إن الدنيا دار فناء نحن عنها راحلون، وعن الذي عملنا فيها محاسَبون، وبين يدي الله موقوفون، فماذا نحن قائلون؟ (وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا)، (يَقُولُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ * كَلَّا لَا وَزَرَ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ * يُنَبَّأُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ) ..
وقف النبي صلى الله عليه وسلم خطيبا في الناس فقال لهم: "إني أرى ما لا ترون، وأسمع ما لا تسمعون، أطَّت السماء -وحقّ لها أن تئطَّ-، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته لله تعالى ساجدا، والله! لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا، ولبكيتم كثيرا، وما تلذذتم بالنساء على الفرُش، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله".
فخفض الناس رؤؤسهم، وكبُّوا وجوههم، وأخذوا يبكون، حتى سُمع لهم خنينٌ وضجيج من البكاء. إنها موعظة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، وارتعدت منها الفرائص.
عباد الله: إن العاقل من وعظ نفسه، وأخذ حِذْره، وحاسَبَ نفسه؛ و"الكيِّسُ مَن دان نفسَه، وعمِلَ لما بعد الموت؛ والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني".
إن الدنيا دار فناء نحن عنها راحلون، وعن الذي عملنا فيها محاسَبون، وبين يدي الله موقوفون، فماذا نحن قائلون؟ (وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) [الكهف:49]، (يَقُولُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ * كَلَّا لَا وَزَرَ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ * يُنَبَّأُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ) [القيامة:10-13].
يقول أمير المؤمنين عمر -رضي الله عنه وأرضاه-: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسَبوا، وزِنُوا أنفسكم قبل أن توزنوا؛ فإنه أهون عليكم في الحساب غدا أن تحاسبوا أنفسكم اليوم وتزينوا للعرض الأكبر، (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ) [الحاقة:18].
تفكَّرْ في مشيبِكَ والمآبِ *** ودفنِك بعد عِزِّكَ في الترابِ
إذا وافيتَ قبراً أنت فيه *** تُقيم به إلى يوم الحسابِ
خُلِقْتَ من التراب فعُدتَّ حياً *** وعُلِّمْتَ الفصيحَ من الخطابِ
وعُدتَّ إلى التراب فصِرْتَ فيه *** كأنَّكَ ما خرجْتَ مِن التُّرَابِ
تذكر إذا ارتجف قلبك، وازداد فزعك، واندهش عقلك، وحانت ساعتك؛ فيا له من موقف ما أعظمه! ومنظر ما أفظعه! ويوم ما أهوله! (حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُون * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) [المؤمنون:99-100].
تذكر أنك ستبيت في القبر وحدك، وسيباشر التراب خدك، وستنهش الديدان لحمك، وستبقى رهين عملك، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "يتبع الميت ثلاثة: أهله، وعمله، وماله؛ فيرجع اثنان، ويبقى واحد، يرجع أهله وماله، ويبقى عمله"
تذكر القبر وظلمته، والموت وسكرته؛ تذكر البعث وشدته، تذكر الصراط وزلته؛ تذكر إذا جيء بك تتخطى الرقاب، وتخترق الصفوف، والخلائق ينظرون إليك، فتقف بين يدي الله -عز وجل- فيسألك عن الكثير والقليل، والدقيق والجليل؛ وعندها سيخرس لسانك، ويخفق جنانك، ويذهب بيانك، فلا ترى إلا النار وعملك.
قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ما منكم أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان ولا حجاب يحجبه، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم من عمله، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة" متفق عليه.
تذكر إذا جثت الأمم على الركب، وأيقن المذنبون بالهلاك والعطب، فأمتلأت القلوب رعبا، وملئت النفوس خوفا، قد انفرد كل فرد بنفسه، وشغل كل امرئ بعمله: (يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) [الانفطار:19]، (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيه * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيه * لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) [عبس:34-37]، (يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُون * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [الشعراء:88-89].
عباد الله: تفكروا في الدنيا وسرعة زوالها، واستعدوا للآخرة وأهوالها؛ فكل يوم يمر علينا يدنينا من الأجل، ويقربنا من الله -عز وجل-، وخيرنا من طال عمره وحسن عمله، وشرنا من طال عمره وساء عمله.
مرِض عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه وأرضاه-، فعاده بعض أصحابه فقالوا له: ما تشتكي؟ قال: أشتكي ذنوبي. قالوا له: وما تشتهي؟ قال: أشتهي مغفرة ربي. قالوا له: ألا ندعو لك طبيبًا؟ قال: الطبيب أمرضني.
وعندما مرض الإمام الشافعي -رحمه الله- مرَض الموت قالوا له: كيف أصبحت يا أبا عبد الله؟ قال: أصبحت عن الدنيا راحلاً، وللإخوان مفارقًا، ولسوء عملي ملاقيًا، ولكأس المنية شاربًا، وعلى الله تعالى وارِدًا؛ ولا أدري روحي تصير إلى الجنة فأُهَنّيها، أم إلى النار فأُعَزّيها؟ ثم أنشد يقول:
ولمــَّا قسا قلبي وضاقتْ مَذاهبِي *** جعلتُ رجائي نحوَ عفْوِكَ سُلّمًا
تعاظَمَني ذنبي فلمــَّا قرنتُه *** بعفْوِكَ ربِّي كان عفوُكَ أعْظَمًا
إننا نشكو إلى الله قسوة قلوبنا، وجمود أعيُننا، وسهونا ولغونا ولهونا، وإعراضنا عن ذكر ربنا، كثرت أوزارنا، وقل استغفارنا، كلما اقتربنا من القبور زاد عندنا الفتور؛ لأن ذنوبنا غطت على قلوبنا، (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [المطففين:14].
ننام عن الصلوات، ونتجرأ على المعاصي والمنكرات، ونعمل أعمالا كأننا لن نموت، (كَلَّا بَل لَّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ * وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لمـــَّاً * وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جمَّا * كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكَّاً * وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي * فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ * يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي) [الفجر:17-30].
بارك الله لي ولكم في القرآن...
عباد الله: إن الله قد خلقنا لعبادته، وأمَرَنا بطاعته، فمَن أطاعه دخل الجنة، ومن عصاه فقد أبى الجنة، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الصحيح: "كُلُّ أُمَّتِي يدخلون الجنةَ، إِلَّا من أبى. قالوا: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: مَن أطاعني دخل الجنة، ومَن عصاني فقد أبى".
فتب إلى الله -يا عبد الله- قبل أن تنتقل من الدور إلى القبور، ودَعْ عنك التفريط والزلل ما دمت في فسحة من الأجل، واعمل اليوم عملا صالحا ما دمت في دار المهلة والعمل، وحاسب نفسك قبل أن تأتيك الأهوال، ويشتد بك النكال، (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَاللّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ) [آل عمران:30]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [الحشر:18].
فللنظر -يا عباد الله- إلى أعمالنا التي أسلفناها، وخطايانا التي ارتكبناها، والمحرمات التي فعلناها، ولنعتبر بمَن مات قبلنا قبل أن نندم على تفريطنا في صلواتنا، وقبل أن نندم على ضياع أوقاتنا، ولن ينفعنا الندم!.
لنسأل أنفسنا هل نحن محافظون على الصلاة؟ هل نحن مستعدون للقاء الله؟ هل نحن متهيئون للموت والعرض على الله؟ هل ندمنا واستغفرنا مما عملته أيدينا، وما تلفَّظَتْ به ألسنتنا، وما فعلته جوارحنا؟ ستشهد الأرض علينا، وسيشهد الملكان علينا، وستشهد جوارحنا علينا: (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [يس:65].
عباد الله: إن ربنا -سبحانه وتعالى- ينادينا ليتوب علينا، ينادينا ليغفر لنا، ينادينا ليبدل سيئاتنا حسنات، فيقول لنا: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ * أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ * بَلَى قَدْ جَاءتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ) [الزمر:53-59].
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي