الشفاعة

مسفر بن سعيد بن محمد الزهراني
عناصر الخطبة
  1. من حكمة الله تفاوت خلقه في مراتبهم .
  2. الدين قيام بحق الله وحق عباده .
  3. وجوب الإحسان إلى الخلق .
  4. الربط بين حق الخالق وحق المخلوق .
  5. فوائد السعي في مصالح المخلوقين .
  6. آداب وواجبات ينبغي مراعاتها في الشفاعة .

اقتباس

الشفاعة تنم عن حسن الخلق، وتنبئ عن كرم الأصل، وتشهد بصفاء النفس، وتترجم روعة الإنسانية، وتعلن التنصّل من الأنانية. هي الظل الذي يلجأ إليه المضطر، والحمى الذي يأوي إليه الخائف، والملاذ الذي يلوذ به الملهوف بعد الله -عز وجل-. وقد جرت سنة الله تعالى في البشر أن رفع بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضًا سُخريًا: أي ليسخر بعضهم بعضًا في الأعمال، لاحتياج هذا إلى هذا؛ فالأحوال متفاوتة، والأرزاق متباينة ..

قال تعالى: (مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا) [النساء:85]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "اشفعوا تؤجروا". متفق عليه.

الشفاعة مبدأ رائد، وخلق ماجد، وفعل مأجور، وعمل مبرور، وسعي مشكور، يُفرّج بها الهم، ويُنفس بها الكرب، ويُفكّ بها الأسير ويُحقن بها الدم، ويُجلب بها المعروف، ويُدفع بها الأذى.

الشفاعة تنم عن حسن الخلق، وتنبئ عن كرم الأصل، وتشهد بصفاء النفس، وتترجم روعة الإنسانية، وتعلن التنصّل من الأنانية. هي الظل الذي يلجأ إليه المضطر، والحمى الذي يأوي إليه الخائف، والملاذ الذي يلوذ به الملهوف بعد الله -عز وجل-.

وقد جرت سنة الله تعالى في البشر أن رفع بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضًا سُخريًا: أي ليسخر بعضهم بعضًا في الأعمال، لاحتياج هذا إلى هذا؛ فالأحوال متفاوتة، والأرزاق متباينة، والهبات مختلفة، والمواقف متغايرة، والحظوظ متنوعة، ولكن السعادة تكمل، والغبطة تتم، إذا ساد خُلق التعاون، وفشت روح المودة وعظمت بروابط المحبة، وقامت سوق الأخوة، وهبّت نسائم الرحمة، وفاح عبير التعاطف. يرفق القوي بالضعيف، ويجود الغني على الفقير، ويعطف الكبير على الصغير.

وإن هذا الدين بروعته وسموه، وجلاله وجماله، وتمامه وكماله، يقوم على أساسين، ويعتمد على دعامتين، وهما: حق الله، وحق العباد، فإن الله تعالى بفضله وكرمه وجوده وإحسانه، ولطفه ورحمته، وجلاله وعظمته لم يقصر هذا الدين على القيام بحقه -جل وعلا- فقط، ولم يجعله لأداء حقوقه ليس إلا، بل جعل من الدين القيام بحقوق المخلوقين، ومثلما رتب الأجر وأجزل العطاء لمن أدى حقه وقام بواجبه، رتّب الأجر وأعظم العطاء وأسبغ الثواب لمن أدى حقوق عباده وأحسن إليهم وقام بواجبهم.

أوجب الإحسان معه تعالى بأن تعبده كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك، وأوجب الإحسان إلى عباده بحسن الخلق، وصدق التعامل، وبذل النصيحة، وتفريج الكربة، وإعانة الضعيف، وإغاثة الملهوف، وإرشاد التائه، ورد السلام، وتشميت العاطس، واتباع الجنازة... إلى غير ذلك من أخلاق الإسلام الرفيعة، وآدابه العظيمة. وهذا الانسجام البديع، والترابط القوي بين الأمر بحقه تعالى، والأمر بحقوق عباده وترتيب الأجر وإسداء الثواب على هذا، وذاك يبدو بروعته وجماله في كثير من الآيات وعدد غير قليل من الأحاديث، انظر إلى قوله تعالى: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) [آل عمران:153].

ذكر بعد ذلك صفات المتقين فلم يذكر أنهم الصُّوَّام القُوَّام العُبَّاد الزُّهاد، وإن كانت تلك من أسمى صفاتهم، ولكن قال تعالى: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [آل عمران:134].

وهذا كله إحسان إلى الخلق، وقد قدمه على الإحسان مع الخالق -جل وعلا-، ثم قال بعد ذلك: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [آل عمران:135].

وسئل -صلى الله عليه وسلم- عن أكثر ما يدخل الناس الجنة فقال: "تقوى الله وحسن الخلق".

ويقول –صلى الله عليه وسلم- في حديث يتجلى فيه ذلك الرابط القوي، والمزج الرائع بين حقوق الخالق وحقوق المخلوقين، يقول: "إنه خلق كل إنسان من بني آدم على ستين وثلاثمائة مفصل، فمن كبر الله، وحمد الله، وهلّل الله، وسبّح الله، واستغفر الله، وعزل حجرًا عن طريق الناس أو شوكة أو عظمًا عن طريق الناس، أو أمر بمعروف أو نهى عن منكر عدد الستين والثلاثمائة، فإنه يمسي يومئذ وقد زحزح نفسه عن النار". رواه مسلم.

وروى ابن حبان في صحيحه أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: "ليس من نفس ابن آدم إلا عليها صدقة في كل يوم طلعت فيه الشمس"، قيل: يا رسول الله: ومن أين لنا صدقة نتصدق بها؟! قال: "إن أبواب الخير لكثيرة: التسبيح، والتحميد، والتكبير، والتهليل، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وتميط الأذى من الطريق، وتُسمع الأصم، وتَهدي الأعمى، وتدل المستدل على حاجته، وتسعى بشدة ساقيك مع اللهفان المستغيث، وتحمل بشدة ذراعيك مع الضعيف، فهذا كله صدقة منك على نفسك".

إن من أعظم التوفيق للعبد أن يوفق مع القيام بحق الله تعالى إلى القيام بحقوق عباد الله، من السعي في مصالحهم، والإحسان إليهم، والرفق بهم، وبذل المال، وإسداء النصيحة، والسعي بالشفاعة، وتنفيس الكرب، وتفريج الهم.

قال تعالى: (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ) [النساء:114].

وإن هنالك أناسًا اختصهم الله تعالى بقضاء حوائج عباده، والسعي في مصالحهم، وجعلهم للمعروف أهلاً، وللإحسان مقصدًا، حببه إليهم وحببهم إليه، مفاتيح للخير، مغاليق للشر: "إن لله أقوامًا يختصهم بالنعم لمنافع العباد ويقرها فيهم ما بذلوها، فإذا منعوها نزعها منهم فحوّلها إلى غيرهم". صحيح الجامع.

فتلك سُنّة ماضية، فمن لم تُنزع منه نُزعت منه بركتها، وذهب عنه أجرها، وثبت عليه وزرها. وكما أن للمال زكاة يزيد بها وينمو، ويعظم ويزكو، فإن للجاه زكاة أيضًا، وربما كان أعظم نفعًا من المال، والبخيل بجاهه أعظم من البخيل بماله، والجاه نعمة عظمى، وهبة كبرى تستحق الشكر، وتستوجب الثناء لمسديها ومعطيها -جل وعلا-، ومن شُكرها بذلها لعباد الله ابتغاء موعوده، وطمعاً في أجره، ورغبة في رضاه. والله تعالى كريم يحب الكرم، جواد يحب الجود، محسن يحب الإحسان، وقد قيل لبعض الحكماء: أي شيء من أفعال الناس يشبه أفعال الإله؟! قال: الإحسان إلى الناس، ولله المثل الأعلى.

وقال آخر: اصنع الخير عند إمكانه يبق لك حمده عند زواله، وأحسن والدولة لك، يحسن لك والدولة عليك، واجعل زمان رخائك عدةً لزمان بلائك.

في يوم القيامة؛ يوم القارعة، يوم الطامة، يوم الصاخة، يوم الحسرة، يوم التغابن، يوم الفزع، يوم الزلزلة، يوم تذهل كل مرضعة عما أرضعت، يوم يفر المرء من أخيه، وأمه وأبيه، وصاحبته وبنيه، يوم يبعثر ما في القبور، ويحصل ما في الصدور، يوم تدنو الشمس من العباد قدر ميل، يوم تعظم الحسرة، وتفيض العبرة، ويعظم الخوف، ويزداد الجزع، ويدلهم الخطب، ويتطاول الهم، ويشتد الكرب، هنالك يفرج الهم، وينفس الكرب لمن كان يفرج هموم المسلمين، وينفس كربات المكروبين.

"من نفّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسّر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه". رواه مسلم.

ويقول –صلى الله عليه وسلم-: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يُسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرّج على مسلم كربة فرّج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلمًا ستره الله يوم القيامة". متفق عليه. فالجزاء من جنس العمل.

"إنما يرحم الله من عباده الرحماء". متفق عليه.

وروي عنه –صلى الله عليه وسلم- قوله: "يحشر الناس يوم القيامة أعرى ما كانوا قط، وأجوع ما كانوا قط، وأظمأ ما كانوا قط، وأتعب ما كانوا قط، فمن كسا لله -عز وجل- كساه الله، ومن أطعم لله -عز وجل- أطعمه الله، ومن سقى لله -عز وجل- سقاه الله، ومن عفى لله -عز وجل- أعفاه الله".

فمن أراد أن يفرّج الله همه، وينفّس كربه، فليجتهد في تفريج هم المهمومين، وتنفيس كرب المكروبين، واعلموا أن صنائع المعروف تقي مصارع السوء، والصدقة تطفئ غضب الرب، وصلة الرحم تزيد في العمر، وكل معروف صدقة، وأهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة.

إن دروب الخير كثيرة، وأنواع البر متعددة، ومجالات الإحسان متنوعة، ومن أعظم ذلك السعي في حوائج المسلمين، والإحسان إلى المؤمنين؛ من إطعام للجائع، وكسوة للعاري، وعيادة للمريض، وتعليم للجاهل، وإنظار للمعسر، وإعانة للعاجز، وإسعاف للمنقطع، وكفالة لليتيم، وتفريج للهم، وتنفيس للكرب، وشفاعة في الخير. ومن يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها، وخير الناس أنفعهم للناس.

وقال –صلى الله عليه وسلم-: "أفضل الأعمال أن تدخل على أخيك المؤمن المسلم سرورًا، أو تقضي له دينًا، أو تطعمه خبزًا". صحيح الجامع.

فيجب على المسلم أن يسعى في حاجة إخوانه، وأن يجتهد في نفع المحتاج، ومساعدة الضعيف، ومؤازرة الفقير، وإغاثة الملهوف. ويجب على كل ذي منصب أو جاه أو قرار، أن يؤدي حقه خير أداء، وأن يقوم ببذله في وجوهه المشروعة، وأن يصدق في إعطاء كل ذي حق حقه: (وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)، و"اشفعوا تؤجروا"، ولكن يجب أن نراعي في شفاعتنا ومساعدتنا عدة أمور منها:

1- أن يكون ذلك ابتغاء مرضاة الله -عز وجل- حتى نؤجر عليه، ولنعلم أن ما قصد به غير وجهه تعالى فهو مردود على صاحبه، ويكون حسرة وندامة يوم القيامة.

2- أن تكون الشفاعة والواسطة في أمر مباح، فمن شفع لإنسان في عمل محرم فعليه وزره إلى يوم القيامة، قال تعالى: (وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا) [النساء: 85].

3- أن لا تكون الشفاعة والواسطة على حساب الآخرين، فتكون شفاعتك للإنسان حرمانًا لغيره ممن قد يكون أحق منه.

4- أن تشفع لمن تعلم أحقيته بذلك الأمر، وأن تكون ناصحًا له، فإذا شفعت للإنسان وأنت تعلم عدم أهليته وسوء سلوكه، فقد غششت به البلاد والعباد.

5- أن لا تكون الشفاعة فقط لصاحب الجاه أو صاحب المال أو القريب، بل يجب أن يحظى الفقير والمنقطع والمحتاج والقريب بالشفاعة، فهم أحق بها وأهلها، وهي فيهم أعظم، ولهم أولى.

6- أن لا يتبع الإنسان شفاعته ومعروفه بالمن والأذى، فإن ذلك يفسد أجرها ويعكر صفوها.

7- أن لا يغضب الشافع ويعنف ويتهم إذا لم تقبل شفاعته، فقد يحول دون قبولها أمور وأسباب يجهلها وما على المحسنين من سبيل.

الله اجعلنا مفاتيح للخير، مغاليق للشر، إنك جواد كريم.

الخطبة الثانية:

لم ترد.
 


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي