كيف يُصَبُّ المجتمع في قالب يعمل لله، ويتحرك بهداه، لا بهوى الأنفس؟ كيف تتحول طاقة الأمة العربية إلى جهد لمحاربة الظلام والمظالم؟ كيف تبنى أمة من الصفر كي تغير وجه العالم؟ هذا هو الجهد الذي قام به كبير الأنبياء محمد -عليه الصلاة والسلام-! هذا هو الجهد الذي أنشأ به -من الصفر- جيلا من الناس لم يُعرف له نظير! ..
الحمد لله ذي الجلال والإكرام، والطول والإنعام، والعزة التي لا ترام، والجوار الذي لا يضام. (... قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [الأنعام:12-13].
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله اكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله اكبر، الله أكبر، الله أكبر ولله الحمد. لله الحمد، بيده الخلق والأمر، لا تفنى كلماته، ولا تنفد خزائنه، ولا تنتهي اختباراته.
(وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى * وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى * وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا) [النجم:42-44]. هو يحيى ويميت، ويعطى ويمنع، ويخفض ويرفع ويهدي ويضل، ويعز ويذل: (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا) [الإسراء:111]. الله أكبر، الله أكبر ولله الحمد.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. وأشهد أن محمدا رسول الله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير.
اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.
أما بعد: فهذا يوم عيد، يوم عيد الأضحى، يوم اكتمال الوحي، ويوم تمام النعمة: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) [المائدة:3].
اختار الله هذه الأمة كي تحمل رسالته، وكي تبلغ أمانته، وكي تؤدى ما عليها في هداية الحيارى وإرشاد الزائغين. اختار الله هذه الأمة، وأنزل هذه الكلمة، وعندما نتدبر هذه الكلمة، وهى من آخر ما نزل من آيات القرآن الكريم، نجد أن هنالك ما يشرحها، ففي الصفحة المقابلة لها تماما من المصحف الشريف تجد رب العالمين يذكِّر هذه الأمة بمكانتها في القيادة، وبمنصبها من إمامة البشرية، ويقول: (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) [المائدة:7].
ثم شرع الإسلام يجلى آدابه، وينشر هداياته، وتبين أنه دين عدالة تغلب الغضب، ودين إنصاف يقهر المشاعر الجائرة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [المائدة:8].
في الصفحة التي تليها مباشرة تجد إشارة إلى أن هناك محترفي تدين، احترفوا تزوير الوحي، واختلاق الكذب على السماء؛ احترفوا إضلال الناس، وزعموا أنهم أهل كتاب، فجاء القرآن ينفي ما ألفوا من تعصب، ويرفض ما توارثوا من جهالة: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [المائدة:15-16].
هذه الآيات من سورة المائدة، وهى من آخر ما نزل من القرآن الكريم، فلنعد بالذاكرة إلى عشرين سنة قبل هذه الآيات النازلة، قبل هذا الوحي المبارك؛ لنتلمس مبادئ الوحي، وهو براعم تتفتح، وهدايات تتنزل، نقف وِقْفَةَ تأمل أمامها.
في مكة إنسان خاشع القلب، مستنير البصيرة، يريد أن يصلي لله؛ وفيها أيضا جبار يكره أن تنحني الأصلاب لرب الأرض والسماء؛ لأنه ألف الوثنية، وعاش في ظلمات الجاهلية، فنجد في السورة الأولى من القرآن الكريم هذا الحوار: (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْدًا إِذَا صَلَّى * أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى * أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى) [العلق:9-12].
لماذا يعوق المتقي فلا يمضى إلى طريقه؟ لماذا تنشر العقبات أمام التقى فلا يبصر الناس بما لديه من نور؟ (أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى * أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى) [العلق:13-14]. لكن، ما السبب في هذا المسلك؟ خمرة القوة. إن للغنى سطوة، وإن للسلطة سطوة: (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى ) [العلق:6-7]. هذا ما بدأ به الوحي في السورة الأولى من كتاب الله.
في السورة الثانية تجد أيضا الوحي الأعلى يمضى في خطته السماوية كي يقي الناس من غوائل الهوى، واتِّباع الشهوات، ويقول لمن اختير حاملا للرسالة: (يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ *وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ) [المدثر:1-7]. لكن، هل تُرك؟ لا، خمرة القوة عند مَن انتشوا بها، وللقوى المادية سطوة يذهب معها العقل، ويتيه الرشد، ولذلك في نفس السورة : (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآَيَاتِنَا عَنِيدًا * سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا) [المدثر:11-17].
ثلاث وعشرون سنة، والوحي المبارك بدأ يعرض الصلاة والتقوى، يعرض طهارة البدن والنفس، يعرض طهارة الفؤاد وسناء الفكر، والعوائق أمامه تريد أن تصده، ولكنه مضى في طريقه حتى وصل إلى النهاية، وبعد ثلاث وعشرين سنة تنزل الوحي ليقول: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) [المائدة:3]. ومعه هذه الأشعة من حزم النور التي انتشرت في آفاق المشارق والمغارب؛ لتنقذ الناس من أنفسهم، وتنقذهم من الجبت والطاغوت.
الله أكبر، الله اكبر، الله أكبر. بماذا انطلقت الأمة الإسلامية عندما تعلمت هذه الهدايات، واستمعت إلى هذه الآيات؟ يجب أن تعرف الحقيقة، إن الذين ذهبوا إلى دار "كسرى" لم يذهبوا إليها باسطوانات المصحف المرتل، لم يذهبوا إليها بطبعة جديدة من المصحف الشريف، لا، لم يذهبوا بشيء من ذلك، فما يغنى شيء من ذلك؟ إنما ذهب إليه ناس على درجة غريبة من الوعي، وعلى درجة مُعجِبةٍ من الطُّهر والعدل.
وقف "ربعى بن عامر" يعرض الإسلام خلقا وسلوكا، ويعرضه نظامَ حياة، وأملَ جماهير؛ بدأ يعرض هذا الدين فقال: " إن الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام". هذا سلوك يعرض، هذه سياسة راشدة تخامر الأفئدة، وتتسلل بأضوائها إلى أعماق المجتمع؛ ليرى الناس رأيهم، كيف حدث هذا؟.
إذا كان القرآن الكريم قد بدأ بسورة العلق، وسورة المدثر، وختم بسورة المائدة، وسورة النصر، فإن هذا كان الخط السماوي الذي يجب أن يعيش الناس به، لكن هناك جهدا يساوق هذا الجهد، ويمشى معه.
كيف يُصَبُّ المجتمع في قالب يعمل لله، ويتحرك بهداه، لا بهوى الأنفس؟ كيف تتحول طاقة الأمة العربية إلى جهد لمحاربة الظلام والمظالم؟ كيف تبنى أمة من الصفر كي تغير وجه العالم؟ هذا هو الجهد الذي قام به كبير الأنبياء محمد -عليه الصلاة والسلام-! هذا هو الجهد الذي أنشأ به -من الصفر- جيلا من الناس لم يُعرف له نظير!.
ولذلك فإن عالما أمريكيا قرأتم نبأه وعرفتم كتابه، عندما تحدث عن القمم المائة الأولى في تاريخ الإنسانية، خلب بصره وفكره وبحثه منظر قمة متوَّجة بالجلال والأدب والعظمة، هي القمة الأولى بيقين في تاريخ البشرية كلها، هي محمد -عليه الصلاة والسلام-؛ لأن هذا الإنسان الكبير هو الذي استطاع أن يبنى من العدم أمة، شكلها وفق قوانين السماء، وصمها في قوالب الوحي، ودفعها بطاقات الروح، ثم تركها تخدم التوحيد وقضاياه، والقيم وطهرها، والأخلاق وسناءها، والتقاليد الناضرة، وإيحاءها.
وهكذا كان البناء العظيم لأمتنا الإسلامية، ولرسالتنا الضخمة؛ لكن هذا البناء لا يقدر عليه العابثون، ولا يستطيعه اللاهون، إن هذا البناء يحتاج إلى جلَد، وإلى مصابرة، وإلى قدرة.
ولْنعلم أن الدنيا دار اختبار، وأن كل امرئ مختبر بالآخَر: (وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا) [الفرقان:20]. والفتنة كانت شديدة، والاختبار كان مرا! لكنها طبيعة الاختبار الإلهي. إن الاختبار الإلهي يقتحم النفس الإنسانية من جميع أبوابها، ويدخل إليها من كل أقطارها، فلا مكان لغش، ولا مكان لادِّعاء، وما ينجح عند الله إلا من زكا، وما يسقط ويهوي عنده إلا من هلك، هكذا الاختبار الالهي.
وقد قيل للمسلمين: تعلموا من تاريخ الأمم قبلكم أن الحق الذي اعتنقتموه، وأن اللواء الذي رفعتموه، لا بد له من جيش محتسب يبذل دون كلل، ويكافح دون ملل، وهكذا قيل للمؤمنين: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) [البقرة:214].
هكذا يبلغ الامتحان نهايته، ويصل إلى ذروته، ولكن:
والرأيُ إنْ تَمْضِ اللَّيالِي دُونَهُ *** وافَى عَلَى جَنَبَاتِهِنَّ صَبَاحَا
لابد من أن يشرق الفجر مهما اشتدت الظلمة، ولابد أن تطلع الضحوة الكبرى مهما طال الليل، لكن الصبر مر، والتحمل لابد منه، ومن هنا جاءت في هذا العيد ذكريات لابد أن نعرفها، ولابد أن نقف مليا أمامها.
إن الاختبار وصل بأم إسماعيل -عليه السلام- أن رأت وليدها يكاد يقتله الظمأ، فماذا تصنع؟ لقد قالت لزوجها إبراهيم -عليه السلام- ما دام الله أمرك أن تتركنا هنا فلن يضيعنا! لكنها الآن تواجه الهلاك، القدر لا يكذب: (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا) [النساء:87].
إن الله إذا وعد لا يخلف وعده، ولكنه يصل بالامتحان إلى آخر رمق، ويصل بالاختبار إلى نهايته، ثم إن الزمن عنده ليس ماضيا وحاضرا ومستقبلا كما نراه نحن البشر، لا، الزمن عنده صفحة مستوية.
عندما كانت أم إسماعيل تجرى هنا وهناك تطلب الماء لولدها الذي يكاد يهلك من العطش كان رب العالمين يعلم أن الولد سيكون أمَّة، سيكون منه شعب، ستكون منه نبوة خاتمة، ستكون منه حضارة تظلل الأرض بأعظم ما ازدانت به الإنسانية من قيم، كان يعلم هذا، ولكنه ينزل أقداره بحكمة: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) [الحجر:21].
ويسوق القرآن الكريم ألوانا من الصراع بين الحق والباطل ينظر الإنسان إليها متأملا. جاء موسى -عليه السلام- إلى فرعون يقول له: هذه الأرض لا تحتمل فوق ثراها شعبين يأكل أحدهما الآخر، فلنرحك من شعب إسرائيل: (فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ) [الأعراف:105]. حل معقول، لكن الطاغية لا يعرف الحل المعقول، بل تلتوي الأمور في نفسه، فعندما يرى أن سحره تلاشى يقول: (إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) [الأعراف:123].
وخرج موسى وقومه، وتبعه فرعون وجنده، هنا يبلغ الامتحان درجة خطيرة، فإن أتباع موسى رأوا أن الجبار الذي استباح دماءهم، واستحيا نساءهم، وتجبر في الأرض على أنقاضهم، يوشك أن يضع يده عليهم، وأن تعود الأمور سيرتها الأولى في الذل النازل بهم، والهوان الواقع عليهم: (فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ * فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ * وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآَخَرِينَ) [الشعراء:61-64].
لابد من اختبارات إلهية، واختبارات شديدة، قد تكون قاسية، ولكن نتيجتها ناضرة تبيض بها وجوه المؤمنين، وتسود بها وجوه الظالمين. كنت لأمر الله في الشهور الثلاثة الأخيرة، مرة في باكستان وسيلان في جنوب العالم الاسلامي، ومرة في وسط الجزيرة العربية وعلى شواطئ الخليج، ومرة في الجانب الغربي في الأرض الإسلامية في الجزائر وما وراءها. ماذا رأيت؟.
رأيت أن هناك انتفاضة إسلامية توشك أن تكون لها آثارها في تغيير العالم الإسلامي، وما وراء حدود العالم الإسلامي! رأيت -والله- الشباب في كل مكان، ورأيت النشيد الإسلامي الذي ألف في القاهرة- هنا- يردده الشباب في الجزائر بعزم وتصميم، وهم يجأرون لله بكلمة التوحيد، ويتعاهدون على ما ينبغي أن يقدموه للإسلام من فداء وتضحية، كي تبقى كلمته، وتعلو رايته.
ومع هذا فقد كنت أرى هذه الحياة المشرقة بالإيمان، ثم أنظر بعيدا هنا وهناك وأنا شاعر بشيء من التوتر والحزن، قال لي أحدهم: ماذا؟ قلت له: والله لو استطعت أن أتكلم لقلت للمسلمين -في الشمال والجنوب، والشرق والغرب، في أفريقيا وآسيا وبقاياهم في أوربا وأمريكا- لقلت لهم جميعا: افتحوا أعينكم بقوة، أيقظوا أعصابكم بحذر، احذروا! إن الإسلام في خطر!.
قلت هذه الكلمة في وسط جزيرة العرب: إن أعداء الإسلام لهم من اليقظة، والمنعة والقدرة، والمكر والذكاء، ما جعلهم يصنعون الكثير لضرب الإسلام، والنيل منه. قلت هذا وأنا أرى أن الدم الإسلامي يسفك بغزارة في دمشق، يسفك بإرخاص، وقلة اكتراث، ألوف من الناس ضاعت بالحديد والنار! قلت هذا وأنا أرى أن الإسلام يحاط به في أماكنَ كثيرةٍ، لكنِّي كنت أدرك أن ما أصاب الأمة الإسلامية لعله بعض النار التي تشتعل في الحديد كي يتطاير ما في الحديد من أخلاط وأوشاب؛ حتى يبقى المعدن صافيا، ويتلاشى ما هنالك من دَخَن.
إن الأمة الإسلامية تحتاج إلى أن تعرف الكثير من الحقائق التي ترشحها للحياة، والتي تعيدها كما قال ربعي بن عامر: "إن الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله".
الأمة الإسلامية في عصرنا هذا اشتغلت بالشكليات أكثر من الحقائق، وعنتها الصورة أكثر عناها الجوهر، فكانت النتيجة أن بقيت تتحرك مكانها من أمد، ولكي تتحرك إلى هدفها، وتبلغ هذا الهدف، يجب أن تعرف الحقائق كاملة.
حقائق الدين: إيمان، وإخلاص، وفكر نقى، وفقه ذكى. حقائق الدين غابت عن المسلمين في بقاع كثيرة. الشكليات لا يحترمها الإسلام، ولا يعطيها من تفكيره شيئا؛ خذ مثلا الثياب، بعض الناس في طباعه أن يجمِّل نفسه، ويحسن هيئته، ويتجمل فيما يرتدى، حتى في نعله، فعن ابن مسعود عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: " لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر"، قال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا، ونعله حسنة. قال: "إن الله جميل يحب الجمال. الكبر بطر الحق، وغمط الناس" . هل معنى هذا أن الثوب الحسن شارة الإيمان؟ لا، هناك حديث آخر يقول: "رب أشعث أغبر ذي طمرين، تنبو عنه أعين الناس، لو أقسم على الله لأبَرَّه" .
ربما ارتدى ثيابا رخيصة، ربما كانت أطماره البالية لا تساوى شيئا، فهي -كما قال الشافعى-، قيل: يصف نفسه:
عَلَيَّ ثِيَابٌ لَوْ يُبَاعُ جَمِيعُهَا *** بِفَلْسٍ لَكَانَ الفَلْسُ مِنْهُنَّ أكْثَرَا
وَفِيهِنَّ نَفْسٌ لَوْ تُقَاسُ بِمِثْلِهَا *** نُفُوسُ الوَرَى كانَتْ أَجَلَّ وَأَخْطَرَا
ما اهتمَّ الإسلام بالثياب، ومع ذلك فقد ذهب بعض المسلمين إلى الولايات المتحدة وإلى المملكة المتحدة يعرض الإسلام على أنه ثياب بيض، وأكل على الأرض! ليس هذا فقها في الإسلام، وليس هذا عملا مجديا لنشر الإسلام.
أين من هذا قول ربعى بن عامر: "إن الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله ". لا تعرض الإسلام من نعله، اعرض الإسلام من قمته. أين هذا من قول النبي -صلى الله عليه وسلم- لمعاذ بن جبل -رضي الله عنه- يعلمه كيف يعرض الإسلام: "إنك ستأتي قوما أهل كتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائمَ أموالهم! واتَّقِ دعوةَ المظلوم، فإنه ليس بينه وبين الله حجاب".
مضت الشكليات بالأمة الإسلامية فتحول الإسلام إلى مظاهر! ثم يجيء الحج الآن، وأقول في نفسي: هل الحُجاج الذين ذهبوا إلى الموسم الجامع يعرفون كيف كان الحج أيام النبي -عليه الصلاة والسلام-؟ لا، لا الحكومات ولا الشعوب تدرى هذا! حَجَّتَانِ في عهد النبي -عليه الصلاة والسلام- معروفتان، حجُّ أبى بكرٍ -رضي الله عنه- بالناس، وحج النبي -عليه الصلاة والسلام- في حجة الوداع.
فأما حج أبى بكر -رضي الله عنه- بالناس، فإن الموسم الجامع لم يذهب سدى، وإن الحشود التي التفت بالبيت الحرام طائفة، أو ازدحمت بها ساحات عرفة داعية حاسرة، ترجو رحمة الله، وتخشى غضبه، هذه الجموع ما ترُكت هكذا، وإنما تقرر في هذه السنة- السنة التاسعة- تنظيف المجتمع الداخلي للأمة الإسلامية من المشركين، وتقرر منع طواف العرايا بالبيت العتيق، وتقرر إلى جانب هذا إلغاء المعاهدات غير المتكافئة الواقعة بين المسلمين وغيرهم، ومد فترة أربعة أشهر لمن يريد أن يبقى في أرض الإسلام معتقدا عقيدة التوحيد.
هذا المعنى الشامل الجامع هل يعرف جماهير المسلمين موضوع حجة أبى بكر بالناس؟ لا، حتى سورة براءة التي نزلت فيها يجهلها الناس، أو ما يقرؤونها في صلاة، كأنها ثقيلة على آذانهم أو على قلوبهم أو على مسالكهم. لماذا؟ لأنها سورة صفت المجتمع من أدرانه، وغسلت الأرض الإسلامية مما يشوبها، وكأن الناس تكره الدواء المر.
ثم جاءت حجة النبي -عليه الصلاة والسلام- بالناس، فماذا أودع فيها؟ كان يعلم أنه تارك هذا الركب ينطلق إلى غايته وحده، فطمأنهم، إنه لعله لا يلقاهم بعد يومه هذا، لكن إذا كان لا يلقاهم بشخصه فقد قال لهم: "تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله".
ثم بين في هذه الحجة حرمة الدماء والأموال والأعراض، ونقول هذا ووجوهنا سوداء، لأن الأمة الإسلامية في هذه المناسبة تسفك دمها كأنه ينابيع فوارة في الخليج، وفى إيران، وفى غير هذا من الأرض. ومن المخطئ؟ السلاح شيوعي أو أمريكي، لكن الغباء غباؤنا، والانحلال انحلالنا. ما الذي يجعلنا نسلم أرواحنا ومستقبلنا وأرضنا وتفكيرنا لهذه المؤامرات الخسيسة كلها؟.
كانت حجة الوداع تعليما للبشرية أنه لا قومية: "أيها الناس: ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا أسود على أحمر، إلا بالتقوى". ثم نادى النبي -عليه الصلاة والسلام- في هذه الحجة الجامعة بأن الأسرة الإنسانية واحدة، وأن الأسرة الإسلامية تبنى على رجل وامرأة بينهما تراحم و تعاون. إن هذا كله يعطينا أن الإسلام موضوع لا شكل، وأنه حقيقة لا صورة.
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر.
إن أمتنا في هذه الدنيا تحيا لربها، وتسيير في الركب الذي رفع لواءه محمد -عليه الصلاة والسلام-، فلنعرف رسالتنا، ولنقدرها قدرها، ولنؤد حق الله علينا.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
الحمد الله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدا رسول الله إمام الأنبياء وسيد المصلحين. اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.
أما بعد: فانتظروا أيها الإخوة دقائق أخرى، فإن أمامكم أياما من المرح واللهو إن كنتم عشاق مرح أو لهو، نستطيع أن نتحمل هذه الدقائق لكي نتعرف أمورا أخرى، إننا بحاجة إلى بعض التوجيهات التي لابد من معرفتها.
ديننا -كما قلت لكم- دين حقائق لا دين مظهريات، والشباب الذي يعمل له يحتاج إلى دعمكم وإلى تأييدكم، وإذ أنتهي من هذه الكلمة على عجل بالدعاء فإني ألفت النظر إلى أن الأخ/ محمود الراوي الذي اختير أميرا جديدا للجماعة الإسلامية في الجامعة سوف يتحدث بعد أن أُتم الدعاء.
"اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر"
(رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [الحشر:10].
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي