ألا بذكر الله تطمئن القلوب

بركات أحمد بني ملحم
عناصر الخطبة
  1. فضل الذكر ومنزلة الذاكرين .
  2. ذكر الله هو جلاء القلوب وصفاؤها ودواؤها .
  3. أصناف الناس في ذكر الله .
  4. المعرضون عن الذكر أموات لا حياة فيهم .
  5. ذكر الله أعظم جنود الله سبحانه .
  6. الذكر أفضل من الدعاء .

اقتباس

ذكر الله تعالى نعمة عظمى ومنحة كبرى، به تُستجلب النعم، وبمثله تستدفع النقم، وهو قوت القلوب، وقرة العيون، وسرور النفوس، وروح الحياة، وحياة الأرواح ما أشد حاجة العباد إليه، وما أعظم ضرورتهم إليه، لا يستغني عنه المسلم بحال من الأحوال؛ لأنه جلاء القلوب ودواؤها ..

إنّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي، ومَن يُضْلِلْ فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وأوصي نفسي وإياكم بتقوى الله العلي العظيم وطاعته.

عباد الله: يقول الحق سبحانه وتعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللًّهِ ألا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) [يونس: 28].

ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «ألا أنبئكم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذهب والورق، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم»? قالوا: بلى, قال: «ذكر الله».

فإذا اضطربت النفس وحار القلب فماذا نفعل وقتئذ, وإذا أرقت العيون فسهرت فلم تنم فماذا نفعل حينئذ, وإذا اشتدت الكروب وكثرت المصائب وعصفت الخطوب فماذا نفعل عندئذ، وإذا كثرت الهموم والغموم وتفشت السموم، فماذا نفعل عند ذاك، وأي عمل نقوم به لنذهب من سمائنا الغموم، وأين الدواء لهذا الداء داء القلق والإضراب النفسي. إنه يا معشر المسلمين ذكر الله (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللًّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) [يونس: 28].

نعم ذكر الله هو جلاء القلوب وصفاؤها ودواؤها، فكلما ازداد الذاكر في ذكره كلما ازداد محبة للقاء الله، فالذكر عبادة تشمل عدة أنواع من العبادات وتدخل في الكثير منها: فهل كانت الصلاة إلا ذكر، وهل كانت إقامتها إلاّ ذكر (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي) [طه: 14]، وهل كان الصوم إلا ذكر، وهل قراءة القرآن إلا ذكر، وهل الدعاء إلا ذكر، وهل الحج إلا ذكر، وهل معرفة الحلال والحرام إلا ذكر، وهل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا ذكر، وهل التقوى إلا ذكر، وإعانة المحتاج وغيرها من أعمال الخير إلا ذكر.

عباد الله: فالناس ينقسمون بالنسبة لذكر الله إلى أصناف: فمنهم من لا يذكر الله فهؤلاء قست قلوبهم عن ذكر الله فلا يذكرون الله أبدًا (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) [البقرة: 74].

نعم، إن قلوبهم أشد قسوة من الحجارة؛ لأن منها لما يخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله قال تعالى: (وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ) [البقرة: 74،] فلا تجعل قلبك أقسى من الحجارة قال تعالى: (فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) [الزمر: 22]، وقوله تعالى: (مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ) سببه أن جميع الأسباب الطبيعية تنتهي إلى الذات الإلهية, كما أن ملكوت جميع الأشياء تصف بالشعور والإدراك، وقد ثبت هذا في محله، قال بعض المفسرين في شرح هذه الآية: "هذه القلوب أشد قسوة من الصخر الصلد, لا هي تقبل الحق ولا هي ذات حياة معنوية وكمال عقلي, لا تفور من داخلها عواطف الخير ولا تجد النصيحة والحكمة والعبرة من آذانها وعيونها سبيلاً إلى ضميرها ووجدانها الجاف والميّت, ولا تحني رأسها أمام العظمة والقدرة والآيات المحسوسة, مع أن صخور الجبال الشامخة تتساقط أمام قدرة الله وقهر آياته (وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ) [البقرة: 74]".

إذن فهؤلاء أموات لا حياة فيهم أن قلوب هؤلاء لا تخضع أمام عظمة الحق وآياته، وليس سبب قسوة قلب هؤلاء إلى هذا الحد هو طينتهم، بل إن ذلك من آثار أعمالهم التي أفقدت قلوبهم القابلية التي كانت موجودة فيها وستكون نتائج أعمال أصحاب القلوب المتحجرة هؤلاء هي الضلال.

يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَثَل الَّذِي يَذْكُر رَبّه وَاَلَّذِي لَا يَذْكُر رَبّه مَثَل الْحَيّ وَالْمَيِّت», ويقول صلى الله عليه وسلم: «ما من قوم جلسوا مجلسًا وتفرقوا ولم يذكروا الله فيه إلا كأنما تفرقوا عن جيفة حمار، وكان عليهم حسرة يوم القيامة، وما مشى أحد ممشى لم يذكر الله فيه إلا كان عليه ترة، وما أوى أحد إلى فراشه ولم يذكر الله فيه إلا كان عليه ترة», فمن جف لسانه عن ذكر الله تشرب كل باطل ولغو وفحش، ومن ترطب لسانه بذكر الله كان بعيدا عن كل لغو وفحش.

وصنف لا يذكرون الله إلا قليلاً، فهؤلاء هم المنافقون الذين قال الله فيهم: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلا) [النساء: 142]، فهم يذكرون الله ولكن لا يذكرونه كثيرًا، فقلة الذكر علامة من علامات النفاق وقسوة القلب، فمجالس الغفلة التي لا يذكر فيها اسم الله، ولا يصلى فيها على نبيه، فهؤلاء من الغافلين الذين كان لهم الشيطان قرينًا، (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَانِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) [الزخرف: 36]، وهذا الصنف موجود بكثرة عباد الله سرى النفاق في دمهم وجرى في عروقهم ونسوا ما ذُكِّروا به فقست قلوبهم عن ذكر الله، فتشربت كل باطل وزور فأصبح غذاؤها فتسممت وماتت على ذلك.

فهو قرينه أينما ذهب في أكله وشربه ونومه وكلامه وسكوته, فلا بركة في طعامه ولا في شرابه، ولا بركة في نومه ولا كلامه ولا سكوته ولا سكونه، ولا بركة في ماله حتى لو بلغ الجبال، فهو لا يذكر الله ولا يعرفه إلا في المناسبات كعقود الزواج وعند العزاء، وإن ذكر الله في غير ذلك اتهم الذاكر بالجنون والشعوذة.

ومنهم من عاهد الله على ذكره وشكره وحسن عبادته فألسنتهم وقلوبهم تلهج دائمًا بذكر الله، وهؤلاء قال الله فيهم: (وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 35]، نعم لقد وعدهم الله بالمغفرة والأجر العظيم، فكلما ذكروا الله ذكرهم الله، «أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن تقرب إليّ بشبر تقربت إليه ذراعًا، وإن تقرب إليَّ ذراعًا تقربت إليه باعًا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة».

يقول ابن عباس: أي أن يذكر الله في الليل والنهار, في البر والبحر, والسفر والحضر, والغنى والفقر, والمرض والصحة, والسراء والضراء, والسر والعلانية, فالذاكرون لله عز وجل بين الغافلين بمنزلة الصابر في المعركة بين الفارين «سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، وذكر منهم: ورجلاً ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه»

نعم عباد الله: هذا الصنف موجود هم أعوان الخير ومفاتحه، هم أهل الله وخاصته يعيشون ويقتاتون على هذا الغذاء الروحي على ذكر الله تشربت أبدانهم وشربت نفوسهم منه ولم ترتوي فاستيقظت ضمائرهم عبدوا الله حق عبادته حتى وصلوا درجة الإحسان: «أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك».

وهم قلة (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) [سبأ: 13] كيف لا يكون هذا غذاؤهم ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ألا أخبركم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذهب والفضة، ومن أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم، ويضربوا أعناقكم, قالوا: بلى يا رسول الله. قال: ذكر الله عز وجل».

فذكر الله عز وجل أعظم جنود الله. سئل الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه ما أعظم جنود الله؟ قال: إني نظرت إلى الحديد فوجدته أعظم جنود الله, ثم نظرت إلى النار فوجدتها تذيب الحديد, فقلت: النار أعظم جنود الله. ثم نظرت إلى الماء فوجدته يطفئ النار, فقلت: الماء أعظم جنود الله, ثم نظرت إلى السحاب فوجدته يحمل الماء فقلت: السحاب أعظم جنود الله ثم نظرت إلى الهواء وجدته يسوق السحاب فقلت: الهواء أعظم جنود الله , ثم نظرت إلى الجبال فوجدتها تعترض الهواء فقلت: الجبال أعظم جنود الله , ثم نظرت إلى الإنسان فوجدته يقف على الجبال وينحتها. فقلت: الإنسان أعظم جنود الله, ثم نظرت إلى ما يُقعد الإنسان فوجدته النوم فقلت: النوم أعظم جنود الله, ثم وجدت أن ما يُذهب النوم فوجدته الهم والغم، فقلت: الهم والغم أعظم جنود الله , ثم نظرت فوجدت أن الهم والغم محلهما القلب فقلت: القلب أعظم جنود الله, ووجدت هذا القلب لا يطمئن إلا بذكر الله فقلت: إن الذكر أعظـم جنـود الله.

فذكر الله نعمة عظمى ومنحة كبرى، به تستجلب النعم، وبمثله تستدفع النقم، وهو قوت القلوب، وقرة العيون، وسرور النفوس، وروح الحياة، وحياة الأرواح ما أشد حاجة العباد إليه، وما أعظم ضرورتهم إليه، لا يستغنى عنه المسلم بحال من الأحوال لأنه جلاء القلوب ودواؤها يقول أبو الدرداء رضي الله تعالى عنه: "لكل شيء جلاء، وإن جلاء القلوب ذكر الله عز وجل , ولا ريب أن القلب يصدأ كما يصدأ النحاس والفضة وغيرهما، وجلاؤه بالذكر، فإنه يجلوه حتى يدعه كالمرآة البيضاء".

فإذا ترك الذكر صدئ، فإذا ذكره جلاه, وصدأ القلب بأمرين: بالغفلة والذنب، وجلاؤه بشيئين: بالاستغفار والذكر ، قال تعالى: (وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) [الكهف: 28].

نعم عباد الله: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللًّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) [يونس: 28] ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ «‏من أطاع الله عز وجل فقد ذكره وإن قلت صلاته وصيامه وتلاوته القرآن، ومن عصى الله لم يذكره وإن كثرت صلاته وصيامه وتلاوته القرآن»‏.‏

فيكفيك أيها المهموم - لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين - , قالها يونس في بطن الحوت ولو لم يقلها للبث في بطنه إلى يوم يبعثون.

ويكفيك أيها الخائف أن تقول: حسبي الله ونعم الوكيل, قالها إبراهيم وهو في النار فانقلب بفضل الله من حال إلى أحسن حال.

يكفيك يا من ضاق عليك رزقك أن تقول: أستغفر الله العظيم , فمن لازم الاستغفار جعل الله له من كل ضيق مخرجًا، ومن كل هم فرجًا، ورزقه من حيث لا يحتسب.

الخطبة الثانية:

عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال:خرج معاوية على حلقة في المسجد فقال: ما أجلسكم؟ قالوا: جلسنا نذكر الله. قال: آلله ما أجلسكم إلا ذاك؟ قالوا: والله ما أجلسنا إلا ذاك، قال: أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم، وما كان أحد بمنزلتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم أقل عنه حديثًا مني، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على حلقة من أصحابه فقال: «ما أجلسكم؟ قالوا: جلسنا نذكر الله ونحمده على ما هدانا للإسلام ومن به علينا. فقال: آلله ما أجلسكم إلا ذاك؟ قالوا: والله ما أجلسنا إلا ذاك، قال: أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم، ولكنه أتاني جبريل فأخبرني أن الله عز وجل يباهي بكم الملائكة».

عباد الله: الذكر أفضل من الدعاء؛ لأن الذكر ثناء على الله عز وجل بجميل أوصافه وآلائه وأسمائه، والدعاء سؤال العبد حاجته، فأين هذا من هذا؟ولهذا جاء في الحديث من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أحسن ما أعطي السائلين.

ولهذا كان المستحب في الدعاء أن يبدأ الداعي بحمد الله تعالى، والثناء عليه بين يدي حاجته، ثم يسأل حاجته، وقد أخبر النبي أن الدعاء يستجاب إذا تقدمه الثناء والذكر، وهذه فائدة أخرى من فوائد الذكر والثناء، أنه يجعل الدعاء مستجابًا.

فالدعاء الذي يتقدمه الذكر والثناء أفضل وأقرب إلى الإجابة من الدعاء المجرد، فإن انضاف إلى ذلك إخبار العبد بحاله ومسكنته، وافتقاره واعترافه، كان أبلغ في الإجابة وأفضل.
 


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي