لقد تتبَّعتُ بِبَصَري مؤسساتٍ وجماعاتٍ وأفراداً وأشخاصاً، فوجدت أن كثيراً مما أهلك الأمة الإسلامية يعود إلى تصرفات صغيرة، وإلي أعمال تافهة، كان يمكن للإنسان أن يتسامى فوقها، وأن يرقب نفسه فلا يتدلى إليها، ولكننا أحياناً نطمئن إلى أننا مسلمون، ثم لا نفهم من الإسلام أنه إسلام القلب والجوارح جميعاً لله ..
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن محمداً رسول الله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.
أما بعد: فالناس رجلان: أحدهما صالح، والآخر طالح. فالصالح شخص عرف ربه معرفة حسنة، وأدى حقه قدر ما يستطيع، وخالَق الناس بخلق حسن، وعاش في دنياه مجتهداً أن يسير على الصراط المستقيم إلى أن يأتيه اليقين، فيلقى الله على ذلك.
أما الطالح: فرجل انقطعت بالله صلته، فلم يقدِّره حق قدره، ولم يؤد ما ينبغي أن يؤديه من حقوق، ولم يدع ما يجب أن يدعه من شرور، يظل كذلك إلى أن يلقى ربه فيجزيه بما صنع، (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَاللّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ) [آل عمران:30].
هذا الوصف يصدق على الأشخاص العاديين، رجل خيره في نفسه، وربما امتد قليلاً إلى ما حوله، أو رجل شرُّه في نفسه، وربما امتد قليلاً إلى ما حوله.
لكن هناك أشخاصاً في نفوسهم طاقات كبيرة، زودوا في أصل الخلقة بمواهب ضخمة، ربما استغلت في الخير، وربما استغلت في الشر، وخيرهم يوم يكونون أخياراً تتسع دائرته لتشملهم وكثيرين ممن حولهم، أو كثيرين ممن يجيئون بعدهم، وهؤلاء قادة في الخير؛ وهناك ناس شرهم يتجاوز أشخاصهم، ويعدوهم إلى غيرهم، فهو يمتد حولهم، بل ربما انطلق بعد مماتهم، وهؤلاء قادة في الشر.
هناك قادة للخير، وهناك قادة للشر، في الحديث الشريف: "إن من الناس مفاتيح للخير، مغاليق للشر. وإن من الناس مفاتيح للشر، مغاليق للخير. فطوبى لمن جعل الله مفاتيح الخير على يديه! وويل لمن جعل الله مفاتيح الشر على يديه!" أخرجه ابن ماجه.
هناك قادة للخير، قادة للفكر يصنعونه وفق القوالب التي صبها الدين، وارتضاها الرحمن؛ وهناك قادة للفكر يصنعون الناس وفق القوالب التي صبها الشيطان، وارتضاها إبليس. هناك قادة للخير، وقادة للشر.
القرآن الكريم وصف القادة في كلا الميدانين: في ميدان الخير يقول عن قادة الفكر الصالحين المصلحين الراشدين: (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ) [الأنبياء:73]. أما أئمة الشر فهو يقول فيهم: (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنصَرُونَ * وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُم مِّنَ الْمَقْبُوحِينَ) [القصص:41، 42].
هناك قادة للفكر الصالح، وهناك قادة للفكر الخبيث. قادة الفكر الطيب أولهم أو قممهم الأنبياء ومن سلك طريقهم، واقتفي أثرهم، وعاش يقتبس من سناهم؛ هؤلاء القادة هم مصابيح الخير للناس، هؤلاء القادة هم مصابيح الخير للناس، هؤلاء القادة صالحون في أنفسهم، مصلحون لغيرهم، وهم شهداء الله على خلقه.
روي البخاري عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال، قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " اِقْرأْ علَيَّ" قلت: أقرأ عليك وعليك أنزل؟! قال: "إني أشتهي أن اسمعه من غيري" فقرأتُ النساء حتى إذا بلغت: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَـؤُلاء شَهِيداً) [النساء:41] قال لي: "كُفَّ أو أَمْسِك". فرأيت عينيه تذرفان. أخرجه البخاري. قال العلماء: بكاء النبي -صلى الله عليه وسلم- إنما كان لعظيم ما تضمنته هذه الآية من هول المطلع وشدة الأمر، إذ يؤتي بالأنبياء شهداء على أممهم بالتصديق والتكذيب، ويؤتي به عليه -صلى الله عليه وسلم- يوم القيامة شهيداً.
الشهداء من أنبياء الله كثيرون، والخير الذي قدموه للناس نابع من سيرتهم ومن تبليغهم، وما سيرة عطرة أو تبليغ صادق إلا ورب العزة يودع في ثناياه ما يجعله قديراً في الحياة وبعد الممات على توجيه الناس إلى الخير؛ ولذلك فإن الذكرى الحسنة التي تجدد الحياة بعد الموت لصاحبها تكون امتداداً لدعوته في الدنيا، والله عز وجل عندما خلد ذكرى الأخيار من خلقه خلدهم بمناقبهم وشمائلهم: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً) [مريم:54، 55].
إذا كان صدق الوعد والأمر بالصلاة والزكاة مناقب تخلد أصحابها، فهناك كذلك مناقب ينبغي أن تعرف من أئمة الهدى ومن قادة الخير. إن الناس يتصورون أن أهل الإيمان ناس سلبيون، أنهم ناس حسْب الواحد منهم أن يحيا في نطاقه الخاص لا يعدوه فلا يعرف ما وراء ذلك، ولا يستطيع إصلاح عِوج في آفاق الحياة، وهذا خطأ فاحش، فقادة الفكر في دين الله أكبر من ذلك، تأمل في قوله تعالى: (وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ * إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ * وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ * وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِّنْ الْأَخْيَارِ * هَذَا ذِكْرٌ. وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ) [ص:45-49].
وعندما وصف قال: (أولى الأيدى والأبصار). ما معنى هذا الوصف؟ هل معنى أولى الأيدى أن لهم أيدي؟ ومعنى أولى الأبصار أن لهم أبصاراً؟ لكل الناس أيد، ولكل الناس أبصار، وما يمدح الله أحداً بأن له يداً وأن له بصراً؛ إنما المقصود بأولى الأيدى والأبصار أنهم أصحاب باع طويل، أصحاب ذكاء حاد، أصحاب قدرة تمتد في الدنيا لتزرع الخير وتقدمه للخلق، أصحاب بصر يرى الشرور من بعيد ويحسن حسمها واجتثاثها من جذورها، هذا معنى: أولى الأيدى والأبصار.
إن الطِّيبة ليست نوعاً من العجز أو الغفلة، الطيبة في الإسلام ما تكون طيبة إلا إذا كانت قدرة متفوقة وبصيرة بعيدةَ المدى، تلمح الخفي وتحسن أن تؤدي ما عليها.
قادة الخير من أنبياء الله وممن مشى في أقدامهم وجرى على سننهم هم الذين يفعلون الخير ويقدمونه للخلق في حياتهم، وبالتركات التي يورثونها الأجيال مستقبلاً. وما تركات الأنبياء؟ إن الأنبياء لا يورثون أموالاً ضخمة ولا غير ضخمة، إنما يورث الأنبياء الحكمة والعلم والهدى.
نحن لا نريد أن نتتبع تاريخ الأخيار من خلق الله فذاك شيء مستحيل، إنما نريد أن نعلم أن أنبياء الله الذين ذكر بعضهم في كتابه، وطوى بعضهم؛ لأنه ليس من الضروري أن نعرف الكل، هؤلاء الأنبياء أُخذت سيرهم وهداياتهم ولخصت في القرآن الكريم، فلو أن موسى موجود ما تبع إلا القرآن ونبيَّه -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنه يستحيل أن يقال إن "العهد القديم" الموجود الآن، أو الأسفار الخمسة التي تسمى "التوراة" هي ما أوحاه الله إلى موسى.
كنت أقرأ في "الأسفار" فلفت نظري ما لفت أنظار الكثيرين من نصوص عجيبة، والمفروض أن هذه التوراة نزلت على موسى – نقرأ هذه السطور: (ومات موسى عن مائة وعشرين سنة، ودفن في قبر بمواَب لا يعرف موضعه، وكان إلى أن مات نضر الجلد، حاد البصر)!!! هذا كلام في التوراة، والتوراة نزلت على موسى، فكيف يكتب هذا الكلام على موسى الذي مات؟.
إن الذي زور نسى أنه يكتب بلسان موسى فأودع العبارات التي ذكرتها لكم في ثنايا التوراة، وبديهي أنه إذا نزل كتاب على إنسان فما يقال فيه هذا الكلام أبداً، لكن الذي زور نسى، ويكاد المريب يقول خذوني!.
لا يوجد كتاب يطمأن إلى أنه في المائة من عند الله إلا هذا القرآن الكريم، لخص الله فيه الحكمة التي توزعت على أنبيائه، وأجراه على لسان محمد -صلى الله عليه وسلم- وحياً مباركاً رباهم به محمد -صلى الله عليه وسلم- جيلاً من الناس، لكن هذا النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- كما ربَّى بالكتاب الذي نُزِّل عليه رباهم بالحكمة التي ينطق بها، وبالكلمات القيمة النافعة التي كان يتعهدهم بسناها، ويسدد خطاهم بما فيها من حق.
ولما كنا في أعقاب عيد الذكريات، وهل العيد الكبير إلا عيد الذكريات؟ نذكر في قادة الخير الشيء العظيم الذي سيطر عليهم؛ لنتأسى به.
التوكل على الله خلُق، لكن هذا الخلق يبدو بارزاً يحييه الناس ويجددونه عندما يسعون بين الصفا والمروة، فإن الوحي إذا نزل يقول لإبراهيم: دع امرأتك هذه ووليدها في أرض قفر لا زرع فيها ولا ضرع، دعهم واتركهم في هذا المكان، لا تعرج عليه بعد أن تدعهم! كيف يصنع إبراهيم هذا؟ إنه هو الواثق من أمر الله، المنفذ لما طلب الله منه، فعل ما فعل متوكلاً على الله. المرأة عندما قالت لزوجها: أين تتركني؟ إلى أين؟ ما استطاع جواباً، فلما قالت له: آلله أمرك؟ قال: نعم، قالت: إذاً لا يضيعنا! وتوكلَتْ على الله في أرض ما يعطى شيء منها أملاً في الحياة، ولكن صدْق التوكل على الله انتهى بأن تفجرت زمزم، وأن عُمر المكان، وأن أصبح الطفل الذي كانت أمه قلقة على حياته مضطربة على مستقبله، أصبح أباً لأمة كبيرة فيها النبي الخاتم! أمة ألمع ما فيها صاحب الرسالة العظمى -عليه الصلاة والسلام-!.
عيد الذكريات، نتذكر الوفاء والتوكل على الله، ونتذكر أشياء كثيرة، لعل مما ينبغي أن نتذكره في تراث نبينا -صلى الله عليه وسلم- في هذا العيد الذي احتفينا به أمس الكلمات النيرة الغالية التي ألقاها على الناس في حجة الوداع، كانت هذه الحجة في السنة العاشرة من الهجرة، وكانت الحجة التي قبلها -كما شرحنا لكم- قد مهدت الطريق أمام الكلمات الأخيرة، كانت قد منعت الشرك وأجهزت عليه؛ إذاً، فالحجة الأخيرة، وهي التي كان أميرها النبي -عليه الصلاة والسلام-، هذه الحجة تقريباً جمعت المسلمين في جزيرة العرب، لم يكن هناك إلا عدد قليل من الناس لم يشارك في هذه الحجة.
من هؤلاء الذين لم يحضروا الحجة معاذ بن جبل -رضي الله عنه-، وهو من سادات الصحابة ومن فقهائهم الكبار، لما أرسله عمر -رضي الله عنه- إلى الشام اهتزت الفتوى في المدينة لغيابه، لأنه كان ركناً من أركان العلم.
المؤرخون يقولون إن النبي -صلى الله عليه وسلم- أرسل معاذاً إلى اليمن معلماً وناشراً للإسلام في جنوب الجزيرة العربية، وهنا كلام ينبغي أن يعرف: بعث النبي -صلى الله عليه وسلم- معاذ بن جبل وخالد بن الوليد وأبا موسى الأشعري وعلي بن أبي طالب -رضي الله عنهم جميعاً-، وكأن هاتفاً خفياً انبعث في قلب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يشعره أن مقامه في هذه الدنيا أوشك على النهاية، فإنه بعد أن علَّم معاذاً كيف يدعو من يلقاهم، وكيف يعرفهم دينهم، خرج معه إلى ظاهر المدينة يوصيه كيف يعلم، كيف يربي؛ يقول المؤرخون: ومعاذ راكب على ناقته، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يمشي تحت الناقة، الرجال الكبار لا يعرفون المظاهر، ولا يهتمون بالشكليات، رجال تسيرهم الحقائق وحدها، أما التوافة فلا قيمة لها في حياتهم، فلما فرغ من تعليمه لمعاذ، قال: "يا معاذ! إنك عسى أن لا تلقاني بعد عامي هذا، أو لعلك أن تمر بمسجدي هذا أو قبري". فبكى معاذ جشعاً لفراق رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ثم التفت فأقبل بوجهه نحو المدينة. فقال: "إن أولى الناس بي المتقون، مَن كانوا وحيث كانوا" أخرجه أحمد والبيهقي في السنن باختصار-كتاب آداب القاضي. وجشعاً: أي جزعاً.
إن الرباط بينه وبين الناس هو التقوى، واجتمع المسلمون مع نبيهم -صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع، ونظر النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى الألوف المؤلفة وهي تلبي وتهرع إلى طاعة الله، شرح صدرَه انقيادُها إلى الحق واهتداؤها للإسلام، وعزم أن يغرس في قلوبهم لباب الدين، وأن ينتهز هذا التجمع الكبير ليقول كلمات تبدد آخر ما أبقت الجاهلية من مخلفات في النفوس، وتؤكد ما يحرص الإسلام على إشاعته من آداب وعلاقات وأحكام.
فألقى هذه الخطبة الجامعة التي رواها ابن هشام في السيرة: "أيها الناس! اسمعوا قولي، فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا، بهذا الموقف أبداً. أيها الناس: إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا، وكحرمة شهركم هذا، وإنكم ستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم وقد بلغت. فمن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها". هذه الكلمة الموجزة هي ما يحتاج الناس إليه على امتداد الزمان والمكان.
كان لي صديق، وكان رجلاً كبير النفس، سخي اليد، رحيماً بكل إنسان أو دابة أو طير، يضع الحبوب في شرفة بيته لتأكل العصافير، وكان يستمتع برؤيتها وهي تأكل، ثم وضعها يوماً ووجد أن العصافير لم تنزل، فاستغرب، ثم شعر بأنه ترك الباب مفتوحاً فخشيت العصافير أن تكون هذه حبالة كي تصاد!! فلما أغلق الباب نزلت مطمئنة وأكلت! قال: فعلمت أن المجتمع يحتاج إلى الأمرين معاً: الطعام والطمأنينة!!
في بعض المجتمعات الإنسانية الآن يوجد الأكل مبذولاً لجماهير من الدواب، ولكن أين الطمأنينة؟ أين الأمان؟ إن الأمن والشعب هما ما اهتم به الإسلام عندما قال ممتناً على قريش: (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ) [قريش:3-4].
ثم اتجه الحديث في خطبة الوداع عن الربا: "إن كل ربا موضوع، ولكن لكم رؤوس أموالكم لا تَظلِمون ولا تُظلَمون، قضى الله أنه لا ربا، وإن ربا العباس بن عبد المطلب موضوع كله". رأس المال وحده هو الذي يحل أخذه، وما وراء ذلك فممنوع.
ولما كان العباس بن عبد المطلب -رضي الله عنه- عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تاجراً، وكان يرابي في أمواله على عادة أهل الجاهلية، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- طبق القانون أول ما طبق على عمه!.
ثم اتجه الحديث في خطبة الوداع للحديث عن الدماء: "وإن كل دم كان في الجاهلية موضوع، وإن أول دمائكم أضع دم ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب -وكان مسترضعاً في بني ليث فقتلته هذيل- فهو أول ما أبدأ به من دماء الجاهلية".
الإسلام فتح صفحة جديدة، الصفحة الجديدة التي فتحها الإسلام تجعل من كان له قتيل قبل ذلك ينسى، لا يطلب ثأره، الإسلام بدأ بالناس عهداً جديداً، وافتتح بهم مجتمعاً آخر، وأول إنسان يهدر دمه ولا يطلب له ثأر هو ابن عم النبي -صلى الله عليه وسلم-!.
ثم قال: "أما بعد: أيها الناس: إن الشيطان قد يئس أن يعبد في أرضكم هذه أبداً، ولكنه إن يطع فيما سوى ذلك فقد رضي به مما تحقرون من أعمالكم، فاحذروه على دينكم". معنى هذه العبارة: أن الناس ربما عاد إليهم من الرشد وارتفع مستواهم من الفهم، بحيث لن يعودوا يسجدون للأصنام ويحنون أصلابهم لحجارة لا تضر ولا تنفع، ولكن ربما تسلل الشيطان إلى نياتهم وإلي أعمالهم، تشتُم هذا، تكره ذاك، تحاول أن تسئ إلى فلان، أو أن تتقدم على فلان، أو أن تتظاهر بكذا، أو أن لا تفعل كذا، هذه الأمور التي تستهين بها ربما أكلت الدين، وربما أضاعت الإيمان.
لقد تتبعتُ ببَصَري مؤسساتٍ وجماعات وأفراداً وأشخاصاً، فوجدت أن كثيراً مما أهلك الأمة الإسلامية يعود إلى تصرفات صغيرة، وإلي أعمال تافهة، كان يمكن للإنسان أن يتسامى فوقها، وأن يرقب نفسه فلا يتدلى إليها، ولكننا أحياناً نطمئن إلى أننا مسلمون، ثم لا نفهم من الإسلام أنه إسلام القلب والجوارح جميعاً لله، فنفعل من الأعمال ونترك من الحقوق ما يكون سبباً في أن نصل ما أمر الله به أن يُقطع، وأن نقطع ما أمر الله به أن يوصل! وهل ضاع مجتمعنا إلا بمثل هذه التصرفات، وهذه المسالك؟.
ثم نبه -عليه الصلاة والسلام- في هذه الخطبة إلى حرمة الأشهر الحرم، وللفقهاء كلام في حرمة الأشهر الحرم، الجمهور على أنها نسخت بقوله تعالى: (وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً) [التوبة:36]، لكن عدداً من المحققين، من بينهم ابن كثير وغيره من أئمة التفسير، قالوا: (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلِّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً لِّيُوَاطِؤُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) [التوبة:37]، هذه الآية قرأها النبي -عليه الصلاة والسلام- في حجة الوداع، ليبطل عملا كان المشركون يعملونه وهو أنهم إذا أرادوا مد القتال إلى رجب أو إلى المحرم قالوا: نحل هذه الشهر ونحرم شهراً آخر من الشهور الحرام في السنة؛ فكان هذا التصرف تصرفاً سيئاً، وظلوا يؤجلون حتى عادت السنة، وعاد الشهر الحرام، كما كان بعد أن أضيع.
فقال عليه الصلاة والسلام: "أيها الناس: (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلِّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً لِّيُوَاطِؤُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) [التوبة:37] وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً، منها أربعة حرم: ثلاثة متوالية، ورجب الذي بين جمادي وشعبان ". الثلاث المتوالية هي ذو العقدة وذو الحجة والمحرم، ورجب الذي بين جمادى وشعبان، وهذا التحديد لأن كلمة رجب كانت تطلق أحياناً على شهر آخر.
ثم قال -عليه الصلاة والسلام-: "أما بعد: أيها الناس: فإن لكم على نسائكم حقاً، ولهن عليكم حقاً، لكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه، وعليهن أن لا يأتين بفاحشة مبيِّنة".
قال العلماء باتفاق دون خلاف: إن هذه الجملة من كلام الرسول -صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع معناها ليس على ظاهره، والمقصود بقوله: "أن لا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه": ألَّا يأذن لأحد بدخول البيت إذا كان ممن لا يحق لهم الانفراد بالمرأة.
والمقصود بقوله: "وعليهن أن لا يأتين بفاحشة مبينة" اتفقوا على أن الفاحشة هنا: سوء الأدب، والتطاول على الزوج والنشوز، وليس المقصود جريمة الزنا، فإن ذلك مستبعد ابتداء على المؤمنين والمؤمنات، ولذلك قال -عليه الصلاة والسلام-: "لكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه، وعليهن أن لا يأتين بفاحشة مبينة، فإن فعلن، فإن الله قد أذن لكم أن تهجروهن في المضاجع، وتضربوهن ضرباً غير مبرح، فإن انتهين فلهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف، واستوصوا بالنساء خيراً، فإنهن عندكم عوان، لا يملكن لأنفسهن شيئاً. وإنكم إنما أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله. فاعقِلوا أيها الناس قولي، فإني قد بيَّنْتُ؛ وقد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبداً: كتاب الله، وسنة نبيه.
أيها الناس: اسمعوا قولي واعقلوه...تعلمون أن كل مسلم أخ للمسلم، وأن المسلمين إخوة، فلا يحل لامرئ من أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس منه، فلا تظلمن أنفسكم، اللهم هل بلغت؟" قالوا: اللهم نعم. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "اللهم اشهد".
لم تكن هناك مكبرات صوت على عهد النبي عليه الصلاة والسلام، ولما كان الحُجاج في هذا الموسم قد بلغوا عشرات الألوف، فإن صوت النبي -عليه الصلاة والسلام- كان يستحيل أن يبلغ هذه الألوف التي اجتمعت في هذا الموسم الحاشد، فكيف كان الصوت يصل؟.
قال ابن اسحاق: كان الرجل الذي يصرخ في الناس بعرفةَ بقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هو ربيعةُ بن أمية بن خلف. قال: يقول له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: قل: يا أيها الناس إن الرسول يقول: هل تدرون أي شهر هذا؟ فيقول لهم...فيقولون: الشهر الحرام، فيقول: قل لهم: إن الله قد حرم عليكم دماءكم وأموالكم إلى أن تلقوا ربكم كحرمة شهركم هذا، ثم يقول: قل يا أيها الناس إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: هل تدرون أي بلد هذا؟ فيقولون: البلد الحرام، فيقول: قل: إن الله حرم عليكم دماءكم وأموالكم إلى أن تلقوا ربكم كحرمة بلدكم هذا.
ثم يقول: يا أيها الناس إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: هل تدرون أي يوم هذا؟ فيقول لهم... فيقولون يوم الحج الأكبر. فيقول: قل لهم: إن الله قد حرم عليكم دماءكم وأموالكم إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا.
كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يريد بعد بلاء طويل في إبلاغ الرسالة أن يفرغ في آذان الناس وقلوبهم آخر ما لديه من نصيحة، كان يحس أن هذا الركب سينطلق في بيداء الحياة وحده، فهو يصرخ به كما يصرخ الوالد بابنه الذي انطلق به القطار يوصيه بالرشد، ويزوده بما ينفعه أبداً، وكان هذا النبي الطيب -عليه الصلاة والسلام- كلما أوجس خيفة من مكر الشيطان بالناس عاود صيحات الإنذار، واستثار أقصى ما في الأعماق من انتباه، ثم ساق الهدى والعلم، وقطع المعاذير المنتحلة، وانتزع بعد ذلك شهادة من الناس على أنفسهم، أنهم قد سمعوا، وأنه قد بلغ.
هكذا كانت حجة الوداع، كان القائد الأعظم للفكر الإنساني كله، وللهدايات الربانية جمعاء، كان يودع الحياة بآخر ما لديه من نصيحة للناس، أفرغها في هذا القالب من كلمات سهلة موجزة لا يزال صداها يرن في ضمير الدهر إلى يومنا هذا معرفاً الناس بأن خاتم النبيين -صلى الله عليه وسلم- تركهم على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك.
أقول قولي هذا واستغفر الله ولي ولكم.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي