أُمَّة تعرض الحق يجب أن تعلم ما يأتي: يوم تكون يدنا السفلى نتسول من غيرنا طعامنا، فإن مَن يكون أسفل اليد لا ينتظر من الآخرين أن يتبعوه، إنما يتبع الناس مَن يده العليا، والجهاد علم في البر والبحر والجو، ويوم يفشل المسلمون في علوم البر والبحر والجو التي لا ينتصر الحق إلا بها، ويوم يمدون أيديهم لتلتقط الفتات من الآخرين، فإنهم لن يعزُّوا الإسلام بهذا الضياع، وبذلك الجهل!.
(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآَخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ * يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ) [سبأ:1-2].
الحمد لله كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه.
الحمد لله حمدا مضاعف الشكر والثناء والتمجيد.
(وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا) [الإسراء:111].
الله أكبر. الله أكبر. الله أكبر. الله أكبر. الله أكبر. الله أكبر. الله أكبر. الله أكبر. الله أكبر.
الله أكبر ما بقيت الأرض بإذن ربها تُطعم وتسقي، وتُكفِت وتؤوي.
(أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا * أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا * وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) [المرسلات:25-28].
الله أكبر. الله أكبر. الله أكبر.
وها هي الأرض تستقبل أوائل المليار السادس على تربتها المباركة. خمسة مليارات من الخلق، ماذا يلحظ أولو الألباب في هذا العدد الضخم؟ خمسة ملياراتِ فمٍ تطعم من رزق الله! خمسة مليارات يد تبطش بقدرة الله! خمسة مليارات قدم تسعى بإذن الله! والعجب أن الذي دفع قوافل الأحياء تمشى على ظهر هذه الأرض لا يشغله شأن عن شأن! فهو في الوقت الذي يأمر المخ فيصدر تعاليمه لجهاز الأعصاب في البدن كله، في الوقت الذي يصدر تعاليمه للكُلى كي تفرز الأذى وتطرده من البدن، في الوقت نفسه تراه يدير القمر حول الأرض، ويدير الأرض حول الشمس، ويجعل الشمس تجرى لمستقر لها، ويبعثر في الفضاء الواسع والملكوت الضخم ألوفا مؤلفة من المجرات التي تسبِّح بحمد ربها، ما يزيغ فلك من مساره، ولا ينحرف كوكب عن مداره!.
إن الذي يدبر الأمر عند سدرة المنتهى هو الذي يدبر الأمر في جهاز هضمي أو عصبي لحشرة تزحف على ظهر الأرض! ما أعظم ملكوت الله! ولكن المكذبين لا يعلمون، (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) [المرسلات:15].
إننا ننظر إلى عظمة الله، وإلى جلال الله، وإلى فضل الله، وإلى حكمة الله؛ فنشعر بخضوع العبودية، وإخلاص من يتوجهون بسرائرهم وبصائرهم إلى ربهم، يرجون رحمته، ويخافون عذابه.
قد يقول قائل: ذكرتَ أن الله يُطعم كل فم، ومنه -سبحانه- بصر كل ذي بصر، وسمع كل ذي سمع؛ إنك ذكرتَ الخير ولم تذكر أن هناك أفواها جائعة، وأمراضا شائعة، ومتاعب كثيرة، وآلاما شتى. فلم نسيت ولما ذكرت؟ والجواب: إن الخير من الله سبحانه وإليه، إن الله سبحانه أصلح هذه الأرض، وبارك فيها، وقدَّر فيها أقواتها، وقال للناس: (وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا) [الأعراف:56، 85]. قال للناس: سيروا وفق أوامري، وامضوا حسب تعليماتي تظفروا بما أودعت في الأرض من خيرات، وما يسَّرتُ لكم من رحَمات، ولكن ما تكون عليه الحال عندما نرى أمما لديها قناطير مقنطرة من الخير فتأبى إلا أن تحتكر لنفسها ما تحب، وأن تحرق المحاصيل الزائدة حتى لا يرخص السعر! (آَللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ) [يونس:59].
ماذا نقول لأمم تجند الأموال، فبدل أن تجعلها تذهب لأفواه الجياع تصنع بها أسلحة الدمار الشامل؟ إنها أمم تفسد في الأرض، وهذا الفساد هي مسؤولة، عنه ومأخوذة به، كما قال تعالى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الروم:41].
في يوم ما كان الفساد يملأ الدنيا، وكانت الجماهير قد زاغت عن وحي الله، وكان من يحملون الدين عبيدا للدنيا، وكان الساسة والقادة مذهولين عن ربهم، مشغولين بشهواتهم، فابتعث الله من بين العرب الإنسان الذي قرر أن يصلح الدنيا به، فقد قلنا -وما نزال نقول-: إن الله ربى محمدا -صلى الله عليه وسلم- ليربي العرب، وربى العرب بمحمد -صلى الله عليه وسلم- ليربي بهم الناس أجمعين! ذاك يوم يَعرف العرب رسالتهم، ويوم يحسون مسؤوليتهم، ويوم يدركون مالهم وما عليهم.
إن العرب استمعوا في حجة الوداع إلى قول الله -سبحانه- وهو الذي نُدير عليه خطبتنا الآن: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) [المائدة:3]، هذا العيد، عيد الأضحى، هو عيد اكتمال الدين، وتمام النعمة، وتهيئة أمة تنهض برسالة الخير والحق؛ لتسعد نفسها، وتسعد الناس أجمعين، (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا).
لكن اكتمال الدين لم يتم بين عشية وضحاها، إنما اكتمل الدين بعد أن ظل القرآن ينهمر بخيراته وبركاته نحو ربع قرن، خلال ربع قرن كان نبينا -صلى الله عليه وسلم- يربي الأمة التي تنهض برسالتها، وتؤدي الحقيقة الكاملة التي زاغت أمم عنها، (تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [النحل:63]، وإنه لمن الممكن بقيادة محمد -صلى الله عليه وسلم- وبجمهور في نضارة السلف الأول، واستحكام عقله، وقدرته على الاتباع في شؤون الدين، والابتداع في شئون الدنيا، إنه لمن الممكن بهذه القيادة وهذه الجماهير أن تنهض حضارة.
إن الحضارة التي أقامها الإسلام بدأت فكرا حرا، وخلقا قويما، وصراطا مستقيما؛ وتوجد الآن مذاهب وفلسفات قطعت من عمرها سبعين سنة، ولكنَّها ما خلقت في الأرض إلا الأحقاد، ولا استبقت بين الناس إلا الإلحاد، وما عاشت -ولا تعيش- إلا في ظلمات الاستبداد. أما الأمة الإسلامية فقد جار عليها الزمن دهرا، ومع ذلك أوى الإيمان إلى قلوب واثقة من ربها، إن أظلم عليها يومها أملت الشروق في غدها، واستمسكت بعروة الحق حتى تنتصر به إلى آخر الدهر.
أيها المسلمون: يجب أن نعرف أن اكتمال الدين، وتمام النعمة، كما يرشد إليهما عيد الأضحى، يطلب منا أن ندري بدقة ماذا علينا، وما الذي نصنعه حتى نقوم بوظيفتنا. الدين اكتمل، والأمة انبعثت به فأضاءت المشارق والمغارب؛ لكن، مرة أخرى نستدرك، كيف تم هذا الدين؟ أو ما هي العناصر التي يمكن أن نؤدي باستكمالها واجباتنا؟ يقول الله تعالى: (كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ * فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ) [البقرة:151-152].
ثلاثة عناصر نريد أن نتدبرها تكررت في القرآن أربع مرات، وهى تحدد طبيعة الرسالة التي يعتنقها المسلمون، ومكتوب عليهم أن ينهضوا بها. أول هذه العناصر التلاوة: (يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِنَا) ثاني هذه العناصر التزكية: (وَيُزَكِّيكُمْ)، والتزكية هي التربية، ثالث هذه العناصر التعليم: (وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ).
العنصر الأول: وهو التلاوة. ينبغي أن يعرف على حقيقته، فليست التلاوة أن يجيء قُراء حسنو الصوت لكي يقرؤوا الآيات منغومة، ويستمع الناس إليها وهم مسرورون بموسيقاها! لا، التلاوة هنا تعني عرض منهج، تعني تقديم برنامج، تعني رسم الخط البياني للأمة -للأمة كلها-، فالتلاوة تعطي صورة مجملة للإسلام في عقائده وعباداته وأخلاقه وأعماله، يقول الله تبارك وتعالى: (كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ) [الرعد:30]، فالتلاوة هنا رسم منهج، وبيان طريق، وإعطاء صورة عامة لملامح الإسلام، وهذا حسن، فإن عيب بعض المسلمين أنهم يدركون جانبا من جوانب الحق، ويذهلون عن بقية الجوانب؛ والتلاوة عندما تقرع الآذان، وتصل إلى القلوب، إنما تعرض الإسلام متكاملا، ولا بد من هذا التكامل، بجميع دقائقه وأسراره.
العنصر الثانى: وهو التزكية. وهو عنصر أضاعه المسلمون -للأسف-! (يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ)، التزكية هي التربية، كل أمة لا تربي لا خير فيها ولا تؤدي واجبها، التربية هي تكميل النفس الإنسانية بقمع أهوائها، وإطلاق خصائصها العليا، وهو ما قاله الله تعالى في مكان آخر: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) [الشمس:7-10].
لا قيمة لإيمان يكون أوراقا ملصقة بالكيان الإنساني، قد تدارى عورته أو تستر تشويها في الجدار، الإصلاح الحقيقي عمل داخل النفس الإنسانية، وكل منا يولد وله شهوات قد تكون جامحة، وله طباع قد تكون رديئة؛ وكل منا في بيئته قد تتسلل إلى أحواله عادات سيئة، ومسالك رديئة، لا يقوم دين ما بقيت هذه الشهوات تجمح، وما بقيت هذه العادات تسيطر؛ لابد من تزكية، والتزكية كانت العنصر الثاني في أغلب آيات القرآن بعد التلاوة، وإن كانت قد جاءت في دعوة إبراهيم آخر العناصر الثلاثة: (يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [البقرة:129].
لتكن التزكية العنصر الثاني أو العنصر الثالث، فالواو -كما يقول علماؤنا- لا تفيد تعقيبا ولا ترتيبا، وإنما المهم أن نحسن الحسن، وأن نقبح القبيح، وأن نسير بطباع بعيدة عن الهوى، وأخلاق بعيدة عن العوج. مرَّ بأمتنا هذه -حتى في أيام انهيارها- مرَّ بها زمانٌ كان التلميذ لو وُصف بالغش لاحمرَّ وجهُه، أو لحاول استنكار ما نسب إليه، لا تزال بقية خير في النفوس، أثر التزكية القديمة يوم كان للدين أثره، ثم وجدنا يوما أن هناك غشا جماعيا تتواصى به فصول، ويتواصى به مربون وأولياء أمور! كيف تنجح أمة يتحول فيها الضلال إلى أن يكون عنصرا سائدا يعيش الناس في ظله؟! وما النتيجة يوم أن يتخرج طبيب وهو غاش مغشوش، أو مهندس وهو غاش مغشوش؟ كيف تُسلم الأمة زمامها إلى أناس هم خريجو الغش؟!.
إن العطب قد أصاب النفس الإسلامية في صميمها، وليس هناك أمل إلا فيمن يربون داخل جماعة إسلامية. إن التربية لا تسمح بنبت شيطاني، التربية هي زرعٌ أشرف عليه المشرفون، ونموه بعين الله، وسقوه حتى نضج، ومنعوا عنه الآفات حتى اكتمل وأعطى حصاده كاملا موفورا، هذه هي التزكية، وما تتم إلا بتعهُّد، وما أحوج المسلمين إلى صناعة التربية! فإنهم بغير هذه الصناعة لن يصلح لهم لا حديد ولا نحاس ولا شيء من هذا كله، النفس أولا، الإنسان هو عنصر النجاح أو الفشل، هو عنصر النصر أو الهزيمة، وهذا ما فعله نبي الإسلام -صلى الله عليه وسلم-، فقد صاغ من العرب شعبا هو بعقله المثقف، وبقلبه المستنير، وبما أودع الله في سرائره من خير، هو الخير كله، وكان النجاح كله.
العنصر الثالث: التعليم. (وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ)، كثير من المفسرين ظن أن الحكمة هي السنة، وهذا تفسير قد يصح في بعض المواضع التي ذكرت فيها الحكمة في القرآن الكريم، كلمة "الحكمة" ذكرت في القرآن الكريم أكثر من عشر مرات، وهى تفيد أن العمل الصحيح المتقبَّل إنما يتم بصدق النظر، وحسن الفقه، وأنه مع الجهل لا تقوم حكمة، إنما تقوم الحكمة مع الحكم الدقيق، والنظر الصائب في الأمور، وهذا ما نحب أن يعرفه الناس.
وقد ذكرت كلمة "الْحِكْمَةَ" في مواضع شتى، منها قوله تعالى: (وَلَقَدْ آَتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ) [لقمان:12]، وذُكرت في قوله تعالى: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا * وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا * كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا * ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ) [الإسراء:36-39].
نحن محتاجون الى أن نتعرف كيف نقيم العناصر الثلاثة لرسالتنا.. (يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ).
الحقيقة أن الأمة الإسلامية اكتملت تعاليمها في كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، ولكن ظهر من انحرف بهذه التعاليم، أو ابتعد عنها، أو أساء إليها، فماذا كانت النتيجة؟ بدأنا ننحدر عن المكانة التي بلغ إليها آباؤنا، كان آباؤنا العالم الأول خلال ألف سنة تقريبا، من علمنا أضاءت الدنيا، ومن أخلاقنا انقمعت شهوات، إن الأمة الإسلامية نسق وحده في تصحيح الأفكار، وفى صيانة الأعراض، وفى ضبط السلوك وفى ذكر الله، وتحرِّي رضاه، والاستعداد للقائه. لكن أمتنا الآن بلغ بها حد الانحراف مكانا طوح بها في مهاوي الذل، وأصبحت أمة أخرى غير الأمة الأولى.
أمة تعرض الحق يجب أن تعلم ما يأتي: يوم تكون يدنا السفلى نتسول من غيرنا طعامنا، فإن مَن يكون أسفل اليد لا ينتظر من الآخرين أن يتبعوه، إنما يتبع الناس مَن يده العليا، والجهاد علم في البر والبحر والجو، ويوم يفشل المسلمون في علوم البر والبحر والجو التي لا ينتصر الحق إلا بها، ويوم يمدون أيديهم لتلتقط الفتات من الآخرين، فإنهم لن يعزُّوا الإسلام بهذا الضياع، وبذلك الجهل!.
أمتنا ربما تريد أن تسير سفينة فتحتاج إلى (علم) آخر لكي تستطيع السفينة أن تسير، سفينة عزلاء لا تستطيع أن تمشي وحدها، هي بحاجة لأن تدخل في جوار قوي، وأن تسير تحت "علم" قوي، فإذا كان القوي كافرا بالله، أو ضعيف العلم به، أو مثلِّثا يؤمن بالأب والابن والروح القدس!، أفتظنون أن هذا الضياع العلمي، والتخلف الحضاري، يعز الإسلام، ويدعم كلمة التوحيد؟.
إن أمتنا محتاجة إلى أن تعرف نفسها، والمدى الواسع الذي تخلفت في مبادئ طريقه، إنها أمة لم تحسن الاستماع إلى كتاب ربها، أحيانا أقول وأسأل نفسي: إنه –تعالى- ذكَر لنا في كتابه الذي أمرنا بتلاوته وتعلمه: (اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [الجاثية:12]، أقول: مَن الذي نفذ هذه الآية، ومن الذي استمع إليها؟! ليست لنا سفينة مدنية أو عسكرية صنعناها في بلدنا، ليست لنا حاملة طائرات، ليست لنا مدمرات ولا طرادات، ليست لنا أشياء نحكم بها الأمواج، ونسير بها في البحار.
من الذي استمع إلى هذه الآية: (اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ)؟ استمع إليها الروس، استمع إليها الأمريكان، استمع إليها الأوربيون؛ أما نحن فنستمع لا لنتربى، ولا لنملك حضارة سخية غالبة منتجة، لا. إنما استمعنا وقلوبنا بعيدة، إن أمتنا تخلفت كثيرا، وما تستطيع أن تعود إلى مجدها الأول، وعظمتها الغابرة، إلا يوم تقيم العناصر الثلاثة التي شرحناها، وأمامنا بعد ذلك تعليق في الخطبة الثانية لابد أن تستمعوا إليه إن شاء الله.
الحمد لله (الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ) [الشورى:25-26].
وأشهد أن لا إله إلا الله، الملك الحق المبين، وأشهد أن محمداً رسول الله، إمام الأنبياء وسيد المصلحين. اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.
أما بعد: كان يوم الجمعة الذي مضى من أيام الإسلام الحزينة، ووقعت فيه وقائع مؤسفة يندى لها الجبين، ويحس المؤمنون بإزائها أنهم عصوا ربهم، وابتعدوا عن صراطه المستقيم.
أحب أن نعرف -أيها الأخوة- بعض الطبائع للأمكنة والأزمنة التي تقررت في ديننا. عندما أقسم الله بأوطان الرسالات السابقة قال: (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ) [التين:1-3] فالخاصة الأولى والبارزة في البلد الحرام -مكة- أنها بلد الأمان، (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آَمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) [العنكبوت:67]، وعندما امتن الله -سبحانه وتعالى- على سكان الحرم امتن عليهم بأنه وفر لهم من الحريات الاقتصادية والسياسية ما جعل الناس لا يجوعون ولا يقلقون، فقال جل شأنه: (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) [قريش:3-4]. لا خوف هنالك، البلد آمن، لا في عهد الإسلام وحده، بل منذ أذَّن إبراهيم في الناس بالحج، كان الرجل يلقى قاتل أبيه في الشهر الحرام أو في البلد الحرام فلا يستطيع أن يثأر لنفسه، أو أن يقتص لما أصابه، ويدع هواه تحت نعله؛ لكي يبقى الأمان سائدا في هذا المكان.
النبي -صلى الله عليه وسلم- بيَّن أن الدماء والأعراض والأموال مصونة ومكرمة ومحظور العدوان عليها، كما حظر أي عدوان في الشهر الحرام أو في البلد الحرام، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع: "يا أيها الناس! أي يوم هذا" قالوا: يوم حرام. قال: "فأي بلد هذا؟" قالوا: بلد حرام. قال "فأي شهر هذا؟" قالوا: شهر حرام. قال: "فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا".
الإسلام حرَّم الجدل في الحج وقال: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ) [البقرة:197]، الإسلام حرم الجدل، في هذا المكان يتهاون الناس به، ولا تزال مشاعرهم تنحدر بإزائه حتى يقتل بعضهم بعضا فيه! في يوم الجمعة الماضية قُتل نحو أربعمائة شخص -أكثر أو أقل- لا يعنيني العدد، إنما الذي يعنيني أن الدم الحرام استبيح، وأن البلد الحرام استبيح، وأن الشهر الحرام استبيح، وأن الأمة الإسلامية كأنما عادت إلى جاهليتها الأولى!.
لست أفتح محضر تحقيق لأحد؛ إنما أحب أن أقول: إن الهتاف الوحيد الذي ارتضاه الله لنا في مواطن الحج هو: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك". هذا هو الهتاف، لا نحب أن نهتف بحياة أحد ولا بسقوط أحد، هو هتاف يبقى حتى يوم عرفة، ثم يتغير ليكون: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، بيده الخير، وهو عل كل شئ قدير" ثناء على الله، واستجابة لندائه، وأداء لحقوقه، هذه هي مناسك الحج، لا حرج أن تكون لي قضية أشرحها، ولقد رأيت وشاركت في الموسم الجامع في قضايا تحدث فيها إخوان لنا من "الفليبين" وتحدث فيها إخوان لنا من المظلومين، وأشرفت على هذه المجالس، وشرحت هذه القضايا وزارة الشئون الدينية هناك في المملكة العربية السعودية، أنا لا أدري ما حدث، وكرهي لما حدث يجعلني أضيق به.
ولكني أغلغل البصر في طباع أمتنا ثم أشعر بالحياء، أنا أستنزل لعنة الله على من استباح الحرم، ومن سفك الدم، أنا مشغول بالأمة الإسلامية، وطبيعتها النفسية، اعرفوا أنفسكم، اعرفوا أنفسكم، روايات كثيرة تقول: إن مئات ماتت تحت الأقدام، ما معنى هذا؟ أنا أحدثكم بالشرح العلمي لهذا الذي حدث. هناك أمة تعرف أدب السلوك، وتعرف ما أسميه: بنظام الصف، ما هو نظام الصف؟ نظام الصف هو الذي قال فيه صاحب الرسالة -عليه الصلاة والسلام-: " أقيموا الصفوف، فإنما تصفون بصفوف الملائكة، وحاذوا بين المناكب، وسدوا الخلل، ولينوا في أيدي إخوانكم، ولا تذروا فرجات للشيطان، ومن وصل صفا وصله الله تبارك وتعالى، ومن قطع صفا قطعه الله". نظام الصف هو الذي نبه القرآن إليه عندما قال: (إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص) [الصف:4]! هذا نظام الصف.
هناك نظام -هو لا يسمى نظاما- هو نظام القطيع، وما نظام القطيع؟ يكون العدد الضخم في مكان فيجيء فزع فإذا بالقوي يثب فوق الضعيف، وإذا بالكبير يقفز فوق الصغير، وإذا بالنساء والصغار يذهبون تحت الأقدام! اختفى نظام الصف وظهر نظام القطيع، كل يجري لكي يحرص على حياته، كل يجرى لكي يصل إلى غرضه، ربما داس الرجل امرأته! ما هذا؟ هذا نظام القطيع وليس نظام الصف الذي أقامه الإسلام، وأمتنا إلى الآن إذا صعدت سيارة فبنظام القطيع لا بنظام الصف، بينما نجد في العواصم الأخرى أن نظام الصف هو الذي يسود المجتمع في شئونه المدنية والعسكرية كلها.
ما الذي دهى الأمة الإسلامية حتى تحولت إلى نظام القطيع؟ ما الذي جعلها تفعل بنفسها هذه الأفاعيل؟ إننا أحوج أهل الأرض لأن ندرس ديننا، وأن نتعرف أسراره، إننا ألف مليون مسلم يزيدون مائتي مليون أيضا، نحن المسلمين ربع سكان الأرض، في كل أربعة أشخاص أو خمسة يوجد مسلم، مسلم بالوراثة، مسلم بالاسم، لكن أهو مسلم بالتلاوة وبالتزكية وبتعلم الكتاب والحكمة؟ أهو مسلم بالحضارة التي يقدمها للخلق؟ أهو مسلم بالإنتاج الذي يستغني به عن العدو؟ أهو مسلم بالرقي العقلي والخلقي الذي يجعله طليعة للناس، وإماما في الدنيا؟ لا.
ولذلك أنا أرى أن أمتنا الإسلامية أحوج ما تكون إلى أن تعود لنفسها كي ترتبط بدينها ارتباطا حقيقيا. أول الحدود التي تقام، أول الشرائع التي تُحيا، أن تكون على درجة محترمة من التربية، من الأخلاق، من الدراسة العلمية الواعية، من العقل الضخم الجميل الذي لا يستطيع أحد أن ينال منه.
انهزمت اليابان أمام أمريكا، هل استعمرت الولايات المتحدة اليابان؟ لا، العالِم لا يستعمر عالِما، انهزم الألمان في الحرب، الألمان واضعو آثار الذرة، وهم من وراء كشوف علمية كبيرة، العالم لا يستطيع أن يقول لعالم آخر: تعال يا ولد! لأنه عالم مثله، الإنتاج الياباني الآن هدد أمريكا في داخلها مع أنها انهزمت عسكريا، لنفرض أن المسلمين انهزموا عسكريا في ميادين كثيرة، فما السر في هزائمهم الأخلاقية والحضارية؟ ما السر في أنهم في ميدان الإنتاج ضعاف؟ السلعة تخرج من أي مكان لها كمالها ولها رواؤها وسلامتها وتخرج، من بين أيدي العرب مشوهة ضعيفة! ما هذا الضياع؟ التربية لابد منها، العمل الأول للجماعات الإسلامية الآن أن توقظ شعبا تخدرت مواهبه، ونامت خصائصه الرفيعة، إننا لا نريد أن نكون معرة للإسلام، نريد أن نرتفع مع مستوى الإسلام، فإن الإسلام يرفع ولا يخفض، ويعز ولا يذل، هذا واجبنا الذي نؤديه.
"اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر"
(رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [الحشر:10].
عباد الله: هذا عيد إكمال الرسالة، وتمام الوحي، وبدء قيام الأمة برسالتها، فنهنئكم بهذا العيد، ونطلب منكم أن تنصرفوا في هدوء، نطلب منكم أن تعودوا إلى بيوتكم وأنتم أهل لمغفرة الله ورضوانه. الهدوءَ الهدوءَ! وعدمَ الاشتباك بأحد!.
وكل عام وأنتم بخير، وارجعوا مأجورين مشكورين، والسلام عليكم ورحمه الله وبركاته.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي