في مثل هذه الأحوال؟ المسلك ما صنعه إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- والمؤمنون معه ضد أعدائهم الكافرين بالله: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ) [الممتحنة:4].

إن قول إبراهيم لأبيه مستثنى من القدوة الحسنة، لأن قول إبراهيم لأبيه إنما حدث لأن إبراهيم أمَّل في إيمان أبيه ولذلك دعا له، لكنه لما علم أن أباه عدو لله تبرأ منه: (وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) [التوبة:114]، هذا المعنى له تتمة نذكرها بعد قليل، قبل أن نذكر هذه التتمة نريد أن نعرض لوسط السورة وآخرها.

وسط السورة تحدث عن الممتحنة التي سميت السورة باسمها، حدث في السنة السادسة للهجرة أن عاهد النبي -صلى الله عليه وسلم- قريشا معاهدة تضمنت شروطا مثيرة في ظاهرها مستغربة في نصوصها، فإن هذه الشروط تضمنت: أن من ترك مكة مؤمنا لم يستقبله المسلمون في المدينة ولم يفتحوا أبوابهم له، وأن من ترك المدينة مرتدا تركه المؤمنون ليلحق بالمشركين في مكة دون عائق.

هذا الشرط معروف أن النبي -صلى الله عليه وسلم- اتخذه وأن بعض المسلمين حاك في نفسه شيء من الضيق والتردد لولا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- حسم الأمر وأمضى العقد، ورجع المؤمنون إلى التسليم لله ولرسوله، ومضت المعاهدة دون أن يعترضها بعد ذلك شيء، لكن نزل القرآن الكريم باستثناء يقول: إذا خرج مؤمن من مكة وفوا بالعهد فلا تستقبلوه في المدينة ما دام ذاك ما تعاهدتم عليه، لكن إذا خرجت امرأة مؤمنة من مكة تريد اللحاق بالمدينة فلتفتح لها الأبواب، ولا يجوز أن ترد إلى مكة إلى زوجها أو أهلها بعد أن تركَتْهم ابتغاء ما عند الله.

إننا قبلنا ألا تفتح الأبواب في المدينة للرجال، أرض الله واسعة يستطيعون أن يخدموا الإيمان في أي مكان، يستطيعون بولائهم لعقيدتهم أن يستقروا في أية بقعة من الأرض وأن يجعلوا منها وطنا جديدا للإسلام، أما المرأة إذا منعت من أن تدخل المدينة فإنها تتعرض لبلاء ومتاعب ما تستطيع أن تتحملها، فنزل قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ) [الممتحنة:10]، أي: اختبروهن، ترى هل خرجن فعلا بدوافع الإيمان الخالص والتقوى لرب العالمين؟ أم خرجت امرأة منهن طالبة ريبة أو مبتغية شهوة جنسية؟ فإذا استيقنا من أنها خرجت مؤمنة حقا اتسعت لها المدينة، واتسعت لها القلوب، ووجب أن تستقر في المدينة المنورة استقرارا لا ريب فيه.

بل مضى الإسلام في طريقه -منبها المسلمين إلى شيء يجمل بهم- مضى الإسلام يقول: ما دامت هذه المرأة جاءت مؤمنة تاركة زوجها الكافر فينبغي أن تتركوا أنتم معشر الرجال الزوجات المشركات، ولا بأس أن تتزوجوا المؤمنات المهاجرات المقبلات ما دام قد استبان أنهن خرجن لله كارهاتٍ للكفر والكافرين، فلتكن المكافأة لهن أن يجدن بيوت المؤمنين مفتحة لهن: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إلى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآَتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا) [الممتحنة:10]، أي: عوضوا الكفار الذين تركتهم زوجاتهم، أعطوهم تعويضا، أعطوهم ما دفعوا من مهر، ثم: (وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ) يفسخ العقد بينكم وبين الزوجات الكافرات، وهنا تستطيعون معشر المؤمنين أن تستبدلوا بهن أولئك النسوة المهاجرات، هذا تصرف بنى تشريعه على أساس عاطفة الحب في الله والبغض في الله وتقدير ذلك.

كان ذلك في السنة السادسة والسابعة أيام عهد الحديبية، ثم فتحت مكة في السنة الثامنة، ودخل كثير من الرجال في الإسلام، بايعهم النبي -صلى الله عليه وسلم- غداة الفتح، ثم انعقدت بيعة أخرى للنساء، وبيعة النساء جاءت بعد بيعة الرجال؛ ليعلم أن المجتمع لابد أن يكون طرفاه أو جناحاه أو جنساه معا على درجة واحدة في الاتصال بالإسلام، والفقه في تعاليمه، والأداء لحقوق الله المقررة، والاستقامة مع مكارم الأخلاق، ومحاسن الشيم.

وجاءت النسوة المبايعات ورئيستهن أو طليعتهن امرأة أبى سفيان -هند بنت عتبة- آكلة كبد حمزة بن عبد المطلب، سيد الشهداء، وعم النبي -صلى الله عليه وسلم-، لكن محا الإيمان ما صنعت، افتتحت صفحة جديدة بإيمانها، كنا نكرهها لله فأصبحنا بعد أن آمنت نقبلها ونرضى ببيعتها، بل نطلبها لتلك البيعة: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [الممتحنة:10].

أضع خطوطا تحت كلمة (وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ) كأن أحدا، ولو كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، لا يطاع إلا في معروف، ويستحيل أن يأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا بالمعروف، ولكن كلمة (وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ) إشارة وتوكيد إلى العلاقات بين الناس جميعا لا تحترم إلا إذا كانت وفق مراد الله وما يرضاه، وما قرره في دينه، وما رسمه في وحيه، أي وفق قواعد المعروف، أما المنكر فلا طاعة فيه لأحد أبدا، وختمت السورة بعد ذلك بآية أكدت أولها، وفي الوقت الذي أكدت فيه أولها تجعلنا نسأل عن التتمة التي وعدت بها، يقول الله آخر السورة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآَخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ) [الممتحنة:13].

هل معنى النهي عن تولى الكافرين أو مصادقة الكافرين، هل معنى ذلك أن مجرد الاختلاف في الدين يؤسس عداوة بين المسلمين وغيرهم من خلق الله؟ لا. هذا غير صحيح، مجرد الاختلاف في الدين لا ينشئ عداوة بين المسلمين وغيرهم من الناس، فإن الاختلاف في الدين قد تكون له أسباب فوق إرادات الخلق.

الإسلام دين عدل، ودين إنصاف، ودين منطق سديد، وكما قلت لكم: تميز الإسلام بأنه دين العقل والعدل، إنه يقول: الخلاف في الدين ليس سبب العداوة، إنما سبب العداوة أن يجيء أحد الذين خالفوني في ديني فيجور علي، ويتنكر لي، ويبتغي الريبة في مجتمعي، ويطلب النكال لي دون سبب، هذا الذي ينال مني هو الذي ينبغي أن أنظر إليه شررا، وأرمقه بعين فيها ضيق وغضب، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِذَا نَادَيْتُمْ إلى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ) [المائدة:57-58]، كأن الذي يلعب أو يستهزئ لي، أو يتعرض لي أو يهاجمني، أو يفعل أفعالا سخيفة بإزائي، هذا هو الذي لا يجوز أن أصادقه، ولا يجوز أن أتولاه.

فلنعد إلى السورة التي شرحنا صدرها، ورأينا كيف نهي الله فيها عن مصادقة أعداء الله وأعدائنا، قال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ)، نجد أنه بعد عدة آيات يقول: (عسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [الممتحنة:7]، إن ديننا يشتاق إلى السلام، وإلى إقراره، وإلى الأمن والطمأنينة، وعهودهما الرخية الطيبة، ويبني على هذا حكما محددا فيقول: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) [الممتحنة:8]، البر والقسط صفتان أعامل بهما مخالفي في الدين، البر والقسط، (إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [الممتحنة:9].

هذه سورة الممتحنة، سورة الحب والبغض في الله، سورة التعصب للحق والمبدأ، ومعاملة الناس على أساس ذلك كله. ولنا تعقيب عملي على ذلك في الخطبة الثانية إن شاء الله.

الخطبة الثانية:

الحمد لله (الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ) [الشورى:25-26].

وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين. وأشهد أن سيدنا محمدا رسول الله إمام الأنبياء وسيد المصلحين. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.

أما بعد: أيها الأخوة: لم يحدث على طول التاريخ الإسلامي أن كان المسلمون أصحاب تعصب أحمق، أو أصحاب عنجهية غبية في معاملة غيرهم من الناس الذين لا يؤمنون بدينهم، بل مع أن التاريخ الإسلامي تضمن أخطاء كثيرة للحكام ولبعض الفقهاء، إلا أن هذا التاريخ ليس فيه أن المسلمين عاملوا مخالفيهم في الرأي بالغباوة والضغينة والتحدي الذي انطوت عليه قلوب غير المسلمين عندما يحكمون ويتولون الأمور.

وقد قال لي مسلم ساذج، وهو تعبير مخفف لأني اعتبرته مسلما مغفلا، قال لي: إن قانون بناء الكنائس مخالف لنص الدستور الذي يبيح حرية العقيدة. فقلت له: إن هذا القانون لابد منه، وهو قانون محترم، ولم يسنه الحكام لكي يصادروا به عبادة، أو يضيقوا به على طائفة، أو يفرضوا الإسلام على أحد من الناس، ولكنك إنسان لم تدرس ولم تدرك، ثم اندفعتَ بسذاجة أو بغفلة تحكم حكما ربما دمرت به بلدك ودينك! قال لى: كيف؟ قلت له: لو أن إخواننا الأقباط أرادوا بناء كنيسة لهم ليعبدوا الله فيها ومنعهم المسلمون فأنا معهم ضد المسلمين حتى تبنى كنيستهم التي يعبدون الله فيها! عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- رفض أن يصلى في الكنيسة حتى لا يتخذ المسلمون الكنيسة مسجدا، وجعلها تبقى لهم كنيسة، وهذا عهد الله عندنا، وشرف الإسلام فيما علمنا.

لكن هناك شيء يفعل لا صلة له بحرية الاعتقاد، يوم يطلب الأقباط بناء كنيسة للعبادة فلتبن لهم كنيستهم، أما إذا كانت لديهم كنيسة يعبدون الله فيها وتسعهم بيقين ثم أرادوا بناء ثانية وثالثة ورابعة، هنا يقال: لم؟ لا معنى لهذا التزيد في البناء، وهذا التوسع فيما لا معنى له.

إن الصليبية العالمية توعز إلى عملائها أن يضعوا الطابع المسيحي على الأرض حتى يضار الإسلام، ويفهم أن هذه الأرض ليست أرض الإسلام! هذا خطأ، مادامت هناك كنيسة تكفي فلا معنى لبناء ثانية وثالثة ورابعة، ولا معنى لتحدي الكثرة المسلمة، إن " لبنان " أوعز الأوربيون إلى الموارنة هناك أن يضعوا الصلبان على الجبال حفرا، وأن يقيموا معالم تحمل شارة الصليب! لم؟ لأن المراد صبغ الأرض بالصيغة المسيحية، أو طبع الأرض بالطابع الصليبي، لا معنى لهذا إذا كانت كثرة الأمة مسلمة.

إذا كنت تريد عبادة فأنا أبني لك ما تعبد الله فيه، أما أن تريد بناء ما يعنى في قيامه أن الأرض ليست للإسلام وأن المسلمين الكثرة قلة فهذا هو التحدي الذي لا معنى له، والحكومة مقدَّرة السلوك، مشكورة التصرف عندما استبقت هذا القانون؛ لأنه قانون حكيم وعادل.

أفرض أنى أصلي في الأزهر، فجاء رجل أحمق فأراد أن يبني كنيسة أمام الأزهر! لم تبنيها أمام الأزهر؟ تريد إثارة فتنة، ليست هذه عبادة. إن الإسلام هدم مسجد الضرار، وهو مسجد، لأنه بني لغير العبادة، فلا معنى لأن تبنى كنيسة أمام الأزهر، ابنِها في مكان آخر وتعبد الله وأنت مطمئن في هذا المكان، إذا هناك فرق بين بناء الكنيسة لعبادة الله، وبين بناء الكنيسة لوضع الطابع الصليبي على الأرض، ومكاثرة الأمة التي تسعة أعشارها مسلمون، كي يقال: إن التراب ترابنا والبلد بلدنا، إلى غير ذلك من السخف المنكور، والادعاء المغموص، الذي لا وزن له في التاريخ.

ومع ذلك فإني مرة أخرى أقول للمسلمين: والله ما طمع فيكم طامع إلا لأنكم أسأتم الصلة بربكم، وأوهنتم العمل بكتابكم، واجترأتم على حدود الله فيما بينكم، ولو أنكم أديتم حق الله عليكم كاملا، ونهضتم بالمطلوب منكم وافرا، ما فكر أحد في أن ينال منكم، ولكن الأمر كما قال القائل:
إذا أنتَ لمْ تَعْرِفْ لِنَفْسِكَ حَقَّهَا *** هَواناً بِها كانَتْ على النَّاسِ أهْوَنا
وألفت النظر إلى أن مستقبل بلدنا محفوف بالأخطار، وأن الغد القريب والبعيد يتطلب من المسلمين عقلا ووعيا.

"اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر".

(رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [الحشر:10].

(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل:90].


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي