على المؤمن أن يسأل الله تعالى الشهادة بصدق، ألا نقرأ في صلاتنا: (اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ)، مَن هم المُنعم عليهم الذين نسأل الله أن يسلك بنا سبيلهم، يقول تعالى: (وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقًا). وقد ثبت عن نبينا -صلى الله عليه وسلم- قوله: "مَنْ سَأَلَ اللَّهَ الشَّهَادَةَ بِصِدْقٍ بَلَّغَهُ اللَّهُ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ وَإِنْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ" ..
أما بعد: فيقول الله تعالى: (إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [التوبة: 111]. مازال حديثنا عن خير عباد الله، وصفوته: الشهداء في سبيل الله.
عباد الله: لا يظننَّ ظان أن الشهيد هو من قُتل في ساحات الوغى فحسب، فعن أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَا تَعُدُّونَ الشَّهِيدَ فِيكُمْ؟"، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ: مَنْ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَهُوَ شَهِيدٌ. قَالَ: "إِنَّ شُهَدَاءَ أُمَّتِي إِذًا لَقَلِيلٌ". قَالُوا: فَمَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟! قَالَ: "مَنْ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ مَاتَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ مَاتَ فِي الطَّاعُونِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ مَاتَ فِي الْبَطْنِ فَهُوَ شَهِيدٌ"، وزاد في رواية: "وَالْغَرِقُ شَهِيدٌ".
ومن الشهداء الذين ذكرهم النبي -صلى الله عليه وسلم-: صاحب السل، ومن مات بذات الجنب، والحريق، وصاحب الهدم، والمرأة تموت جمعاء، ابنها في بطنها، والنفساء، ومن قتل دون ماله أو دينه أو عرضه أو دمه.
عباد الله: وقد أوضح لنا النبي -صلى الله عليه وسلم- من هم سادات الشهداء عند الله تعالى فقال: "سيِّد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل قال إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله".
ولكن ذلك لا يعني أن نجهر بنصح الإمام من فوق المنابر، فالسلطان يُناصح سرًّا كما ورد في الحديث: "من كانت عنده نصيحة لذي سلطان فلا يكلمه بها علانية، وليأخذ بيده وليخل به، فإن قبلها قبلها وإلا كان قد أدى الذي عليه".
وخير الشهداء من قُتل يوم بدر، فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في شأن حاطب بن أبي بلتعة: "إِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ".
وأفضلهم شهداء الصحابة، فهم أئمة الهدى، ومصابيح الدجى، لا كان ولا يكون مثلهم.
ومنهم من جاء فيهم حديث أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَنْزِلَ الرُّومُ بِالأَعْمَاقِ أَوْ بِدَابِقٍ، فَيَخْرُجُ إِلَيْهِمْ جَيْشٌ مِنْ الْمَدِينَةِ مِنْ خِيَارِ أَهْلِ الأَرْضِ يَوْمَئِذٍ، فَإِذَا تَصَافُّوا قَالَتْ الرُّومُ: خَلُّوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الَّذِينَ سَبَوْا مِنَّا نُقَاتِلْهُمْ. فَيَقُولُ الْمُسْلِمُونَ: لا وَاللَّهِ لا نُخَلِّي بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ إِخْوَانِنَا. فَيُقَاتِلُونَهُمْ، فَيَنْهَزِمُ ثُلُثٌ لا يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أَبَدًا، وَيُقْتَلُ ثُلُثُهُمْ أَفْضَلُ الشُّهَدَاءِ عِنْدَ اللَّهِ، وَيَفْتَتِحُ الثُّلُثُ لا يُفْتَنُونَ أَبَدًا، فَيَفْتَتِحُونَ قُسْطَنْطِينِيَّةَ".
أيها المؤمنون: هناك جملة من الأحكام تتعلق بالشهداء: منها: أنَّ الشهيد لا يُغسل بخلاف سائر الأموات، لحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في قتلى أحد: "زَمِّلُوهُمْ بِدِمَائِهِمْ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ كَلْمٌ يُكْلَمُ فِي اللَّهِ إِلَّا يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَدْمَى، لَوْنُهُ لَوْنُ الدَّمِ وَرِيحُهُ رِيحُ الْمِسْكِ". ولو اتفق أنه مات على جنابة فلا يُغسل، لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- في حنظلة بن أبي عامر: "إن صاحبكم تغسله الملائكة فاسألوا صاحبته"، فقالت: خرج وهو جنب لما سمع الهائعة. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لذلك غسلته الملائكة".
ومنها: أنهم يكفنون في ثيابهم فلا تنزع، قال خباب بن الأرت: هاجرنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في سبيل الله نبتغي وجه الله، فوجب أجرنا على الله، فمنا من مضى لم يأكل من أجره شيئًا، منهم مصعب بن عمير، قتل يوم أحد فلم يوجد له شيء -وفي رواية: "ولم يترك"- إلا نمرة، فكنا إذا وضعناها على رأسه خرجت رجلاه، وإذا وضعناها على رجليه خرج رأسه فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "غطوا بها رأسه، واجعلوا على رجليه الإذخر".
ومنها أنَّ الصلاة عليهم تُشرع ولا تجب؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يصلِّ على شهداء أحد إلا حمزة بن عبد المطلب -رضي الله عنه-.
ومنها: ألا نشهد له بقولنا: فلان شهيد، وإنما نقول: نحسبه والله حسيبه، أو نقول: من قُتل في سبيل الله فهو شهيد.
قال البخاري في الصحيح في كتاب الجهاد والسير: "باب لا يقول: فلان شهيد". ثم أورد قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "والله أعلم بمن يجاهد في سبيله". وجاء عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- الْتَقَى هُوَ وَالْمُشْرِكُونَ فَاقْتَتَلُوا، فَلَمَّا مَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِلَى عَسْكَرِهِ وَمَالَ الآخَرُونَ إِلَى عَسْكَرِهِمْ وَفِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- رَجُلٌ لا يَدَعُ لَهُمْ شَاذَّةً إِلاَّ اتَّبَعَهَا يَضْرِبُهَا بِسَيْفِهِ. فَقَالُوا: مَا أَجْزَأَ مِنَّا الْيَوْمَ أَحَدٌ كَمَا أَجْزَأَ فُلانٌ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "أَمَا إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ". فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ: أَنَا صَاحِبُهُ أَبَدًا، قَالَ: فَخَرَجَ مَعَهُ كُلَّمَا وَقَفَ وَقَفَ مَعَهُ وَإِذَا أَسْرَعَ أَسْرَعَ مَعَهُ، قَالَ: فَجُرِحَ الرَّجُلُ جُرْحًا شَدِيدًا فَاسْتَعْجَلَ الْمَوْتَ، فَوَضَعَ نَصْلَ سَيْفِهِ بِالأَرْضِ وَذُبَابَهُ بَيْنَ ثَدْيَيْهِ، ثُمَّ تَحَامَلَ عَلَى سَيْفِهِ فَقَتَلَ نَفْسَهُ. فَخَرَجَ الرَّجُلُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: "أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ". قَالَ: "وَمَا ذَاكَ؟!"، قَالَ: "الرَّجُلُ الَّذِي ذَكَرْتَ آنِفًا أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَأَعْظَمَ النَّاسُ ذَلِكَ، فَقُلْتُ: أَنَا لَكُمْ بِهِ، فَخَرَجْتُ فِي طَلَبِهِ حَتَّى جُرِحَ جُرْحًا شَدِيدًا فَاسْتَعْجَلَ الْمَوْتَ، فَوَضَعَ نَصْلَ سَيْفِهِ بِالأَرْضِ وَذُبَابَهُ بَيْنَ ثَدْيَيْهِ، ثُمَّ تَحَامَلَ عَلَيْهِ فَقَتَلَ نَفْسَهُ ". فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عِنْدَ ذَلِكَ: "إِنَّ الرَّجُلَ لِيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لِيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ النَّارِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ".
ولهذين الحديثين قال عمر -رضي الله عنه-: "لعلكم تقولون فِي مَغَازِيكُمْ: قُتِلَ فُلانٌ شَهِيدًا، مَاتَ فُلانٌ شَهِيدًا، وَلَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَوْقَرَ عَجُزَ دَابَّتِهِ أَوْ دَفَّ رَاحِلَتِهِ ذَهَبًا وَفِضَّةً يَبْتَغِي التِّجَارَةَ، فَلا تَقُولُوا ذَاكُمْ وَلَكِنْ قُولُوا كَمَا قَالَ مُحَمَّدٌ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ".
عباد الله: الشهداء على ثلاثة أقسام:
الأول: شهيد في الدنيا، وهو الذي قاتل رياءً، يُعامل معاملة الشهيد في الدنيا ولا حظ له من أجر الشهداء من شيء في الآخرة.
الثاني: شهيد في الآخرة، وهم من ذكروا في بداية الخطبة سوى شهيد المعركة، يعاملون في الدنيا معاملة سائر الأموات، وهم في الآخرة مع زمرة الشهداء.
الثالث: شهداء الدارين، وهم من قُتل في سبيل الله.
أيها المسلمون: شهيدان في النار؛ الأول: من أخذ شيئًا من الغنائم قبل أن تقسم، وهو الغلول، قال أبو هريرة -رضي الله عنه-: "افْتَتَحْنَا خَيْبَرَ وَلَمْ نَغْنَمْ ذَهَبًا وَلا فِضَّةً، إِنَّمَا غَنِمْنَا الْبَقَرَ وَالإِبِلَ وَالْمَتَاعَ وَالْحَوَائِطَ، ثُمَّ انْصَرَفْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِلَى وَادِي الْقُرَى وَمَعَهُ عَبْدٌ لَهُ يُقَالُ لَهُ: مِدْعَمٌ أَهْدَاهُ لَهُ أَحَدُ بَنِي الضِّبَابِ، فَبَيْنَمَا هُوَ يَحُطُّ رَحْلَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذْ جَاءَهُ سَهْمٌ عَائِرٌ حَتَّى أَصَابَ ذَلِكَ الْعَبْدَ، فَقَالَ النَّاسُ: هَنِيئًا لَهُ الشَّهَادَةُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "بَلْ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ الشَّمْلَةَ الَّتِي أَصَابَهَا يَوْمَ خَيْبَرَ مِنْ الْمَغَانِمِ لَمْ تُصِبْهَا الْمَقَاسِمُ لَتَشْتَعِلُ عَلَيْهِ نَارًا". فَجَاءَ رَجُلٌ حِينَ سَمِعَ ذَلِكَ مِنْ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- بِشِرَاكٍ أَوْ بِشِرَاكَيْنِ. فَقَالَ: هَذَا شَيْءٌ كُنْتُ أَصَبْتُهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "شِرَاكٌ أَوْ شِرَاكَانِ مِنْ نَارٍ".
الثاني: من قاتل رياءً، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ، فَأُتِيَ بِهِ، فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟! قَالَ: قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ. قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لأَنْ يُقَالَ: جَرِيءٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ".
عباد الله: على المؤمن أن يسأل الله تعالى الشهادة بصدق، ألا نقرأ في صلاتنا: (اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ)، مَن هم المُنعم عليهم الذين نسأل الله أن يسلك بنا سبيلهم، يقول تعالى: (وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقًا).
وقد ثبت عن نبينا -صلى الله عليه وسلم- قوله: "مَنْ سَأَلَ اللَّهَ الشَّهَادَةَ بِصِدْقٍ بَلَّغَهُ اللَّهُ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ وَإِنْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ".
بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم، ونفعنا بما فيه من آيات وذكر حكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم لي ولكم وللمؤمنين، فاستغفروه إنه غفور رحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على خير المرسلين، وسيِّد المجاهدين، نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فلقد أكرم الله تعالى عباده الشهداء بأنواع من الكرامات، فمن ذلك:
أنَّ الله أنزل في شأن بعضهم قرآنًا يُتلى إلى يوم القيامة؛ فمن هؤلاء عبد الله بن حرام الأنصاري، والد جابر -رضي الله عنهما- كما سبق في الخطبة السابقة.
ومنهم السبعون أصحاب بئر معونة، فعنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رضي الله عنه- أنَّ رِعْلاً وَذَكْوَانَ وَعُصَيَّةَ وَبَنِي لَحْيَانَ اسْتَمَدُّوا رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى عَدُوٍّ فَأَمَدَّهُمْ بِسَبْعِينَ مِنْ الأَنْصَارِ كُنَّا نُسَمِّيهِمْ الْقُرَّاءَ فِي زَمَانِهِمْ، كَانُوا يَحْتَطِبُونَ بِالنَّهَارِ وَيُصَلُّونَ بِاللَّيْلِ، حَتَّى كَانُوا بِبِئْرِ مَعُونَةَ قَتَلُوهُمْ وَغَدَرُوا بِهِمْ، فَبَلَغَ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَنَتَ شَهْرًا يَدْعُو فِي الصُّبْحِ عَلَى أَحْيَاءٍ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ عَلَى رِعْلٍ وَذَكْوَانَ وَعُصَيَّةَ وَبَنِي لَحْيَانَ، قَالَ أَنَسٌ: فَقَرَأْنَا فِيهِمْ قُرْآنًا ثُمَّ إِنَّ ذَلِكَ رُفِعَ: (بَلِّغُوا عَنَّا قَوْمَنَا أَنَّا لَقِينَا رَبَّنَا فَرَضِيَ عَنَّا وَأَرْضَانَا).
ومن الكرامات: شهادة النبي -صلى الله عليه وسلم- لبعضهم بصدق نيته، وصحة شهادته، كما في حديث الأعرابي الذي سبق ذكره الجمعة الماضية، وكما في حديث أَبِي بَرْزَةَ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ فِي مَغْزًى لَهُ فَأَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْهِ فَقَالَ لأَصْحَابِهِ: "هَلْ تَفْقِدُونَ مِنْ أَحَدٍ؟!"، قَالُوا: نَعَمْ، فُلَانًا وَفُلَانًا وَفُلَانًا. ثُمَّ قَالَ: "هَلْ تَفْقِدُونَ مِنْ أَحَدٍ؟!"، قَالُوا: نَعَمْ، فُلَانًا وَفُلَانًا وَفُلَانًا. ثُمَّ قَالَ: "هَلْ تَفْقِدُونَ مِنْ أَحَدٍ؟!"، قَالُوا: لَا. قَالَ: "لَكِنِّي أَفْقِدُ جُلَيْبِيبًا فَاطْلُبُوهُ"، فَطُلِبَ فِي الْقَتْلَى فَوَجَدُوهُ إِلَى جَنْبِ سَبْعَةٍ قَدْ قَتَلَهُمْ ثُمَّ قَتَلُوهُ، فَأَتَى النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فَوَقَفَ عَلَيْهِ فَقَالَ: "قَتَلَ سَبْعَةً ثُمَّ قَتَلُوهُ، هَذَا مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ، هَذَا مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ"، قَالَ: فَوَضَعَهُ عَلَى سَاعِدَيْهِ لَيْسَ لَهُ إِلا سَاعِدَا النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَحُفِرَ لَهُ وَوُضِعَ فِي قَبْرِهِ وَلَمْ يَذْكُرْ غَسْلاً.
ومن الكرامات ما ورد عن بعضهم من عدم تغيرهم بعد موتهم، وعدم أكل الأرض لأجسادهم، ففي الموطأ أَنَّ عَمْرَو بْنَ الْجَمُوحِ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو الأَنْصَارِيَّيْنِ ثُمَّ السَّلَمِيَّيْنِ كَانَا قَدْ حَفَرَ السَّيْلُ قَبْرَهُمَا، وَكَانَ قَبْرُهُمَا مِمَّا يَلِي السَّيْلَ، وَكَانَا فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ، وَهُمَا مِمَّنْ اسْتُشْهِدَ يَوْمَ أُحُدٍ، فَحُفِرَ عَنْهُمَا لِيُغَيَّرَا مِنْ مَكَانِهِمَا فَوُجِدَا لَمْ يَتَغَيَّرَا كَأَنَّهُمَا مَاتَا بِالأَمْسِ، وَكَانَ أَحَدُهُمَا قَدْ جُرِحَ فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى جُرْحِهِ فَدُفِنَ وَهُوَ كَذَلِكَ، فَأُمِيطَتْ يَدُهُ عَنْ جُرْحِهِ ثُمَّ أُرْسِلَتْ فَرَجَعَتْ كَمَا كَانَتْ، وَكَانَ بَيْنَ أُحُدٍ وَبَيْنَ يَوْمَ حُفِرَ عَنْهُمَا سِتٌّ وَأَرْبَعُونَ سَنَةً.
ومالي أذهب بعيدًا!! ومن أهل هذه البلاد من أكرمه الله تعالى بهذه الكرامة، إنه الطالب كمال الدين بشرى، ذهب للبوسنة لدراسة الطب، ولما كان في السنة الرابعة اشتعلت نار الحرب بينهم وبين الصرب، تقف الأمم المتحدة من ورائهم، يمهدون الطريق لرجوع الأجانب إلى بلادهم؛ لئلا تنعقد راية للجهاد في سبيل الله، فهاجر الكثيرون، وبقي نخبة من الأخيار ممن آثر السير على دروب الجهاد والاستشهاد، منهم الطالب كمال الدين بشرى، ويقدر الله أن يخوض حربًا في منطقة كونتس، ويقدر الله أن يُقتل، ولا يتمكن المجاهدون من دخول هذه المنطقة إلا بعد عشرة أيام، فيلاحظ المجاهدون عليه ثلاثة أمور:
الأول: لم يتغير جسده كأنما مات بالأمس. الثاني: كانت رائحة المسك تفوح منه. الثالث: ساعته التي كانت تعمل بالنَّبض وجدوا عقاربها تشير إلى الوقت الصحيح؛ (وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ).
نسأل الله تعالى أن يسلك بنا سبيل الشهداء...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي