وإذا كانت الأمة قاطبة من مشرقها إلى مغربها قامت قومة رجل واحد لما قام نفر من الصليبيين بانتهاك كتاب الله تعالى فقامت الأمة كلها وغضبت تلك الغضبة لكتاب ربنا -عز وجل-، وهو الذي ينبغي أن يكون عليه المسلمون، وإن كنا -يا عباد الله- قد غضبنا لذلك العمل، وغضب كل من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان؛ لكن ظهر لنا من هذا العمل أمور عدة؛ فقد ظهر لنا حقيقة أعدائنا، وأن هؤلاء قد ظهر وجههم الكالح ..
أما بعد:
أيها المؤمنون: أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى في السر والعلن، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
عباد الله: إنَّ المؤمن الحق يعظِّم حرمات الله، (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ) [الحج:30]، ويقول سبحانه: (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) [الحج:32].
ولأن المؤمن الحق الذي رضي بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد -صلى الله عليه وسلم- نبيًا ورسولاً يحب ما يحبه الله -سبحانه وتعالى-، ويبغض ما يبغضه الله؛ ولذا تجده معظِّمًا ومقدرًا ومحترِمًا لشعائر هذا الدين ولحرمات هذا الدين؛ لأنه يغار لله -سبحانه وتعالى-.
ثبت في الحديث الصحيح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله يَغَار، وإن المؤمن يغار، وغيرة الله أن يأتي المؤمن ما حرم الله" رواه الترمذي وصححه الألباني؛ ولذا كان نبينا -صلى الله عليه وسلم- يغار لحرمات الله إذا انتهكت، فلا ينتصر لنفسه أبدًا؛ ولكن ينتصر لحرمات الله أن تنتهك، قالت عائشة -رضي الله عنها-: "وما انتقم رسول الله لنفسه في شيء قط، إلا أن ينتهك حرمة الله فينتقم لله بها" متفق عليه. ومن هنا نجد المؤمن الحق يغضب لغضب الله، ويرضى لما يرضي الله -سبحانه وتعالى-.
وإن من الأمور التي هي عند المسلم بمكان وهي عند الله -تعالى- بمكان وقد حرمها وأعزها ورفع مقدارها المولى -عز وجل- شعائر الله كلها، وإن من شعائر الله التي لها المكانة العظمى كل ما فيه ذكر لله -سبحانه وتعالى-، وإن من أعظمها- يا عباد الله- كتاب -ربنا عز وجل- الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، قال تعالى: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) [الإسراء:9].
كتاب الله الذي فيه خبر ما قبلنا، وحكم ما بيننا، هو العدل ليس بالهزل، من تركه من جبَّارٍ قصمه الله، ومن ابتغى الهدى من غيره أذله الله.
كتاب الله العظيم الذي تعهد الله بحفظه، (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) [الحجر:9].
هذا القرآن العظيم الذي لا يمسه إلا المطهرون، هذا القرآن الذي أوصى النبي -صلى الله عليه وسلم- في رسالته التي أرسلها إلى أهل اليمن، ورواها عنه عمرو بن حزم: "ألا يمس القرآن العظيم إلا طاهر" رواه الأثرم والدارقطني متصلاً واحتج به أحمد وصححه الألباني في إرواء الغليل.
ولذا كان الصحابة -رضي الله عنهم- يسلكون هذا المنهج، فقد روي عن سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه وأرضاه- أنه أمر ابنه أن يتوضأ لمس المصحف، وهكذا صنع سلمان، وغير واحد من الصحابة -رضي الله عنهم-.
وإن مَن لا يحترم القرآن، ولا يقدره، ولا يكون عنده بتلك المنزلة العظيمة، يخشى عليه أن يندرج في قول الله -تعالى-: (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا) [الفرقان:30]، يخشى على مَن لا يقدّر كتاب الله ولا يحترم آياته ولا يحترم كتب الحديث وكتب أهل العلم والكتب التي فيها ذكر لله -سبحانه وتعالى- يخشى عليه أن يندرج في تلك الآية العظيمة التي ذكر العلماء -رحمهم الله تعالى- أن تعظيم القرآن تندرج فيه أنواع كثيرة من تعظيم كتاب الله تعالى، فمن ذلك تلاوته، والتحاكم إليه، وعدم امتهانه، وعدم استهجان شيء فيه كتاب الله -سبحانه تعالى-.
أيها الإخوة الكرام: ذكر العلماء -رحمهم الله تعالى- هذه القضية وأطالوا فيها، قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: "أجمع المسلمون قاطبة على وجوب تعظيم القرآن العظيم". وذكر ابن عبد القوي -أحد أئمة الحنابلة، وأحد الفقهاء الكبار- أن الأئمة أجمعوا على تحريم الاتكاء على المصحف أو على ما فيه ذكر لله -سبحانه وتعالى-.
وكذلك قال ابن عبد البر -رحمه الله تعالى-، وهكذا قال القاضي عياض، وغير واحد من أئمة السلف: "إنه لا يجوز الاتكاء أو الجلوس أو وضع شيء فيه ذكر لله -سبحانه وتعالى- في مكان يمتهن فيه أو مكان لا يحترم فيه".
قال القاضي عياض -رحمه الله تعالى-: "واعلم أن من استخف بالقرآن، أو بالمصحف، أو بشيء منه، أو بجزء منه، أو بكلمة منه، أو بشيء مما صرح فيه، فقد كفر إجماعًا". من احتقر القرآن أو لم يحترم القرآن أو امتهنه عالمًا بالحكم فإنه يكفر يا عباد الله.
وإذا كانت الأمة قاطبة من مشرقها إلى مغربها قامت قومة رجل واحد لما قام نفر من الصليبيين بانتهاك كتاب الله تعالى فقامت الأمة كلها وغضبت تلك الغضبة لكتاب ربنا -عز وجل-، وهو الذي ينبغي أن يكون عليه المسلمون، وإن كنا -يا عباد الله- قد غضبنا لذلك العمل، وغضب كل من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان؛ لكن ظهر لنا من هذا العمل أمور عدة؛ فقد ظهر لنا حقيقة أعدائنا، وأن هؤلاء قد ظهر وجههم الكالح، وأنهم أعداؤنا الحقيقيون الذين كان يظن البعض غباءً أو تغابيًا أنهم أصدقاء، أنهم أحبة لنا، لقد ظهرت عداوتهم، لقد ظهر بغضهم عندما احتقروا واستهجنوا وامتهنوا أفضل شيء عند المسلمين وهو كتاب الله -سبحانه وتعالى-.
وهذا الأمر- يا عباد الله- يعلمه المسلمون، ولكن البعض يتغافلون عن ذلك، فإن هذا أمر في كتاب الله تعالى عندما يقول الله -تعالى-: (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا) [المائدة:82].
فاليهود معلوم عداوتهم، والذين أشركوا المقصود بهم المشركون من جزيرة العرب، ويدخل فيهم عامة النصارى؛ لأنهم كانوا مشركين في وقت بعثة النبي -صلى الله عليه وسلم-، حيث قالوا: إن الله ثالث ثلاثة، وقالوا: إ ن الله قد ولد له، وإن الله هو الأب والابن وهو روح القدس، واحد بالذات وثلاثة بالأقنوم، إلى غير ذلك من تخليطهم وشركهم وابتداعهم في دين الله تعالى.
لقد ظهرت لنا- يا عباد الله- هذه العدواة التي كانوا يضمرونها وإن اعتذروا عن ذلك، فإن هذا الاعتذار لا ينفعنا في قليل ولا كثير، ولا قبيل ولا دبير، إنهم أعداؤنا، رضوا بذلك أم لم يرضوا، إنهم أعداؤنا، رضي بعض المسلمين الذين يسيرون في فلكهم أم لم يرضوا بذلك.
والفائدة الثانية التي نفيدها من هذا الأمر: نعلم حقيقة منزلة كتاب الله -تعالى- في نفوس المسلمين، وما الذي ينبغي أن يكون عليه هذا القرآن؛ لأن أعداء الإسلام عمدوا إلى أقدس شيء عند المسلمين فدنسوه، إنهم يعلمون منزلة القرآن في نفوس المؤمنين فدنسوه.
يا عباد الله: وإننا بهذه المناسبة عندما نتكلم عن هذه القضية ليس المقصود تلك القضية بحد ذاتها، فإنها قضية قد تناقلتها وسائل الإعلام، وقد استنكر العلماء والدول الإسلامية -ومنها هذه البلاد المباركة- قد استنكروا هذا الصنيع الذي لا يرضاه من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان، ولو أنهم على منهج النصرانية الصحيح غير المبدل ما احتقروا كتاب الله -تعالى-، فإن المؤمنين لم ينقل عنهم أن مسلمًا قد احتقر أو امتهن كتابًا من الكتب السماوية، وإن كان فيها شيء من التحريف، سواء الإنجيل أو التوراة، فإن المسلمين يحترمون الأنبياء قاطبة، ويؤمنون بجميع أنبياء الله تعالى.
ولكن هذا يدل على أنهم ليسوا أصحاب دين، وقد بين النبي -صلى الله عليه وسلم- في الصحيح: "والذي نفس محمد بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة لا يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار" رواه مسلم وأحمد، وقال تعالى: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ) [آل عمران:85].
بهذه المناسبة-يا عباد الله- إذا ظهر لنا هذا جليًا ينبغي أن ننبه إلى قضية مهمة ربما يتغافل عنها بعض المسلمين، وربما يقع فيها البعض عن جهل، والجاهل يُعلَّم؛ وهي ما يفعله بعض الناس من امتهان لآيات القرآن الكريم أو لكتب أهل العلم من حيث يشعر أو لا يشعر، سيما في المطاعم والمنتزهات وفي المدارس من بعض الطلاب الجهلة.
فبعض الطلاب- هداهم الله- يجلس على كتبه وفيها كتاب الله، وفيها كتب الحديث، وفيها كتب الفقه، ويجلس عليها أو يتكئ عليها! وقد نقلت لكم قول الإمام ابن عبد القوي من أنه يُحرَّم الاتكاء على ما فيه ذكر الله تعالى.
وبعض الناس قد يستخدم هذه الصحف التي انتشرت وعمت وطمت وفيها آيات من القرآن الكريم، وفيها ذكر الله، وفيها اسم عبد الله وعبد الرحمن وعبد العزيز، وفيها إعلانات فيها ذكر الله -تعالى-، بعض المسلمين يتخذ هذه الصحيفة سفرة للطعام!.
يا عباد الله: وهذا من امتهان ذكر الله تعالى، والمطلوب أن يحترم المسلم كتاب ربه -عز وجل-، ونحن مقبلون على الامتحانات ينبغي أن ننبه أبناءنا إلى ذلك، فإنه -يا عباد الله- مما عمت به البلوى أن نرى الصحف والكتب وقصاصات الأوراق التي فيها ذكر الله -تعالى-، وفيها أسماء إسلامية، وفيها أسماء فيها ذكر الله، وفيها آيات من القرآن الكريم، نراها تتطاير هنا وهناك في البيت أو في الشارع أو في المحلات التجارية؛ فعلينا أن ننتبه لهذه المسألة المهمة، فإن ذلك من تعظيم حرمات الله، فإن ذلك من تعظيم شعائر الله، فإن ذلك من تقديس كتاب الله تعالى، (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) [الحج:32].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله المولى العظيم الجليل لي ولكم، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله وسلم عليه تسليمًا كثيرًا، ورضي عن أصحابه وأتباعه وإخوانه إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها المؤمنون، فإن الواجب على كل مسلم أن يستشعر هذا الأمر، وأن يحافظ على حرمات الله، وأن يحافظ على ما فيه ذكر لله -سبحانه وتعالى-، سواء كان ذلك في كتب أو صحف أو مجلات أو نحو ذلك، وأن يحفظها في مكان طاهر إذا انتهى منها، إذا استغنى عنها دفنها أو أحرقها، كما أفتى جمهور العلماء بذلك أن المسلم إذا استغنى عما فيه ذكر لله من كتاب أو نحو ذلك فإنه يدفنه أو يحرقه.
وإننا ينبغي أن ننبه أبناءنا على ذلك ونحن قادمون على الامتحانات، واذهب إلى أي مدرسة ستجد عشرات الكتب تتطاير هنا أو هناك بعد أن يفرغ الطالب من امتحانه، يرمي بهذا الكتاب أو تلك المذكرة وتدوسها الأرجل يا عباد الله! وفيها ذكر لله، وفيها آيات من القرآن الكريم، وفيها أحاديث المعصوم -صلى الله عليه وسلم-؛ فأين تعظيم شعائر الله؟! وأين تعظيم حرمات الله؟! "كُلُّكُم راعٍ، وكلكم مسؤول عن رعيته".
إن المسؤولية مشتركة، تبدأ من ولي الأمر بأن يمنح جائزة لابنه إذا أحضر له الكتاب بعد الامتحان، أعطاه جائزة ليحفظه في مكان طاهر، ثم يجمع أبناءه بعد ذلك قبل الامتحان، يجمعهم قبل الامتحان ويبين لهم هذا الأمر، وفضل تعظيم حرمات الله وحرمة امتهان القرآن أو آيات القرآن أو أحاديث المصطفى -صلى الله عليه وسلم- أو ما فيه ذكر لله تعالى؛ لينشأ جيل الأمة محترما لكتاب الله، مقدسا لحرمات الله تعالى.
كما ينبغي على المعلمين والمدرسين والمسؤولين في المدارس أن يعمموا هذا الأمر على الطلاب قبل بداية الامتحان، ويعطوا جوائز مجزية لمن يحافظ على الكتب المدرسية ويسلمها لمسؤول في المدرسة، ثم تحرق بعد ذلك أو تدفن تعظيمًا لحرمات الله تعالى، حتى لا ينزل عذاب الله ونحن غافلون يا عباد الله.
ألا وصلوا وسلموا على خير الخلق محمد بن عبد الله، عليه من ربه أفضل الصلاة وأتم التسليم...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي