فقضية الذكر والنسيان قضية عقلية مهمة، وقضية نفسية أهم، فإن معرفة الحق، وحسن رؤيته، وصدق الاتجاه إليه، والاستقامة على طريقه، إن ذلك كله هو الأداء الصحيح لرسالة الإنسان في هذه الحياة؛ ذلك أن رب العالمين بين أنه إنما خلق الزمان والمكان ليستطيع كل إنسان أن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يجحد: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا) ..
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. وأشهد أن محمداً رسول الله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير. اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.
أما بعد: فقضية الذكر والنسيان قضية عقلية مهمة، وقضية نفسية أهم، فإن معرفة الحق، وحسن رؤيته، وصدق الاتجاه إليه، والاستقامة على طريقه، إن ذلك كله هو الأداء الصحيح لرسالة الإنسان في هذه الحياة؛ ذلك أن رب العالمين بين أنه إنما خلق الزمان والمكان ليستطيع كل إنسان أن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يجحد: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا) [الفرقان:62].
وللبيئات التي يعيش الإنسان فيها أثر عميق في قضية الذكر والنسيان، فهناك وسط يعين على حدة الذهن، ويقظة القلب؛ وهناك أوساط تعين على الغفلة، والخمول، وبلادة السلوك والاتجاه! ومن أعانه الله على أن يكون في بيئة تسدد خطاه، وتقوِّى عزيمته، فقد يثمر له خيرا كثيرا، وإنما يتم ذلك بالدعاء، وقد جاء في الحديث الشريف: "اللهم أعنِّى على ذكرك، وشكرك، وحسن عبادتك ".
وجاء في الحديث أيضا أن هناك أحوالا عارضة قد تعرض للعقل تعرُّض الغيوم للشمس فتكف ضوءها، وتكسف شعاعها، هناك فقر يذهل ويجعل صاحبه وراء حصار من الهموم التي تبدد قواه وطاقته وراء مطالب الحياة الدنيا، وقد وجه نبينا -صلى الله عليه وسلم- النظر إليه عندما قال: " بادروا بالأعمال سبعا، هل تنتظرون إلا فقرا مُنسيا، أو غِنى مُطغيا... ". الغنى المطغي والفقر المنسي من البلاء الذي يصيب الناس.
وتتبعت في أدبنا العربي قضية الذكر والنسيان فوجدت شعراء العربية عرضوا لهذا الأمر في مواضع من أدبهم، "فالبحتري" عندما وقف على ايوان "كسرى" أو البيت الأبيض أو القصر الأبيض الذي كان يسكنه الأكاسرة، وقف أمامه بعد ما أوحش من سكانه، وبعدما انتقلوا إلى الله ليحاسبهم على ما قدموا في دنياهم، فقال في قصيدته السينية المشهورة :
ذَكَّرَتْنِيهُمُ الخُطوبُ التَّوَالي *** وَلَقَدْ تُذْكِرُ الخُطُوبُ وتُنْسِي
وهُمُ خافِضونَ في ظِلِّ عَالٍ *** مُشْرِفٍ يُحْسِرُ العُيُونَ وَيُخْسِي
وعندما عارض "شوقى" هذه القصيدة عارضها بقصيدته التي يقول في مطلعها :
"اختلافُ النَّهَارِ والليلِ يُنْسِي "
نعم، اختلاف النهار والليل ينسى، لكن عندما يُنسي، فما الذي ينسيه؟.
والله! إن أنس الحقائق التي لابد منها ضاع الإنسان، وإن أنس شيئا لا قيمة له فليذهب إلى مطاوي الغفلة غير مأسوف عليه. لكن يجب أن نعرف أن قضية الذكر والنسيان خطيرة، فإن نجاح الطالب إنما يكون بمقدار ما يذكر من حقائق العلوم التي حصلها، وبقدر ما تشرق في قلبه أنواع المعرفة التي درسها، فإذا طوى النسيان هذه العلوم كلها فلا نهاية إلا السقوط، ولا ختام إلا الفشل!.
التاجر الذي لا يدري من تجارب الماضي، ولا من العبر التي مرت به، لا يدري ما هي مواطن الربح والخسارة في أحواله وأعماله، فإنه يتعرض للبوار في غده القريب، أو في مستقبله البعيد. وقد بين القرآن الكريم أن هناك ناسا يستقبلون الحياة ولا وعى لهم ولا ذكر، وهؤلاء منافقون أو أشباه منافقين، يقول الله فيهم: (أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ) [التوبة:126].
قصة الذكر والنسيان قصة تحتاج إلى شيء من المعالجة، وقد رأيت أن سورة من سور القرآن تعرضت لقضية الذكر والنسيان في سبعة أو ثمانية مواضع منها، فأردت -معكم- أن أمضي في عرض هذه المواضع حتى ننتفع بها، ونقتبس من كتاب الله ما ينير قلوبنا، ويذكرنا بما لا يجوز أن ننساه من أمر ديننا.
ذلك، ولنعلم أن القرآن الكريم له أسماء رسمية، أو أسماء إلهية، ليست أسماء شهرة أطلقت عليه من الناس، بل هي أسماء إلهية أطلقت عليه ممن أنزله -تبارك اسمه-... فمن أسماء القرآن: القرآن، والكتاب، والذكر؛ قال تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) [الحجر:9]، سُمي ذكرا لأنه يُصحي القرائح الميتة، ويودع فيها حياة جديدة، ويذهب بالخمول الذي يرين على بعض القلوب، ويجعل منها أوعية لها بالله علاقة حسنة!.
وليس حفظ الذكر بطبع ألف مليون مصحف جيدة الطبع، فهي أوراق ليست أكثر من حبر على ورق، وليس حفظ القرآن بألف مليون شريط مسجل عليها القرآن بأصوات حسنة أو بأصوات عادية، فهي أشرطة تثبت أو تمحى! حفظ القرآن بحفظ ناس أنار الله أفئدتهم بمعرفته، وأنضج سلوكهم بالطيبة، فإذا أخلاقهم حلوة، وإذا سلوكهم راشد، وإذا أثرهم في الحياة عميق! حفظ الذكر بحفظ أمة تعمل له، وتعمل به، وتدافع عنه، وتمثله على ظهر الأرض، وتعرضه على العالمين؛ لأنه رسالة خاتمة؛ وإذا لم توجد هذه الأمة فسيطوى سرادق الحياة...
ما السورة التي أشرت إليها وقلت: إنها عرضت لقضية الذكر والنسيان في ثمانية مواضع؟ هي سورة طه، أول سطر فيها (طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لِتَشْقَى * إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى) [طه:1-3]. ومعنى الآية -كما أبَنَّاه- أنك يا محمد مكلف بالبلاغ، وتذكير الغافلين، وإعادة العلم إلى من جهلوه، وإعادة الفِطر إلى سلامتها التي ولدت بها؛ إنك ستجد من ينصرف عنك، ومن يصد عن طريقك، فلا تحزن.
وقد كان الناس كذلك، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- حريصا على الدعوة، وكان المشركون يرونه من بعيد فيقول أحدهم للأخر: إذا لقينا فسيعرض علينا الإسلام، تعالوا نختفي من طريقه، تعالوا نتشاغل عنه حتى لا يحدثنا عن دينه هذا: (أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ، أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) [هود:5]. فمع كرههم له ولدعوته ورسالته، وضيقهم بما يسمعون منه، فقد قيل له: امض في طريق الدعوة، ولا تأسف إذا كفر بها من كفر، وجحد بها من جحد؛ لا تشْقَ بهذا، فأنت مكلف بالبلاغ والتذكير: (مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لِتَشْقَى * إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى).
هذا أول ما عرضت له السورة من قضايا الذكر والنسيان، وكل ما تعطيه الآية أن صاحب الدعوة الحقيقي يتحدث كوالد ينصح بنيه، أو كمدرس شفيق حنون يعلم تلامذته وهو عميق الرغبة في أن يرفع مستواهم، وأن ينقذهم مما هم فيه من جاهلية وضياع.
الموضع الثاني في السورة قوله تعالى: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي) [طه:14]، والواقع أن الصلوات ساعات يعود الناس بها إلى ربهم، أو تعود بالناس إلى ربهم إذا شدتهم مطالب الدنيا، وضرورات الحياة بعيدا عن ذكره ومراقبته، واستلهامه الرشد، واستمداد العون منه -جل جلاله-.
عندما تفسد الأديان تفسد بتحولها من طاقة توقظ العقل، وتحيى الضمير؛ فتوجه الناس إلى شكل فُرِّغ من محتواه، وأصبح صورة لا حقيقة لها، أو جسدا لا روح فيه! والصلوات عند كثير من الناس حركات بدنية، وليست قلبا خاشعا، ولا فكرا ساجدا، مع أن الله -جل جلاله- بيَّن للمسلمين يوم كانت الخمر في مراحل التدرج فلم ينزل نص قاطع بتحريمها، بيَّن حرمة أن يقف الناس بين يديه سكارى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ ) [النساء:43]. هناك ناس سكارى بخمرة الدنيا يقفون بين يدي الله فلا يعلمون ما يقولون! وهذا -بداهة- ليس من رسالة الصلاة؛ لا في تأديب النفس، ولا في قيادة المجتمع إلى الله.
الموضع الثالث في السورة يحكى طلب موسى من ربه أن يمنحه عونا له على أداء رسالته: (وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا) [طه:29-33]، فالوظائف القيادية في ميدان الرسالات الروحية والاجتماعية أساسها التسبيح والتحميد، والذكر الدائم، وهو ما وعد موسى أن يكون عليه عندما يعينه الله بأخيه الذي يشد به أزره.
ولذلك جاء في الموضع الرابع من السورة عندما أجاب الله سؤل موسى وحقق له أمله، قال له: (اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآَيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي * اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) [طه:42-44]. (لا تَنِيَا فِي ذِكْرِي) أي: لا تتوانيا، لا تتكاسلا، لا تتراخيا في ذ كرى. (لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) إن التذكير هنا من أجل إنقاذ الرجل من الغفلة التي رانت على قلبه ولبه، وجعلته يستعلي كثيرا على أمثاله من الخلق، ويزعم أنه إله، وما هو إلا عبد!.
والذكر هنا شعور بعظمة الله يؤنس من يتعرض لجبابرة الأرض، ولذلك لما قالا: (رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى * قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى) [طه:45-46]. فذكْر المعية الإلهية يعينه على أداء واجبه، ويذلل له الصعب، ويهون عليه العسير!.
الموضع الخامس نجده في قصة بنى إسرائيل مع موسى، فهناك موعدان ظفر بهما موسى للقاء الله، وذهب موسى للقاء الله بعد أن تمهد هذا اللقاء بأربعين يوما، وهنا نجد أن بني إسرائيل ارتدوا عن دينهم! في دراستي لتاريخ اليهود في هذه الفترة وفيما أعقبها من فترات وجدت أن تعصب هؤلاء الناس لدمهم يغلب في كثير من الأحيان تعصبهم لمبادئ الإيمان وأصول العقيدة، فكأن معرفتهم لله لم تستكمل، وكأن حلاوة الحق في مذاقهم لم تتم؛ ولذلك بعد قليل جدا من نجاتهم وغرق أعدائهم نسوا هذا الخارق الغريب ثم عبدوا عجلا صنعوه، عبدوه عن محبة غالبة، وشهوة عارمة، قال تعالى: (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ) [البقرة:93].
كانوا محتالين، لما خرجوا قالوا للمصريين: أعطونا حليكم ننتفع بها عارية ثم نردها، وأخذوها وخرجوا ليلا مع موسى، ثم شعروا أنهم لصوص فجمعوها في حفرة، وإذا واحد منهم يذيبها ويصنع منها عجلا له ثقوب تصنع صوت البقر، فقال لهم: هذا إله موسى! حلي تذوب وتصنع تمثالا لعجل تعبد على أنها إله؟...
ولذلك قال الله لموسى: (وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى * قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ * فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي * قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ * فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ) [طه:83-88] نسي السامري، ونسي الشعب الضال معه كل ما كان، وهذه طبيعتهم: (أَوَ كُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ) [البقرة:100].
والأمم التي تنسى تحتاج إلى قوارع تذكرها، وربما كانت هذه القوارع سنوات عضوضا، أو أزمات ماحقة، وبحسب قسوة الطبع، وشدة الحجاب، وكثافة الغفلة، تكون الأيام التي تذكِّر، تكون جراحاتها عميقة، وضرباتها موجعة؛ وشاء الله أن يحرق العجل الذهبي: (لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا * إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا) [طه97-98].
الموضع السادس بعد هذه القصة مباشرة، يقول الله فيه لنبيه محمد -صلى الله عليه وسلم-: (كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آَتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا * مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا * خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا) [طه:99-101]، الذكر هنا القرآن، وقد تحدثنا في صدر الخطبة عن معنى كون القرآن ذكرا.
هناك موضع سابع وثامن، فلنؤخر السابع قليلا لنذكر الموضع الثامن وهو قوله -جل شأنه-: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى) [طه:134-136].
أيها الأخوة: كون من يعرض عن ذكر الله يعاقَب فهذا قانون إلهي، وتحت هذا القانون تفاصيل، فإن معاملة الله للناس تختلف بقدر ما ييسر لهم من علم، وما يتاح لهم من معرفة، وقد جاء في الحديث: "الزبانية إلى فسَقَةِ حمَلة القرآن أسرع منهم إلى عبَدة الأوثان، فيقولون: يُبدأ بنا قبل عبدة الأوثان؟! فيقال لهم: ليس مَن يعلم كمن لا يعلم". وجاء في حديث آخر: "إن الرجل لَيُحرَم الرزق بالذنب يصيبه"، وفى حديث آخر: "إن من الذنوب ذنوبا لا يكفرها الصلاة ولا الصيام ولا الحج ولا العمرة، يكفرها الهموم في طلب المعيشة ".
قال العلماء في حديث: " إن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه: كيف هذا، مع أن الله يقول في بعض الناس: (فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ) [التوبة:55]، والآية صريحة في أن فساقا وكفارا تزداد أموالهم، وتتسع ثرواتهم، فكيف يحرم إنسان الرزق بالذنب يصيبه؟! وكان جواب العلماء على هذا: أن رب العالمين يعامل من يحب معاملة خاصة، فهو يؤدبهم في الدنيا ليرجعوا إليه، فربما حرم إنسانا فيه خير حتى يرجع إليه؛ لأن الحرمان حرقه فعرف أن له ربا يعطى ويمنع، فلجأ إليه، فوسع عليه.
أما إذا غضب رب العالمين على أحد فإنه يوسع له، قال تعالى: (أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَا يَشْعُرُونَ) [المؤمنون:55-56] وقال: (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ) [آل عمران:178].
بدأ "كارل ماركس" وغيره يضع فلسفة لتقسيم الأرزاق على الخلق، فكانت النتيجة أن الأرض منعت خيرها، وأن الروس يحتاجون إلى النبات وإلى الثمار وإلى الحبوب من كل مكان! طبيعة الحضارات المادية عموما -حتى لو ازدهرت بمال كثير- أنها تعمر لتدمر، وتبنى لتهدم، وتصعد لتهبط، ولا بركة فيها: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى) [طه:134-136].
هذا هو الموضع الثامن، فلنعد إلى الموضع السابع، وقد أخرته لأُكْثِر الكلام فيه؛ لأنه يتصل بنا كلنا. يقول الله في هذا الموضع، يصف أبانا آدم: (وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آَدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا) [طه:115]، أصيب آدم بمرضين: ضعف الذاكرة، وضعف الإرادة، وكلا المرضين قاتل، فإذا اجتمعا معا أُخرج الإنسان من الجنة!.
ضعف الذاكرة قال الله له: لا تأكل من هذه الشجرة، في غيرها ما يشبع وما يغني، ليس هناك ما يلجئ إليها، فيما أباح الله ما يجعل الإنسان أغنى العباد عما حرم الله، لا يصير في محرم ضرورة أبدا؛ لكن آدم نسي، ضعفت ذاكرته، مع غلبة أشياء أخرى عليه، وحتى ما بقي من معلومات باهتة عن هذا الأمر الإلهي فقد طواه ضعف الإرادة، فإن الشيطان جاء يسخَر منه: مُنعت من الشجرة؟ الخلد أمامك! المــُلك أمامك!! (هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى؟) [طه:120].
بضعف الذاكرة وضعف الإرادة سقط آدم، ثم تاب الله عليه. عندما ننظر -نحن أبناء آدم- إلى أنفسنا نجد المرض هو هو، ضعف الذاكرة، وضعف الإرادة؛ نعلم أن هذا يضرنا ونقع فيه؛ ولذلك نحتاج دائما إلى أن نبقى أقوياء الإرادة، وأقوياء الذاكرة، فلْنغالب النسيان في حياتنا، ولنغالب خور العزيمة في حياتنا. يقول الله -جل شأنه- ليحيا–عليه السلام-: (يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ) [مريم:12].
النفَس البارد لا ينتج شيئا، نريد حماسا، نريد إنسانا في قلبه حرقة ورغبة في أن يرضى ربه، وأن يؤدي ما عليه مع وضوح الرؤية -كما يقال في العصر الحديث- ومعنى وضوح الرؤية أن نعرف الأمر الذي نعمل به، ونحيا من أجله.
ومضت السورة تنبه النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى أن يؤدى واجبه مع الناس، مع أن الناس ينسون، ينسون ماذا؟ ينسون التاريخ، ينسون ما مضى من حياتهم، ولذلك جاء في آخر السورة: (أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى) [طه:128]. أعجبتْهُم مساكنهم، والتذُّوا بما وفروا فيها من متع، ونسوا الرب الذي يسر وأعطى، وأغنى وأقنى؛ كنا قادرين على أن نبطش بهم، ونأخذهم أخذ قادر مسرع، لكن أخَّرناهم إلى حين: (وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى) [طه:129].
(وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) بتأخير الناس إلى أجل مسمى (لَكَانَ لِزَامًا) أي: لكان العقاب لازما، ولكن أخرنا الناس إلى أجل مسمى لعلهم يثوبون إلى رشدهم، لعلهم يهتدون إلى الصراط المستقيم قبل أن تفارق الأرواح الأجساد، هذا هو ما تعطيه الآية.
ثم قال لصاحب الرسالة -عليه الصلاة والسلام-: يعينك على معالجة الناس، وعلى سوء مقابلتهم لك، وعلى رداءة مواقفهم منك، أن تذكر ربك، وتلجأ إليه: (فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آَنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى) [طه:130].
"اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك"، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
الحمد لله (الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ) [الشورى:25-26].
وأشهد أن لا إله إلا الله، الملك الحق المبين، وأشهد أن محمداً رسول الله، إمام الأنبياء وسيد المصلحين. اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.
أما بعد: أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل.
عباد الله: أشعر بأن الأمة الإسلامية لا تزال على أول الطريق، طريق الخير، لم تمش فيه كثيرا، هل هي أمة كسول؟ ربما؛ هل هي أمة جهول؟ ربما؛ لكن الذي أعرفه أننا خُنَّا رسالة الإسلام، في الوقت الذي يحرص فيه بعضنا على أمور تافهة لا تقدم ولا تؤخر في معالم الإسلام شيئا!.
من عشر سنين -تقريبا- أرسلني الأستاذ الدكتور/عبد الحليم محمود شيخ الأزهر -رحمه الله- إلى "أوغندا" مع زميل آخر، وذهبنا إلى "أوغندا" ولقينا فيها "عيدي أمين" وأسسنا المجلس الأعلى للشئون الإسلامية هناك، وفى سياحتنا بهذا القطر لقيني رجل مسلم، وقال لي كلمة شعرت بعدها بالخجل الذي نكس رأسي وأذلني، قال لي: يا أستاذ، لماذا جاء آباؤكم بالإسلام إذا كنتم أنتم قد نسيتمونا؟! فقلت له: على أية حال يعيننا الله ولا ننساكم. قال: نحن محتاجون إليكم.
المسلمون في " أوغندا " كانوا نحو عشرين في المائة، والمسيحيون كانوا نحو عشرين في المائة، والوثنيون نحو ستين في المائة، ولكن كان المسيحيون يمثلون العدد الأكبر من المثقَّفين، والعدد الأكبر ممن بأيديهم أزِمَّة الأمور؛ ووضعنا خطة للنهضة بهذا البلد، على كل حال فالذي حدث أن الأمور بلغت في أيام "عيدي أمين" أن الإسلام - قريبا- وصل إلى أربعين في المائة من تعداد السكان. الآن -في صمت غريب- يُصَفَّى الإسلام في "أوغندا"، وآخر ما سمعت في إذاعة لندن أن نحو اثني عشر ألفا قتلوا في الشمال الغربي لأوغندا، أي في المواطن التي يعيش المسلمون فيها -مواطن عيدي أمين-، لأن شمال أوغندا تقريبا كله إسلامي.
والأمة الإسلامية في القارات الخمس لا تعي شيئا عن هذا البلاء، الأمة غافلة، وأصرخ في أي ميدان أقول: المسلمون يقتلون في "أوغندا" ما يسمعني أحد! وقد زار أوغندا بابا الفاتيكان، ويسَّرَ الطريق لهذه المذابح! وقد زار -كما قلت لكم- "الفلبين"، والمسلمون يُستأصلون في الفلبين في صمت. ما الذي يشغل الأمة الإسلامية؟.
ثم ماذا؟ يذهب عملاء "حافظ أسد" في "سوريا" إلى رئيس المركز الإسلامي في "ألمانيا" ليقتلوه فلا يجدوا الرجل في بيته فيقتلوا امرأته! وامرأته بنت الشيخ "علي الطنطاوي" من أعظم المذيعين في المملكة العربية السعودية لتعاليم الإسلام! نكَباتٌ تنزل بالدعاة وبالأمة الإسلامية على نحو غريب!.
فيا إخواني أرجو أن تصحوا، الإسلام يقول لنا: التاريخ الماضي اعرفوه، لكن أنا أقول أيضا: التاريخ الحاضر اعرفوه، أمتنا تائهة، ويجب أن تعرف أحوالها وشئونها.
"اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر".
(رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [الحشر:10].
(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل:90].
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي