ما استُجلبت رحماتُ الله، ولا استمطرت خيراتُه بمثل الافتقارِ إليه، والانكسارِ بين يديه، فهو سبحانه رءوف بعباده، يرحمُ أنينَهم، ويعطفُ على حنينِهم، يكشف ضُرَّهم، ويستحي من سؤْلِهم، ويُجيبُ دعوةَ مضطرهم، فاطلبوا خيراتِ ربِّكم بلسانِ الحالِ قبل المقال، فكم أعطى عباداً بأحوالهم، ولم يسألوه بدعائهم ..
إِخْوَةَ الْإِيمَانِ: لِنَدْعُهَا نَقْلَةً إِلَى هُنَاكَ، إِلَى هُنَاكَ.... حَيْثُ الْبِرُّ وَالتُّقَى، حَيْثُ الصَّلَاحُ وَالْهُدَى، إِلَى خَيْرِ جِيلٍ عَرَفَتْهُ الْبَشَرِيَّةُ، وَشَهِدَ لَهُ التَّارِيخُ. إِلَى حَيْثُ مُحَمَّدٌ، وَصَحْبُ مُحَمَّدٍ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَى مُحَمَّدٍ. فَإِلَى صَفْحَةٍ بَيْضَاءَ مِنْ صَفَحَاتِ التَّضَرُّعِ وَالِابْتِهَالِ، وَشِكَايَةِ الْوَضْعِ وَالْحَالِ.
فِي مَدِينَةِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الَّتِي كَانَ غَالِبُ عَيْشِ أَهْلِهَا وَقُوتِهِمْ عَلَى الْفِلَاحَةِ وَالزِّرَاعَةِ، مَرَّ بِهِمْ فِي عَامٍ مِنْ أَعْوَامِهِمْ حَالَةٌ مِنَ الْقَحْطِ، فَيَبِسَتْ حِينَهَا الدِّيَارُ، وَاحْمَرَّتِ الْأَشْجَارُ، وَجَفَّ الضَّرْعُ، وَهَلَكَتِ الْمَوَاشِي، وَاشْتَدَّ عَلَى النَّاسِ الْمَحَلُّ.
فَمَشَى الصَّحْبُ الْكِرَامُ إِلَى الرَّحْمَةِ الْمُهْدَاةِ، يَشْكُونَ إِلَيْهِ حَاجَتَهُمْ وَضُرَّهُمْ، فَمَا كَانَ مِنَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَّا أَنْ وَعَدَهُمْ يَوْمًا يَخْرُجُونَ فِيهِ إِلَى الْمُصَلَّى. فَخَرَجَ النَّاسُ إِلَى مُصَلَّاهُمْ، ذَكَرُهُمْ وَأُنْثَاهُمْ، شُيُوخُهُمْ وَشُبَّانُهُمْ.
خَرَجُوا عَلَى حَالٍ مِنَ التَّخَشُّعِ وَالتَّذَلُّلِ وَالْإِخْبَاتِ، حِدَاؤُهُمُ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وَالِاسْتِغْفَارُ وَالتَّهْلِيلُ، فَالْقُلُوبُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ خَاشِعَةٌ، وَالْعُيُونُ لِرَجَاءِ رَبِّهَا دَامِعَةٌ، وَالنُّفُوسُ لِعَطَايَا الرَّبِّ الْكَرِيمِ مُؤَمِّلَةٌ رَاجِيَةٌ.
فَلَمَّا بَزَغَ حَاجِبُ الشَّمْسِ إِذَا بِخَيْرِ الْوَرَى، وَأَفْضَلِ مَنْ وَطِئَ الثَّرَى، يَخْرُجُ إِلَى النَّاسِ عَلَى حَالٍ مِنَ التَّبَذُّلِ وَالتَّضَرُّعِ وَالتَّرَسُّلِ وَالتَّخَشُّعِ، فَصَلَّى بِالنَّاسِ، وَخَطَبَ بِهِمْ خُطْبَةً جَامِعَةً، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ الشَّرِيفَتَيْنِ حَتَّى رُئِيَ بَيَاضُ إِبِطَيْهِ، فَدَعَا وَاجْتَهَدَ، وَأَلَحَّ وَابْتَهَلَ.
فَلَمْ يَكَدْ رَسُولُ الْهُدَى -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَنْزِلُ مِنْ مِنْبَرِهِ إِلَّا وَالْمَدَدُ الْإِلَهِيُّ قَدْ حَانَ، وَالْعَطَاءُ الرَّبَّانِيُّ قَدْ آنَ، فَإِذَا الْمُزْنُ الْمُتَفَرِّقَةُ تَجْتَمِعُ وَتَتَلَاحَمُ، ثُمَّ تَبْرُقُ وَتَرْعَدُ.
فَلَمْ يَرْجِعْ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى مَنْزِلِهِ إِلَّا وَقَدْ سَالَتِ السُّيُولُ، وَخَاضَ النَّاسُ فِي الْغُدْرَانِ، وَاسْتَبْشَرَتِ النُّفُوسُ فَرَحًا وَاسْتِبْشَارًا (فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) [لقمان: 48].
عِنْدَهَا ضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ، فَقَالَ: "أَشْهَدُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْ ٍقَدِيرٌ، وَأَنِّي عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ".
هَذِهِ صَفْحَةٌ مُشْرِقَةٌ مِنْ صَفَحَاتِ خَيْرِ جِيلٍ، نَعَمْ .... جَازَاهُمُ اللَّهُ بِالْعَطَاءِ وَالْإِحْسَانِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَهْلَ تُقًى وَإِحْسَانٍ، وَهَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ.
وَالْغَيْثُ نَوْعٌ مِنَ الرَّحْمَةِ، وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ، وَكَتَبَهَا الرَّحْمَنُ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ، وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ، وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ اللَّهِ يُؤْمِنُونَ.
فَمَا أَكْرَمَهُ مِنْ خَالِقٍ جَوَادٍ عَظِيمٍ! يُعْطِي بِفَضْلِهِ، وَيَمْنَعُ بِعَدْلِهِ (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ) [الأنبياء: 23].
مَا أَرْأَفَهُ مِنْ إِلَهٍ بَرٍّ رَحِيمٍ! يُغْدِقُ عَلَى الْعِبَادِ مِنْ فَضْلِهِ وَسَتْرِهِ، وَيَكْلَؤُهُمْ بِرِعَايَتِهِ وَحِفْظِهِ، وَيُصَبِّحُهُمْ وَيُمَسِّيهِمْ بِرَحْمَتِهِ وَرِزْقِهِ (وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ) [النساء:27] (يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ) [النساء:28].
يَا أَهْلَ الْإِيمَانِ: مَا اسْتُجْلِبَتْ رَحَمَاتُ اللَّهِ، وَلَا اسْتُمْطِرَتْ خَيْرَاتُهُ بِمِثْلِ الِافْتِقَارِ إِلَيْهِ، وَالِانْكِسَارِ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَهُوَ سُبْحَانَهُ رَؤُوفٌ بِعِبَادِهِ، يَرْحَمُ أَنِينَهُمْ، وَيَعْطِفُ عَلَى حَنِينِهِمْ. يَكْشِفُ ضُرَّهُمْ، وَيَسْتَحْيِي مِنْ سُؤْلِهِمْ، وَيُجِيبُ دَعْوَةَ مُضْطَرِّهِمْ.
فَاطْلُبُوا خَيْرَاتِ رَبِّكُمْ بِلِسَانِ الْحَالِ قَبْلَ الْمَقَالِ، فَكَمْ أَعْطَى عِبَادًا بِأَحْوَالِهِمْ، وَلَمْ يَسْأَلُوهُ بِدُعَائِهِمْ؟!
شَكَا إِلَيْهِ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- حَالَهُ (إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) [القصص: 24]فَرَحِمَهُ رَبُّهُ الرَّحِيمُ، فَيَسَّرَ لَهُ الزَّوْجَةَ الصَّالِحَةَ، ثُمَّ أَكْرَمَهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِالنُّبُوَّةِ، وَاخْتَصَّهُ بِالْكَلَامِ.
سُؤَالُ الْمَوْلَى بِالْحَالِ يَكُونُ بِالِاعْتِرَافِ بِالضَّعْفِ وَالْفَقْرِ وَالْحَاجَةِ (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) [فاطر: 15].
الِافْتِقَارُ إِلَى اللَّهِ بِالْحَالِ يَعْنِي اسْتِشْعَارَ تَغْيِيرِ الْحَالِ، مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، فَتَكُونُ بَيْنَ جَنْبَيِ الْعَبْدِ نَفْسٌ لَوَّامَةٌ، تَؤُزُّهُ نَحْوَ النَّدَمِ أَزًّا، إِذَاَ تَذَكَّرَ خَطَايَاهُ، تَلَجْلَجَتِ الْحَسْرَةُ بَيْنَ ثَنَايَاهُ، وَظَهَرَ الْأَسَى عَلَى مُحَيَّاهُ.
فَيَكُونُ الْعَبْدُ عِنْدَهَا وَبَعْدَهَا عَظِيمَ الْخَشْيَةِ، سَرِيعَ الدَّمْعَةِ، كَثِيرَ الِاسْتِكْثَارِ مِنَ الْحَسَنَةِ، وَالْحَسَنَةِ بَعْدَهَا.
الِافْتِقَارُ بِالْحَالِ أَنْ يَنْكَسِرَ الْقَلْبُ لِرَبِّهِ، خُضُوعًا لِعَظَمَتِهِ، وَاسْتِمْطَارًا لِرَحْمَتِهِ، وَاسْتِجْلَابًا لِعَطْفِهِ وَمَغْفِرَتِهِ.
الِافْتِقَارُ بِالْحَالِ أَنْ يُبَادِرَ الْعَبْدُ بِلَا تَسْوِيفٍ إِلَى غَسْلِ النُّكَتِ السَّوْدَاءِ الْجَاثِمَةِ عَلَى قَلْبِهِ، وَيَتَعَاهَدُ بِإِصْلَاحِ هَذِهِ الْمُضْغَةِ بِتَجْنِيبِهَا الْفِتَنَ، مَعَ اسْتِكْثَارِ الْأَعْمَالِ الْقَلْبِيَّةِ الَّتِي يُحِبُّهَا اللَّهُ وَيَنْظُرُ إِلَيْهَا ... مِنَ الْإِخْلَاصِ وَالتَّوَكُّلِ، وَالنَّدَمِ، وَالْيَقِينِ.
الِافْتِقَارُ لِلْمَلِكِ الْعَظِيمِ لَيْسَتْ حَالَةً مُؤَقَّتَةً، فِي لَحْظَةٍ أَوْ لَحَظَاتٍ مَحْدُودَةٍ.
الِافْتِقَارُ لِلَّهِ هِيَ مَنْهَجُ حَيَاةٍ، يَخُطُّ بِهَا الْعَبْدُ طَرِيقَهُ بِهِمَّةٍ عَالِيَةٍ نَحْوَ رَبِّهِ وَمَوْلَاهُ، تَرَى هَذَا الْمُفْتَقِرَ لَا يَتْرُكُ بَابًا مِنْ أَبْوَابِ الْبِرِّ إِلَّا وَلَهُ فِيهِ سَهْمٌ.
إِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ حَنَّ قَلْبُهُ، وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ لَهِجَ لِسَانُهُ، وَإِذَا سَمِعَ النِّدَاءَ تَاقَتْ نَفْسُهُ لِلصَّلَاةِ، وَإِذَا مَرَّتْ أَيَّامُ الصَّوْمِ الْفَاضِلَةُ جَفَّتْ أَمْعَاؤُهُ وَقَرْقَرَ بَطْنُهُ.
الِافْتِقَارُ إِلَى اللَّهِ بِالْحَالِ لَا يَعْنِي أَنْ يَنْعَزِلَ الْعَبْدُ إِلَى تَحَنُّثِهِ وَرَهْبَنَتِهِ، بَعِيدًا عَنْ إِصْلَاحِ بَيْتِهِ وَمُجْتَمَعِهِ.
الْمُفْتَقِرُ الْحَقُّ .. هُوَ الَّذِي إِذَا أَصْلَحَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ، سَعَى بَعْدَ ذَلِكَ لِإِصْلَاحِ مَا فَسَدَ وَأَفْسَدَهُ النَّاسُ بِالْكَلِمَةِ الطَّيِّبَةِ الصَّادِقَةِ الْمُشْفِقَةِ. يَسْعَى لِتَعْلِيمِ الْجَاهِلِ، وَتَذْكِيرِ الْغَافِلِ، وَتَوْجِيهِ الْمُخْطِئِ، وَبَذْلِ النَّصِيحَةِ لِلْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ؛ حَتَّى يَكُونَ هَذَا الْمُفْتَقِرُ لِرَبِّهِ عُضْوًا فَاعِلًا، وَحَتَّى يَكُونَ حُضُورُهُ مَكْسَبًا غَالِيًا لِلْمُجْتَمَعِ، وَصِمَامَ أَمَانٍ مِنَ الْعُقُوبَاتِ الْإِلَهِيَّةِ (فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ) [يوسف:116].
وَأَخِيرًا يَا مَنْ خَرَجْتَ تَطْلُبُ الْغَيْثَ .... تَذَكَّرْ أَنَّ إِلَهَكَ الْكَرِيمَ الْمُعْطِيَ الرَّحِيمَ قَدْ قَرَنَ بَيْنَ الِاسْتِغْفَارِ وَبَيْنَ نُزُولِ الْأَمْطَارِ، فَحَيْثُمَا كَانَتِ الْأُولَى جَاءَتِ الْأُخْرَى فِي إِثْرِهَا، هَكَذَا فَهِمَ أَنْبِيَاءُ اللَّهِ، وَهَكَذَا نَطَقَتْ آيَاتُ الذِّكْرِ الْحَكِيمِ.
خَاطَبَ نُوحٌ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- قَوْمَهُ: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا) [نوح: 10 - 11] وَنَادَى هُودٌ قَوْمَهُ: (وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ) [هود: 52].
اللَّهُمَّ يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ، يَا مَنْ بِيَدِهِ خَزَائِنُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، يَا مَنْ يُصِيبُ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ، يَا مَنْ يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي