هذا الكون بما فيه من مخلوقات خلق من خلق الله يجري بأمره، فما شاء الله كان وما لم يشاء لم يكن، فمن أعظم ما يُستعان به على تحقيق المطلوب ورفع ودفع المكروه: الدعاء والتوسل به لخالق هذا الكون فيشرع لنا رفع حوائجنا الخاصة والعامة الأخروية والدنيوية للخالق تبارك وتعالى، وخصوصًا في الشدائد ..
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [آل عمران: 102].
أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرُ الْهُدَى هُدَى مُحَمَّدٍ، وَشَرُّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ.
هذا الكون بما فيه من مخلوقات خلق من خلق لله يجري بأمره فما شاء الله كان وما لم يشاء لم يكن، فمن أعظم ما يُستعان به على تحقيق المطلوب ورفع ودفع المكروه: الدعاء والتوسل به لخالق هذا الكون فيشرع لنا رفع حوائجنا الخاصة والعامة الأخروية والدنيوية للخالق تبارك وتعالى، وخصوصًا في الشدائد، وقد أدرك ذلك المشركون (فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ) [العنكبوت: 65].
ومن آكد مواطن إجابة الدعاء الصلاة، فشرع الدعاء في صلاة الفرض والنفل وفي هذه الدقائق أذكر بعض ما يتعلق بدعاء القنوت في الوتر والنوازل من معاني القنوت الدعاء فيستحب أن يدعى في الوتر في آخره، فعن الحسن بن علي : عَلَّمَنِي رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَلِمَاتٍ أَقُولُهُنَّ فِي قُنُوتِ اَلْوِتْرِ: «اَللَّهُمَّ اِهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ، وَعَافِنِي فِيمَنْ عَافَيْتَ، وَتَوَلَّنِي فِيمَنْ تَوَلَّيْتَ، وَبَارِكْ لِي فِيمَا أَعْطَيْتَ، وَقِنِي شَرَّ مَا قَضَيْتَ، إِنَّكَ تَقْضِي وَلا يُقْضَى عَلَيْكَ، وإِنَّهُ لا يَذلُّ مَنْ وَالَيْتَ، ولا يَعِزُّ مَنْ عَادَيْتَ، تَبَارَكْتَ رَبَّنَا وَتَعَالَيْتَ» رواه أبو داود (1425) والترمذي (464) - وحسنه - والنسائي (1745).
وفي آخر رواية النسائي (1746) لهذا الحديث: «... وصلى الله على النبي محمد»، وهذه الزيادة لا تصح لانقطاع سندها وشذوذها. والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم خير لكن لا يداوم عليها في آخر دعاء الوتر ليس من السنة المداومة على دعاء القنوت في آخر الوتر فالذين صلوا مع النبي قيام الليل وحفظوا صلاته كابن عباس وعوف بن مالك وحذيفة وعائشة رضي الله عنهم لم يذكروا القنوت، فيحمل هذا على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يترك القنوت في الوتر أحيانًا، والله أعلم.
قال الشيخ محمد العثيمين - الفتاوى (14/176) - القنوت في الوتر سنة، لكن الاستمرار عليه دائماً ليس من السنة، بل إذا قنت أحياناً فهو خير، وإذا ترك فهو خير.
ويستحب أن يقول بعد الفراغ من الوتر: سبحان الملك القدوس، سبحان الملك القدوس، سبحان الملك القدوس يرفع بها صوته، فعن عبد الرحمن بن أبزى رضي الله عنه قال: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُوتِرُ بِـ(سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى)، وَ(قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ) وَ(قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَنْصَرِفَ قَالَ: سُبْحَانَ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ ثَلاثًا، يَرْفَعُ بِهَا صَوْتَهُ» رواه أحمد (14936)، (14937) وغيره. بإسناد صحيح.
أما مكان دعاء القنوت في الوتر وفي النوازل فهو في الركعة الأخيرة، وإن شاء دعا قبل الركوع، وإن شاء دعا بعده، فالكل ثابت، فعن عبد الرحمن بن أبزى رضي الله عنه قال: صليت خلف عمر بن الخطاب رضي الله عنه صلاة الصبح فسمعته يقول بعد القراءة قبل الركوع: "اللَّهُمَّ إِيَّاكَ نَعْبُدُ ..." رواه ابن أبي شيبة (2/314) بإسناد صحيح، وصح عنه أيضاً القنوت بعد الرفع من الركوع - وسيأتي - .
وعن أنس قال: «قَنَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَهْرًا بَعْدَ الرُّكُوعِ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ يَدْعُو عَلَى رِعْلٍ وَذَكْوَانَ وَيَقُولُ عُصَيَّةُ عَصَتْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ» رواه البخاري (1003) ومسلم (677).
وما تقدم ورد في صلاة الفرض، والأصل أنَّ ما شُرع في الفرض يشرع في النفل، فمكان القنوت في الفرض والنفل قبل الركوع وبعده، والله أعلم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (23/100): "القنوت الناس فيه طرفان ووسط، منهم من لا يرى القنوت إلا قبل الركوع، ومنهم من لا يراه إلا بعده، وأما فقهاء أهل الحديث كأحمد وغيره فيجوزون كلا الأمرين لمجيء السنة الصحيحة بهما، وإن اختاروا القنوت بعده لأنه أكثر وأقيس ".
يسن القنوت للنازلة، وهي الشديدة من شدائد الدهر تنزل بالمسلمين أو بعضهم، كحضور عدو أو الخوف منه، أو أسر بعضهم، أو تسلط حاكم ظالم عليهم أو خروج طائفة منهم تروعهم وتعتدي عليهم ففي حديث أنس «يَدْعُو عَلَى رِعْلٍ وَذَكْوَانَ» رواه البخاري (1003) ومسلم (677).
والقنوت في النوازل مستحب في الصلوات الخمس كلها الجهرية والسرية، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّه قال: "وَاللَّهِ لَأُقَرِّبَنَّ بِكُمْ صَلَاةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَقْنُتُ فِي الظُّهْرِ وَالْعِشَاءِ الْآخِرَةِ وَصَلَاةِ الصُّبْحِ وَيَدْعُو لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَلْعَنُ الْكُفَّارَ" رواه البخاري (797) ومسلم (676).
قال ابن القيم في زاد المعاد (1/274): "أحب أبو هريرة أن يعلمهم أن مثل هذا القنوت سنة، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعله، وهذا رد على أهل الكوفة الذين يكرهون القنوت في الفجر مطلقا عند النوازل وغيرها".
وعن البراء بن عازب رضي الله عنه: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقْنُتُ فِي الصُّبْحِ وَالْمَغْرِبِ» رواه مسلم (678) ففي هذين الحديثين الصحيحين القنوات في الصلوات ما عدا الظهر، وجاء قنوته في الصلوات الخمس كلها فعن ابن عباس رضي الله عنه قال: «قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شهراً متتابعاً في الظهر والعصر والمغرب والعشاء وصلاة الصبح في دبر كل صلاة إذا قال: سمع الله لمن حمده من الركعة الآخرة يدعو على أحياء من بني سليم على رعل وذكوان وعصية، ويؤمن من خلفه» [1].
قال النووي في المجموع (3/502): "قنوت النبي صلي الله تعالى عليه وسلم حين قتل القراء رضي الله عنهم يقتضي أنه كان يجهر به في جميع الصلوات، هذا كلام الرافعي والصحيح أو الصواب استحباب الجهر".
وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري (2/491): "الحكمة في جعل قنوت النازلة في الاعتدال دون السجود، مع أن السجود مظنة الإجابة كما ثبت أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد وثبوت الأمر بالدعاء فيه أن المطلوب من قنوت النازلة أن يشارك المأموم الإمام في الدعاء ولو بالتأمين، ومن ثم اتفقوا على أنه يجهر به بخلاف القنوت في الصبح فاختلف في محله وفي الجهر به".
يدعى في قنوت النازلة أن ينصر الله المؤمنين، وينجي المستضعفين من المسلمين، وأن يرفع ما نزل بهم، ويدعى على عموم المعتدين، ففي حديث أبي هريرة «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ حِينَ يَفْرُغُ مِنْ صَلَاةِ الْفَجْرِ مِنْ الْقِرَاءَةِ وَيُكَبِّرُ وَيَرْفَعُ رَأْسَهُ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ ثُمَّ يَقُولُ وَهُوَ قَائِمٌ: اللَّهُمَّ أَنْجِ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ وَسَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ وَعَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ» رواه البخاري (4560) ومسلم (675).
وعن عبيد بن عمير أن عمر بن الخطاب قنت بعد الركوع فقال: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا، وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَأَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِهِمْ، وَانْصُرْهُمْ عَلَى عَدُوِّكَ وَعَدُوِّهِمْ، اللَّهُمَّ الْعَنْ كَفَرَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِكَ، وَيُكُذِّبُونَ رُسُلَكَ، وَيُقَاتِلُونَ أَوْلِيَاءَكَ اللَّهُمَّ خَالِفْ بَيْنَ كَلِمَتِهِمَ، وَزَلْزِلْ أَقْدَامَهُمْ، وَأَنْزِلْ بِهِمْ بَأْسَكَ الَّذِي لاَ تَرُدُّهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْتَعِينُكَ وَنَسْتَغْفِرُكَ وَنُثْنِى عَلَيْكَ وَلاَ نَكْفُرُكَ، وَنَخْلَعُ وَنَتْرُكُ مَنْ يَفْجُرُكَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ اللَّهُمَّ إِيَّاكَ نَعْبُدُ، وَلَكَ نُصَلِّى وَنَسْجُدُ، وَلَكَ نَسْعَى وَنَحْفِدُ، نَرْجُو رَحْمَتَكَ ونَخاف عَذَابَكَ إِنَّ عَذَابَكَ بِالْكَافِرِينَ مُلْحِق". رواه ابن أبي شيبة (2/314) وعبد الرزاق (4969) والبيهقي (2/210) بإسناده صحيح وصححه البيهقي والحافظ ابن حجر في نتائج الأفكار (2/150) والألباني في الإرواء (2/171).
فدعاء النبي صلى الله عليه وسلم للمستضعفين في مكة، ودعاء على من قتلوا القراء، وحين حارب عمر النصارى دعا على المعتدين منهم، فيدعو بما يناسب النازلة، وإن كان المأثور يناسبها ولو مع تصرف فهو أفضل وأكمل.
ويترك قنوت النوازل إذا زال العارض، ففي حديث أبي هريرة «تَرَكَ الدُّعَاءَ بَعْدُ فَقُلْتُ: أُرَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ تَرَكَ الدُّعَاءَ لَهُمْ، قَالَ فَقِيلَ: وَمَا تُرَاهُمْ قَدْ قَدِمُوا» رواه مسلم (675) وفي رواية أبي داوود (1442) «وَأَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ فَلَمْ يَدْعُ لَهُمْ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ: وَمَا تُرَاهُمْ قَدْ قَدِمُوا».
قال ابن القيم في زاد المعاد (1/272-274): "قنت عند النوازل للدعاء لقوم، وللدعاء على آخرين، ثم تركه لما قدم من دعا لهم، وتخلصوا من الأسر، وأسلم من دعا عليهم وجاءوا تائبين، فكان قنوته لعارض، فلما زال ترك القنوت... كان هديه صلى الله عليه وسلم القنوت في النوازل خاصة، وتركه عند عدمها، ولم يكن يخصه بالفجر، بل كان أكثر قنوته فيها لأجل ما شرع فيها من التطويل، ولاتصالها بصلاة الليل، وقربها من السحر، وساعة الإجابة، وللتنزل الإلهي، ولأنها الصلاة، المشهودة التي يشهدها الله وملائكته، أو ملائكة الليل والنهار... أهل الحديث متوسطون بين هؤلاء وبين من استحبه عند النوازل وغيرها، وهم أسعد بالحديث من الطائفتين، فإنهم يقنتون حيث قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتركونه حيث تركه، فيقتدون به في فعله وتركه، ويقولون: فعله سنة، وتركه لسنة".
[1] رواه أحمد (2741) وأبو داود (1443) وفي إسناده هلال بن خباب مختلط والراوي عنه ثابت بن يزيد، ولم يتبين لي هل روى عنه قبل الاختلاط أو بعده ؟ فإن كان روى عنه قبل الاختلاط فالسند صحيح، والحديث صحّح إسناده ابن جرير الطبري في تهذيب الآثار / مسند ابن عباس (1/317) وصححه الحاكم (1/226) وابن القيم في زاد المعاد (1/269) وحسنه الحازمي في الاعتبار (102) وقال النووي في الخلاصة (1517): ((إسناده حسن أو صحيح ))، وصحح إسناده أحمد شاكر في تعليقه على المسند (2746) وحسنه الألباني في صحيح أبي داود (1280)، والله أعلم.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي