التفاؤل في المحن

عمر القزابري
عناصر الخطبة
  1. حاجتنا إلى الأمل في دنيا البغي .
  2. وجوب بث الأمل وتثبيت أفئدة المؤمنين .
  3. قصص وعِبَر من تاريخ الإسلام .
  4. من المبشرات على أن المستقبل للإسلام .
  5. شروط الاستخلاف والتمكين للدين .
  6. نداء للطغاة!! .

اقتباس

عندما نعيش للإسلام فإن حياتنا تبدو طويلة عميقة تبدأ من حيث بدأت البشرية، وتمتد بعد مفارقتنا لوجه هذه الأرض، أما الذي يعيش لنفسه ولشهواته ولرغباته، فإن هذا يعيش في الظلام ويموت في الظلام، وإذا ما فتشت صحف أمجاد التاريخ لا تجد له ذكرًا ولا تسمع له رجزًا ..

الخطبة الأولى:

الحمد لله المتفرد باسمه الأسمى والمختص بالملك الأعز الأحمى الذي ليس من دونه منتهى، ولا ورائه مرمى، الظاهر لا تخيلاً ووهمًا، الباطن تقدسًا لا عدمًا.. وسع كل شيء رحمة وعلمًا، وأسبغ على أوليائه نعمًا، وبعث فيهم رسولاً من أنفسهم أنفثهم عربًا وعجمًا، وأذكاهم محتدًا ومنما، وأشدهم بهم رأفة ورحمة حاشاه ربه عيبًا ووصمًا، وذكاه روحًا وجسمًا، وأتاه حكمة وحكمًا، فآمن به وصدقه من جعل الله له في مغنم السعادة قسمًا، وكذب به وصدف عنه من كتب الله عليه الشقاء حتمًا، ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى.. صلى الله عليه صلاة تنمو وتنمى وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا..

معاشر الصالحين: بعد أن اتضحت المعالم، وتواطأ الكل مع الظالم، وتغلبت لغة المصالح، وغض الطرف عن المذابح، بعد أن أصبح القتل مباحًا والعرض مستباحًا، بعد أن مدت الروافض لنصرة الكفرة والروافض، بعد أن أسلمت الشام للقتلة واللئام، بعد أن أصبح ملأ السمع والبصر سب أبي بكر وعمر، بعد أن أصبح الحوار يترجم بلغة المَدافع، وينصر الظالم ويلام المُدافع..

بعد أن أصبح الدين إرهابًا، والانحراف صوابًا، والصمت جوابًا، بعد هذا كله نرفع رؤوسنا ونمد أبصارنا إلى خيط الأمل المنسل من بين ثنايا الظلام، ونلقي بأسماعنا إلى نداء شفّاف فيه ما فيه من الانعطاف والألطاف..

نداء يمد حبال الأمل منتشلاً قاصديه من براثين اليأس (حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) [يوسف:110].

إنها كلمات قد اعتراها الجفاف، فما أحوجنا إلى الأمل في دنيا البغي، لذلكم نكتب اليوم هذه الكلمات التي هي عصارة قلب تسيل من قلمه الدمعات؛ لتبتسم على الورق الكلمات، وما أجمل أن تكون الكلمات عصارة قلب، فكل إنتاج لم تذب فيه حشاشة النفس إنما هو ضرب من العبس.

نكتب هذه الكلمات ليعقل ساذج، ويتململ راقد، ويتنافس قاعد، ويتأنى متهور، ويفرح هامد يائس بائس؛ لتغمر القلب برودة السكينة بوعد الله بعد حرارة القلق ولذعة الحيرة ومرارة اليأس والقنوط، نثبّت أفئدة المؤمنين بتجلية حقيقة هذا الدين العظيم، وشرف الانتساب إليه.

أيها الأحباب: لا شيء في هذه الحياة يعدل ذلك الفرح الروحي الشفاف عندما نستطيع أن ندخل الثقة، ونبث الأمل في نفوس المسلمين، وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أحق الناس إلى الله أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله عز وجل سرور تدخله على مسلم أو تكشف عنه كربة".

من يقيننا بوعد الله ينبثق الفجر وينداح، نعيش لنرقب هذا الفجر الوضيء والأفق العالي والمثال السامي، عندما نعيش مع هذا الفجر ولهذا الفجر عندما نعيش من أجل مجد الإسلام فإننا نعيش حياة مضاعفة بقدر ما يتضاعف إحساسنا بالمسلمين.

عندما نعيش للإسلام فإن حياتنا تبدو طويلة عميقة تبدأ من حيث بدأت البشرية، وتمتد بعد مفارقتنا لوجه هذه الأرض، أما الذي يعيش لنفسه ولشهواته ولرغباته، فإن هذا يعيش في الظلام ويموت في الظلام، وإذا ما فتشت صحف أمجاد التاريخ لا تجد له ذكرًا ولا تسمع له رجزًا.

إذًا فالتفاؤل يقوي العزائم، ويبعث على الجد، ويعين على الظفر، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتفاءل ولا يتطير، وكان يعجبه الاسم الحسن" رواه الإمام أحمد.

وهذه القرائن لغة قائمة بذاتها، ولا يفهمها إلا أهلها الذين يرزقهم الله إياها، وقاموسها ضخم ونحوها فيه رفع ونصب، ولا مكان فيه للخفض والكسر، والمبتلى بالموازين المادية هو عن هذا الذوق معزل.

إذًا فإن التفاؤل في ظل الأزمة وفي قلب الغمة هو من الإيمان، وهو من التوكل على الله والثقة بوعده.

فواجب على كل مؤمن أن يستصحب الأمل والتفاؤل وإن أوغل الظالمون في القتل وإن تحالف الكفر وساد المكر ..

وعلى أهل العلم أن يمسّكوا الناس بهذا الباب، باب الثقة في الله والأمل في فتحه ونصره، فهذا من أبواب فتح الخير.

يقول -صلى الله عليه وسلم- في حديث بديع جميل رائع ماتع يقول -عليه الصلاة والسلام-: "عند الله خزائن الخير والشر، مفاتيحها الرجال، فطوبى لمن جعله الله مفتاحًا للخير مغلاقًا للشر، وويل لمن جعله الله مفتاحًا للشر مغلاقًا للخير" رواه الطبراني وغيره وحسنه الألباني.

عن أُبَي بن كعب -رضي الله عنه- قال: قال -صلى الله عليه وسلم-: "بشِّر هذه الأمة بالثناء والرفعة والتمكين في الأرض، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة من نصيب" رواه الإمام أحمد وصححه الألباني.

وعن أبي عتبة الخولاني قال: قال -صلى الله عليه وسلم-: "لا يزال الله يغرس في هذا الدين غرسًا يستعملهم فيه بطاعته إلى يوم القيامة" رواه الإمام أحمد وحسنه الألباني.

هذا غرس الله، ويأبى الغرس إلا طبيعته، وأكرم بغرس غرسه الله، والحمقى هم الذين يريدون أن يغرس هذا الغرس نكدًا..

نعم لأمل بسام نعيش به، نعم لأمل وضيء في وسط الظلام في وسط واقعنا الحالي يطمئن في وقت الزلازل، ما أحوجنا إلى ثقة لا تزعزع في الله، نستشرف النصر من بعيد، ونراه رأي العين، ونوقن أن البشرية في طريقها إلى ربيعها المونق، المظهر الذي يملأ حياتنا بالعطر والدفء والنور ربيع الإسلام.

ونكتفي في هذا الموضع بعرض عبرة من الواقع التاريخي للإسلام، لعلها أنسب العِبَر في هذا المقام.

بينما كان سراقة بن مالك يطارد رسول الله وصاحبه أبا بكر -رضي الله عنه- وهما مهاجران خفيةً عن أعين قريش، وبينما كان سراقة يعثر به فرسه كلما همَّ أن يتابع الرسول وصاحبه طمعًا في جائزة قريش المغرية التي رصدتها لمن يأتيها بمحمد، أو بصاحبه أو بخبرٍ عنهما.. وبينما هو يهمّ بالرجوع وقد عاهد النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يكفيهم من ورائه في هذه اللحظة قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "يا سراقة! كيف بك وسواري كسرى بيدك"، أو كما قال -صلى الله عليه وسلم-.

والله وحده يعلم ما هي الخواطر التي دارت في رأس سراقة من هذا العرض العجيب من ذلك المطارد الوحيد إلا من صاحبه أبي بكر -رضي الله عنه-، ولكن الرسول -صلى الله عليه وسلم- كان عارفًا بالحق الذي معه، وكان واثقًا من أن هذا الحق لا بد أن ينتصر على الباطل.

وتمر الأيام وتتحقق نبوءته -صلى الله عليه وسلم- ويلبس سراقة سوار كسرى فاتحًا منتصرًا متذكرًا وعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

وفي يوم الأحزاب ويا له من يوم يقول الله تعالى: (إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا) [الأحزاب:10-11].

في هذه الساعات الرهيبة والرسول -صلى الله عليه وسلم- مع الصحابة يسهم في حفر الخندق، وفيهم من الخوف والجوع ما الله به عليم، كان -صلى الله عليه وسلم- يستشرف النصر من بعيد، ويراه رأي العين في ومضات الصخور على ضرب المعاول..

يحدث النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه عن الغد المأمول والمستقبل المرجو بفتح بلاد كسرى وبلاد قيصر وبلاد اليمن حديث الواثق المطمئن، حتى إن أهل النفاق أثارهم هذا اليقين، فقال أحدهم: كان محمدًا يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط!!

نعم نحن اليوم -أيها الأحباب- في مثل هذا الموقف في كل ملابساته وكل سماته مع الجاهلية كلها من حولنا، فلا يجوز من ثم أن ينقصنا اليقين في العاقبة المحتومة، العاقبة التي يشير إليها كل شيء من حولنا على الرغم من جميع المظاهر الخادعة التي تحيط بنا.

إن حاجة البشرية اليوم إلى هذا المنهج ليست بأقل من حاجتها يوم ذاك، وإن وزن هذا المنهج اليوم بالقياس إلى كل ما لدى البشرية من مناهج لا يقل عنه يوم ذاك، ومن ثم ينبغي ألا يخالجنا الشك في أن ما وقع مرة في مثل هذه الظروف لا بد أن يقع..

الإرهاصات -أيها الأحباب- في أن المستقبل للإسلام كثيرة والمبشرات لفجر الإسلام ونصره نوقن بها أكثر من يقيننا بوجودنا.

إننا نرى اليوم المكر والخداع، والرقص على الجراح، والتواطؤ على البغي والتحالفات والقيم التي تباع في أسواق النفط، وتزوير الحقائق، وتغيير الثوابت والعدالة الملفقة التي لا تخدم إلا مصلحة الأقوى، ولكن وما ذلك المكر كله، فإن المؤمن يزول خوفه ويتفتت كربه عندما يقرأ قول الله (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) [الأنفال:30] وقوله: (أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ) [الزخرف:79]، وقوله (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ) [الأنفال:36].

إننا -أيها الأحباب- نعرض مذاقًا يعرفه من ذاق مثله، والقلب الذي ذاق هذا المذاق لا تبلغ الشدائد منه مهما بلغت؛ لأنه قلب موصول بالله، يحيى في ظل الاسترواح من الكرب الخانق بما ينسم على الأرواح من روح الله.

جعلني الله وإياكم ممن ذكر فنفعته الذكرى، وأخلص عمله لله جهرًا وسرًّا أمين.. أمين والحمد لله رب العالمين..

الخطبة الثانية:

الحمد لله الذي خلق خلقه أطوارًا، وصرفهم في أقداره فشاء عزة واقتدارًا، وأرسل الرسل إلى المكلفين إعذارًا منه وإنذارًا، وجعل محمدًا خاتمه وهو البشير النذير فنصب الدليل وأنار السبيل، وأزاح العلل وقطع المعاذير، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أئمة الرجولة والصدق وأسياد الحكمة والرفق، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

معاشر الصالحين: جرت عادة الله -سبحانه وتعالى- أنه إذا اشتدت المحن وضاقت السبل وانقطعت الوسائل جاء المدد الإلهي وجاء الفرج (حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) [يوسف:110].

إذا اشتملت على اليأس القلوب *** وضاق لما بها الصدر الرحيب

وأوطأت المكاره واطمأنت *** وأرسلت في أماكنها الخطوب

ولم ترى لانكشاف الضر وجها *** ولا أغنى بحيلته الأريب

أتاك على قنوط منك غوث *** يمن به اللطيف المستجيب

وكل الحادثات إذا تناهت *** فموصول بها الفرج القريب

إن الحرب اليوم حرب على أهل السنة، حرب على أتباع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومحبيه، ومحبي أصحابه رضي الله عنهم وأرضاهم.

والمؤسف أن هذه الحقيقة مع كونها جلية واضحة ناصعة يأبى أرباب المكر إلا أن يزيفوا الحقائق، ويأبى أتباع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أهل السنة إلا الصمت المريب، ومع ذلك فإنه لا يخالجنا الشك في نصر الإسلام هذا اليقين نبعه من القرآن والسنة والتاريخ والواقع والسنن الكونية الربانية وتحتمه طبائع الأشياء وحقائق الوجود والحياة.

إن الإسلام أضخم حقيقة وأصلب عودًا وأعمق جذورًا من أن يجتثه أعداء الحياة من على الأرض، بل هم الذين يتردون في هاوية الدمار السحيقة وفي مزابل التاريخ.

ونمر على بعض المبشرات من القرآن الكريم، قال تعالى: (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) [التوبة:32-33].

قال ابن كثير -رحمه الله-: "يحاولون أن يردوا الحق بالباطل ومثلهم في ذلك كمثل من يريد أن يطفأ شعاع الشمس بفيه، وكما أن هذا مستحيل فذلك مستحيل".

كم أبرقوا وأرعدوا حتى سال بهم وبصاحبهم السيل، وأثاروا من الباطل في بيضاء ليلها كنهارها ليجعلوا نهارها كالليل، فما كان لهم إلا ما قال الله: (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ) [الأنبياء:18].

كم تمادى الكافرون في طغيانهم يعمهون، وظلت آياته تلقف ما يأفكون فوقع الحق، وبطل ما كانوا يأفكون.. واليوم وإن حفّت المصائب وحلت النوائب وتقوى الأعداء واستعلى السفهاء، فإن هذا ليس نهاية المطاف، إن وعد الله قائم ينتظر العصبة المسلمة التي تحمل الراية وتمضي..

إن هذا المصباح الذي أناره سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- قد حاربه مليون أبي جهل، مليون عبدالله بن سبأ، مليون طاغوت ولكن هيهات هيهات..

ولا يزال أعداء الإسلام إلى اليوم يسلكون في الدعوة إلى الكفر والإلحاد شعابًا جددًا، وللتشكيك في الدين طرائق قددًا، وهيهات هيهات أن ينالوا من نور الله شيئًا، والله متم نوره ولو كره الكافرون.

من البشائر كذلك في كتاب الله (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا) [التوبة:33] لقد ظهر دين الحق لا في الجزيرة وحدها، بل ظهر من المعمور في الأرض كلها، وما يزال دين الحق ظاهرًا على الدين كله حتى بعد انحساره السياسي عن جزء كبير من الأرض التي فتحها المسلمون، وبخاصة في أوروبا وجزر البحر الأحمر.

أجل ما يزال دين الحق ظاهرًا على الدين كله من حيث هو دين فهو الدين القوي بذاته القوي بطبيعته، الزاحف بلا سيف ولا مدفع من أهله؛ وذلك لما في طبيعته من استقامة مع الفطرة، ولما فيه من تلبية بسيطة عميقة لحاجات العقل والروح وحاجات العمران والتقدم.

وإن المنصفين من غير أهل الإسلام ليشهدون لهذا الدين بالتكامل وأهليته لقيادة العالم، ولعل المسلمين وحدهم -ومع الأسف- لا يدركون هذه الحقيقة اليوم، فغير أهله يدركونها ويعيشونها ويخشونها ويحسبون لها في سياساتهم كل حساب.

إن الإسلام -أيها الأحباب- كالشمس لا يغرب أبدًا، فالشمس إذا غربت في جهة طلعت في جهة أخرى فلا تزال طالعة.

من البشائر كذلك قوله -تعالى-: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [النور:55].

قال ابن كثير -رحمه الله-: "هذا وعد من الله تعالى لرسوله -صلى الله عليه وسلم- بأنه سيجعل أمته الولاة على الناس وتصلح بهم البلاد وتخضع لهم العباد وليبدلونهم من بعد خوفهم أمنًا وحكمًا".

إن عقد الاستخلاف وتمكين الدين في القلوب، وتمكينه في تصريف الحياة وتدبيرها، وهيمنته على الأرض قائم على تلقي الهدى من الله، قائم على اجتثاث كل مظاهر الشرك من حياتنا ومعتقداتنا، قائما على الاقتداء بنبينا -صلى الله عليه وسلم-، قائم على تحكيمنا لكتاب ربنا، ألا إن وعد الله قائم، ألا وإن شرط الله معروف، فمن شاء الوعد فليقم بالشرط ومن أوفى بعهده من الله.

وقد يهزم جنود الله في معركة من المعارك وتدور عليهم الدائرة ويقسو عليهم الابتلاء، لكن الله يعدهم ويُعدهم للنصر في معركة أكبر، ولأن الله يهيئ الظروف من حولهم ليجني النصر ثماره في مجال أوسع وفي خط أطول وفي أثر أدوم.

من البشائر كذلك قوله -تعالى-: (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [آل عمران:139].

إن الحالة الدائمة التي ينبغي أن يكون عليها شعور المؤمن وتصوره وتقديره للأشياء والأحداث والقيم والأشخاص هي الاستعلاء بالإيمان على قوى الأرض الحائدة عن منهج الإيمان، وعلى قيم الأرض التي لم تنبثق من الإسلام، وعلى تقاليد الأرض التي لم يصوغها الإسلام، وعلى قوانين الأرض التي لم يشرعها الإيمان.

إن المؤمن هو الأعلى؛ الأعلى سندًا والأعلى مصدرًا، فما تكون الأرض كلها وما يكون الناس وهو يتلقى من الله وإليه يرجع، وعلى منهجه يسير.

نعم المؤمن هو الأعلى؛ لأنه يقف قابضًا على دينه كالقابض على الجمر، ويقف الشاردون عن دين الله وعن الفضيلة والقيم العليا هازئين من وقفته، ساخرين من تصوراته، ضاحكين من قيمه، فما يهن المؤمن وهو ينظر إلى الساخرين والهازئين والضاحكين..

بل ويقول كما قال نبي من أولى العزم: (إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ) [هود:38].

معاشر الكرام: هناك أمر يحسن مراعاته، إن وعد الله قائم لرسله وللذين آمنوا، ولا بد أن توجد حقيقة الإيمان في القلوب التي ينطبق هذا الوعد عليها، فتتجه لله وحده ويتوكل عليه وحده وتطمئن إلى قضائه وقدره حين تصل القلوب إلى هذه الدرجة، فلن تقدم بين يدي الله ورسوله ولن تقترح على الله صورًا معينة من صور النصر، إن الانتصار على الغير لا يكون إلا بعد الانتصار على النفس، على اللذات والشهوات، وهو النصر الذي لا يتم نصر خارجي بدونه بحال من الأحوال.

أما الطغاة الجبابرة فنقول لهم من هذا المكان: اعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير، اقتلوا واذبحوا واقصفوا، وإياكم أن تتعظوا إياكم أن تكفوا عن الدماء التي عشقتم والتي لا يمكنكم العيش بدونها..!!

اقتلوا واعملوا على مكانتكم وإنا عاملون، وانتظروا إنا منتظرون، لا ترحموا شيخًا ولا كبيرًا ولا صغيرًا، تمادوا في غيكم فإن لكم يومين، يوم ذل في الدنيا ويوم فضيحة على رؤوس الأشهاد يوم يقوم الناس لرب العالمين.

لكم اللعنات المتتابعة لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، واعلموا يا من تواطأتم مع الظالم وتغاضيتم عن جرائمه مغلبين مصالحكم وتحالفاتكم، اعلموا أنكم شركاء في الدماء. يقول سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لو أن أهل السماوات والأرض اجتمعوا في قتل مسلم لأكبهم الله جميعا على وجوهم في النار".

واعلموا -يا طغاة الأرض يا من أوغلتم في المسلمين قتلاً وترويعًا- أنكم قدمتم للأمة خدمة عظيمة من حيث لا تشعرون، فلقد استصغرت الأمة الحياة وعشقت الشهادة وسقط في قلوب المسلمين جدار الخوف ورجع الآلاف إلى ربهم، وكذلك عرفوا العدو من الصديق وعرفوا قيمة دينهم الذي يحاربون من أجله وعرفوا من هم أعداء الأمة الحقيقيين الذين يتربصون بهم الدوائر..

فلو لم يكن في هذه المحن إلا رجوع الناس إلى ربهم لكانت منحنًا جليلة.. ونقول لكل ظالم وبالأخص لطاغية الشام:

أتهزأ بالدعاء وتزدريه *** وما تدري بما صنع الدعاءُ!!

سهام الليل لا تخطئ ولكن *** لها أمد وللأمد انقضاء

اللهم إنا نسألك بحق لا إله إلا الله أن تفرّج كرب إخواننا في الشام..


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي