لقد عرفَت البشريةُ الفقرَ منذ أزمان التاريخ المُتطاوِلة، وأعصارِه المُتعاقبة، وحاولَت البشريةُ في مسيرتها الطويلة بمِلَلها ومذاهبِها ومُفكِّريها وأنظمتها أن تحُلَّ مشكلةَ الفقر، وأن تُخفِّفَ من مُعاناة الفُقراء بالترغيبِ والترهيبِ تارةً، وبالمواعظِ والوصايا تارةً، وبالتنظيرِ والمِثاليات تارةً، وأحيانًا بمبادئَ مُتطرفةٍ ذات اليمين وذات اليسار، ناهِيكُم بما أثارَه ويُثيرُه الهدَّامون من الإثارات الطبَقِية، والنَّعَرات المذهبية؛ بل إن المبادئ الهدَّامة والتوجُّهات السيئة تبني أوكارَها وتُقيمُ أفكارَها في رُبوع الفقر والحِرمان والضياع ..
الحمد لله، الحمد لله فالقِ الإصباح، وجاعلِ الليل سكَنًا، القائمِ بأرزاق خلقه، فما لأحدٍ منهم عنه غِنًى، الخلائقُ كلهم إليه فُقراء، وله سبحانه وحده الغِنَى، الدوامُ له -عزَّ شأنه-، ولهم همُ الفناءُ، أحمده سبحانه وأشكره على جزيلِ نعَمِه وآلائه سِرًّا وعلَنًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةَ من حقَّق توحيده فأتى يوم القيامة آمِنًا، وأشهد أن سيدنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسوله دعا إلى الله، وأقام المِلَّة، وجاهدَ في الله حقَّ جهاده، وما ضعُفَ وما وَنَى، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله الأطهار، وأصحابه الأخيار، سادتنا وأئمتنا، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الفَناءِ، وسلَّم تسليمًا كثيرًا ما سجَى ليلٌ وأضاءَ سَناء.
أما بعد: فأُوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله -رحمكم الله-، وإياكم والغفَلات، واحذَروا الأماني الكاذِبات؛ فريبُ المَنون كامنٌ في الحَرَكات والسَّكَنات، وما أقربَ الحياة من الممات، قصَمَت المنايا مديدَ الأعمار، وهدمَ تعاقبُ الليالي مشيدَ الديار، فأصبحَت الأحوال خبرًا، والأحاديثُ عِبَرًا: (مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى) [يوسف: 111]، فاستعِدُّوا -رحمكم الله- ليوم الحِسابِ؛ فذلكم يومٌ ما أطولَه، وحسابٌ ما أثقلَه، وحاكمٌ ما أعدلَه: (يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [الزلزلة: 6- 8].
أيها المسلمون: قضيةٌ مألوفة، وظاهرةٌ في المُجتمعات معروفة، مُشكلةٌ في جميع الأُمم والأعصار، والحضارات والأمصار، مسألةٌ لا يخلو منها مُجتمع، ولا تنفَكُّ منها دولةٌ، مهما بلغَ تقدُّمُها وثراؤها، وحُسن إدارتها وسياساتها.
مُشكلةٌ ذاتُ أبعادٍ اجتماعيةٍ، وامتداداتٍ سُلوكية، وجودها في أمةٍ أو دولةٍ ليس مثلَبَةً ولا عيبًا، ولكن نِسيانُ ذلك وإهمالُه، أو عدمُ النظر في أسبابه والسعيِ في علاجه، هو المَعيبُ وفيه المسؤولية؛ ذلكم: هو الفقرُ والفُقراء.
لقد عرفَت البشريةُ الفقرَ منذ أزمان التاريخ المُتطاوِلة، وأعصارِه المُتعاقبة، وحاولَت البشريةُ في مسيرتها الطويلة بمِلَلها ومذاهبِها ومُفكِّريها وأنظمتها أن تحُلَّ مشكلةَ الفقر، وأن تُخفِّفَ من مُعاناة الفُقراء بالترغيبِ والترهيبِ تارةً، وبالمواعظِ والوصايا تارةً، وبالتنظيرِ والمِثاليات تارةً، وأحيانًا بمبادئَ مُتطرفةٍ ذات اليمين وذات اليسار، ناهِيكُم بما أثارَه ويُثيرُه الهدَّامون من الإثارات الطبَقِية، والنَّعَرات المذهبية؛ بل إن المبادئ الهدَّامة والتوجُّهات السيئة تبني أوكارَها وتُقيمُ أفكارَها في رُبوع الفقر والحِرمان والضياع. هذا بعضُ التصوُّر والتصوير.
أما في دين الإسلام، دينِ العقيدة والشريعة، والعبادة والمُعاملة، والدين والدولة، دين تِبيان كلِّ شيءٍ، (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) [النحل: 89]، الدينُ الذي يُخرِج الناسَ من الظلمات إلى النور، ومن الظلمِ إلى العدلِ، ومن الفقرِ إلى الغِنَى، الدينُ الذي يُصلِحُ الدنيا بالدين: (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى) [طه: 123]، (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) [إبراهيم: 1].
معاشر الإخوة: من رواسِخِ ديننا وثوابتِه: أن لكل مُشكلةٍ حلاًّ، ولكل داءٍ دواءً؛ فالذي خلقَ الداءَ خلقَ الدواءَ، ومن قدَّرَ المرضَ قدَّرَ العلاجَ، فالمرضُ قدر الله، والعلاجُ والشفاءُ بقدر الله، وإذا كان الفقرُ قدرًا وبلاءً فإن مُقاومته والسعيَ في الخلاص منه قدرٌ وعلاجٌ كذلك.
الإسلامُ أقرَّ حقوقَ الفقراءِ وضمِنَها وحفِظَها وحماها، ووجَّه بالدفاع عنها منذ أكثر من أربعة عشر قرنًا؛ صيانةً للمُجتمع، وحِفظًا للأُسَر، وإشاعةً لروح الإخاء، وسلامةً للدين، واستقامةً للخُلُق.
أيها المسلمون: الفقرُ في نظر الإسلام بلاءٌ ومُصيبةٌ، تعوَّذَ منها، ووجَّهَ بالسعي للتخلُّص منها، ليس في مدحِ الفقراء آيةٌ في كتاب الله، ولا حديثٌ صحيحٌ في سنة رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-؛ بل لقد استعاذَ النبيُّ -صلى الله عليه وآله وسلم- من الفقر، وجعله قرينًا للكُفر: "اللهم إني أعوذُ بك من الكُفر والفقر". رواه أبو داود وغيره.
وفي الحديثِ الآخر: "اللهم إني أعوذ بك من الفقر والقِلَّة والذِّلَّة، وأعوذ بك أن أظلِمَ أو أُظلَم". رواه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه، والحاكمُ من حديثِ أبي هريرة -رضي الله عنه-، ورمَزَ له صاحبُ الجامع الصغير بالحسن.
وعمر -رضي الله عنه- يقول: "لو كان الفقرُ رجلاً لقتلتُه".
ونبَّه القرآنُ الكريمُ إلى أن الجوعَ عذابٌ ساقَه الله إلى بعض الأُمم الكافرةِ بنِعَمه: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) [النحل: 112]، وفي المُقابِل؛ فقد امتنَّ الله على قُريشٍ بأن أطعمَهم من جُوعٍ، وآمنَهم من خوفٍ.
وفي الحديثِ: "إن الرجلَ ليُحرَمُ الرِّزقَ بالذنبِ يُصيبُه". وفي المُقابِلِ كذلك -عباد الله- فإن الغِنَى نعمةٌ، يمُنُّ الله بها على من يشاء من عباده؛ بل لقد امتنَّ الله بذلك على حبيبه وخليله محمدٍ -صلى الله عليه وآله وسلم-، فقال -عزَّ شأنه-: (وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى) [الضحى: 8]، ومحمدٌ -عليه الصلاة والسلام- لما سألَ ربَّه الهُدى والتُّقَى سألَ معه الغِنَى، فقال: "اللهم إني أسألُك الهُدى، والتُّقَى، والعفافَ، والغِنَى". رواه مسلم.
ودعا لعبد الرحمن بن عوفٍ في صحابةٍ آخرين -رضي الله عنهم-، دعا لهم بالبركةِ في تجارتهم، ودعا لخادمه أنسٍ -رضي الله عنه- فقال: "اللهم كثِّر مالَه". وقال -عليه الصلاة والسلام-: "ما نفعَني مالٌ كمالِ أبي بكرٍ". أخرجه أحمد، وابن ماجه من حديثِ أبي هريرة -رضي الله عنه-.
وعند البخاري: "اللهم إني أسألُك علمًا نافعًا، ورِزقًا طيِّبًا، وعملاً صالحًا مُتقبَّلاً". وحسبُكم قولُه -عزَّ شأنه-: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا) [نوح: 10- 12].
معاشر الأحِبَّة: إذا كان الأمرُ كذلك؛ فإن الفقرَ -نعوذُ بالله منه-: حالٌ يكون معها المرءُ عاجِزًا عن تلبيةِ حاجاته؛ من الغذاءِ، والكِساءِ، والدواءِ، والسكنِ، والتعليمِ، وفُرصِ العمل. الفقرُ: عدمُ الدَّخْل أو نقصٌ فيه، يعجَزُ معه الفقيرُ عن تحقيق مُتطلَّباته من العيش اللائقِ بكرامةٍ وحُسن رعايةٍ.
في حالة الفقرِ لا يستطيعُ الفقيرُ القيامَ بمناشِطِ الحياة وحيويتها، ومن ثمَّ تبرُزُ صُورٌ من انتشار الأمراض، وسوء التغذية، والوفيات، ونقصِ التعليم وقلَّة فُرصه، واستخدام الأطفالِ.
نعم -معاشر الإخوة-؛ من حقِّ الفقيرِ أن يتهيَّأ له مُستوًى من المعيشةِ مُلائِمٌ لحاله يُعينُه على أداء فرائضِ الله، ومطلوباتِ الشرع، وأعباءِ الحياة، ويَقيهِ من الفَاقَةِ والحِرمان.
أيها المسلمون: وأولُ ما يتوجَّهُ إليه النظرُ في حلِّ هذه المُشكلة وعلاجِها وتقليل آثارها مما تُؤكِّدُه توجيهاتُ ديننا هو: مُطالبةُ كلِّ مسلمٍ قادرٍ، مُطالبَتُه بالعملِ، كما لا بُدَّ من إيجاد فُرص العمل؛ فالعملُ هو الوسيلةُ الأولى والسلاحُ المَضَّاءُ -بإذن الله وعونه- للقضاء على هذه المُشكلة. العملُ -بتوفيق الله- هو جالبُ المال، وعامِرُ الأرض. العملُ أساسُ الاقتصاد والإنتاج، والغِنَى، والعَفاف، والكفاف، والثَّراء. العملُ مجهودٌ شرعيٌّ كريمٌ يقومُ به العبدُ من عباد الله ليعمُرَ أرضَ الله الذي استُخِلِفَ في عِمارتها بنفسه ومع غيره.
إن ديننا يُقرِّرُ ويُؤكِّد أن الله خلقَ الأرضَ، وبارَكَ فيها، وقدَّرَ فيها أقواتَها، وأودعَ في ظهرها وبطنها من البركات المذخُورة، والخيرات المنشورة، ما يكفي جميعَ عباد الله عيشًا هنيئًا مريئًا: (وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ) [الأعراف: 10]، (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا) [الإسراء: 70].
وفي توجيهات الإسلام: أن هذه الخيرات والبركات والأرزاق المبثوثة لا تُنالُ إلا بجهدٍ يُبذَل، وعملٍ يُؤدَّى، وسعيٍ دَؤُوبٍ: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) [الملك: 15]، (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ) [الجمعة: 10]، (وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ) [المزمل: 20].
فمن سعَى وانتشرَ في الأرض، وضربَ في أرجائها مُبتغيًا فضلَ الله ورِزقه؛ فإنه أهلٌ لنوالِهِ، ومن قعدَ وتكاسَلَ وتمنَّى الأماني؛ كان جديرًا بأن يُحرَم: "لو أنَّكم توكَّلون على الله حقَّ توكُّله لرزَقَكم كما يرزقُ الطيرَ تغدُو خِماصًا، وترُوحُ بِطانًا".
معاشر الإخوة: العملُ في الإسلام عبادةٌ، وما تعدَّى نفعُه وامتدَّ أثرُه فهو أفضلُ عند الله وأزكَى مما كان قاصِرًا نفعُه على صاحبِه، وأبوابُ العملِ مفتوحةٌ في الإسلام على كل مصاريعها، يختارُ منها الراغبُ ما يُلائمُ قُدرتَه وكفاءَته وخبرتَه وموهبتَه: "فالتاجرُ الصدوقُ الأمينُ مع النبيين والصدِّيقين والشُّهداء". رواه الترمذي، والحاكم بإسنادٍ حسنٍ. "وما أكلَ أحدٌ طعامًا خيرًا من أن يأكل من عملِ يده". رواه البخاري. "وما من مُسلمٍ يغرِسُ غرسًا، أو يزرعُ زرعًا، فيأكلُ منه طيرٌ أو إنسانٌ إلا كان له به صدقة". رواه البخاري.
وكان أصحابُ رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- يتَّجِرون في البرِّ والبحر، ويعملون في نخيلهم، والقدوةُ بهم. وسُئِلَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أيُّ الكسبِ أفضلُ؟! قال: "عملُ الرجلِ بيده، وكلُّ بيعٍ مبرورٍ". رواه أحمد.
عباد الله: وثمَّة نظراتٌ حول العمل عند بعض الناس لا بُدَّ من الوقوف عندها ذاتُ مِساسٍ كبيرٍ في المُعالَجة:
النظرةُ الأولى: موقفٌ قاصِرٌ ضارِبٌ جُذورَه منذ أيام الجاهليَّة الأولى إلى عصرِنا هذا -مع الأسفِ-، ذلك هو: الاستهانةُ بالعمل، أو ببعض أنواع العمل، ولا سيَّما عند العرب الذين يحتقِرون الأعمال اليدوية، وبعضَ الحِرَف والمِهَن، وهذا -وربِّكم- ليس من الدين، ولا من الأصالة، ولا العقل الراجِح.
فدينُكم رفعَ قيمةَ العمل أيًّا كان نوعُه من وجوه الكسبِ الحلال، ونهَى وحذَّرَ وشنَّع على البِطالة والعجزِ والاتِّكال على الآخرين؛ فكلُّ كسبٍ حلالٍ فهو عملٌ شريفٌ عظيمٌ مأجورٌ صاحِبُه، وفي الحديثِ الصحيحِ: "لئن يأخُذ أحدُكم حبلَه، فيأتي بحزمةِ الحَطَبِ على ظهره، فيبيعُها، فيكُفُّ بها وجهَه خيرٌ من أن يسألَ الناسَ أعطَوه أو منَعُوه".
نعم، هذه هي مهنةُ الاحتِطابِ؛ فهل تُرى أحدًا يزدَريها بعد هذا التوجيهِ النبويِّ الكريمِ؟!
وأنبياءُ الله أفضلُ خلق الله ومُصطَفوه كلُّهم قد رعَوا الغنَمَ، وفيهم: صانِعُ الحديد، والنجَّار، والخيَّاط، والبَزَّاز، والحرَّاث، وموسى -عليه السلام- رعَى الغنَمَ، وآجَر نفسَه عشر سنين عند الرجل الصالح، ونبيُّنا محمدٌ -صلى الله عليه وسلم- رعَى الغنمَ لقُريش، وسافَرَ بالتجارةِ.
وأئمةُ الإسلام وعلماؤه كان فيهم البزَّارُ، والقفَّالُ، والحَذَّاء، والزَّجَّاج، والخرَّاز، والحطَّاب، والجَصَّاص، والخيَّاط، والخوَّاص، والقطَّان، والموَّاز، وغيرُهم مما لا يكادُ يُستثنَى من مهنٍ مُباحةٍ. فكفى بذلك شرفًا، وكفى بهم قُدوةً وأُسوةً.
النظرةُ الثانية: من الناسِ من يدَعُ العملَ لأنه لم يتيسَّر له في بلده وعند أهله. سبحان الله -عباد الله-، يُؤثِرُ البَطالَةَ والحاجةَ والحِرمان على السعيِ والسَّعَة والعفافِ والغِنى؟! وما علِموا أن أرض الله واسِعةٌ، ورِزقَ الله في المشيِ في مناكبِها والضربِ في أرجائها، رِزقُ الله غيرُ محدودٍ بمكانٍ، ولا محصورٍ بجهةٍ.
ونحن في هذه البلاد الطيبةِ المُبارَكةِ يفِدُ إلينا إخوانٌ لنا من بلادٍ شقيقةٍ وصديقةٍ، وفَدوا إلينا من أصقاع الدنيا يُسهِمون معنا في بناء بلدنا، وإعمارها، ويسعَون في تحصيل أرزاقهم، ويكِدُّون من أجل أهلِيهم وأطفالِهم. فعلى الرَّحبِ والسَّعَة.
ويعلمُ الله كم نسعَدُ حين نرى أبناءَنا يُشارِكونهم ويُنافِسُونهم التنافُسَ الشريفَ، (وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً) [النساء: 100]، (وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ) [المزمل: 20].
وسُئِلَت أمُّ مسلمة عن تفرُّق أولادها، فقالت بلغة الأم المُربِّية العاقلة الحكيمة: باعَدَت بينهم هِمَمُهم.
النظرةُ الثالثة: فئاتٌ من الناس يزهَدون في العمل مُعتمِدين على الصدقات والزَّكَوات والتبرُّعات والأُعطِيات، وقد يتزَلَّفُ مُتزلِّفٌ لدى الأغنياء والوُجَهَاء والكُبَراء أشبَه بالمُتسوِّل والشَّحَّاذ لتكون يدُهُ هي السُّفْلَى، يستجْدِي المِنَحَ والعطايا، قويًّا قادرًا لا تحلُّ له الصدقاتُ ولا الزَّكَوات.
وبعدُ:
عباد الله: فإن الإسلام لم يجعل لمُتبطِّلٍ كسولٍ حقًّا في صدقات المُسلمين وإحسانهم، وما ذلك إلا ليدفعَ القادرين للعمل والكسبِ الحلال، وما فتحَ عبدٌ على نفسهِ بابَ مسألةٍ إلا فتحَ الله عليه بابَ فقرٍ.
اللهم إنا نعوذُ بك من العجزِ والكسلِ، والجُبن والبُخل، والمأثَمِ والمغرَم، وغلبَةِ الدَّيْن وقهرِ الرجال، ونعوذُ بك من الفقر إلا إليك، اللهم أغنِنا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سِواك، وأغنِنا بفضلِك عمَّن أغنيتَه عنَّا.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ) [يوسف: 65].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهديِ محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله، الحمد لله هادي من استَهداه، ومُعطِي عبدَه فوقَ ما يتمنَّاه، أحمده سبحانه وأشكرُه على جزيلِ ما أولاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا معبود بحقٍّ سِواه، وأشهد أن سيدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه قرَّبَه وأدناه، وأره من عظيمِ ملكُوته ما أراه، صلّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله الطيبين السادة، وأصحابه المُكرَّمين السَّرَاة، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ وسلَّم تسليمًا كثيرًا لا حدَّ لمُنتهاه.
أيها المسلمون: وعلى الدولة في الإسلام مسؤوليتها في تهيئةِ فُرص العمل وطرق المعاشِ، وإيجاد الوسائل والتجهيزات والإعدادات، إن وظيفةَ الدولة في دين الإسلام وظيفةٌ إيجابيةٌ واسِعةٌ شاملةٌ، وظيفتُها: حمايةُ الذين يملِكون والذين لا يملِكون.
والمُجتمعُ في نظرِ الإسلام مُترابِطٌ مُتماسِكٌ، جسدٌ واحدٌ إذا اشتكَى منه عضوٌ تداعَى له سائرُ الجسَدِ بالسَّهَر والحُمَّى. العلاقةُ بين أفراده ومُؤسَّساته ليست علاقة إنتاج، أو علاقة عرضٍ وطلبٍ، إنها أعمقُ من ذلك وأقوى، إنها علاقةُ عقيدةٍ وفكرٍ وعاطفةٍ، ووحدة نظامٍ وشريعةٍ، جسدٌ واحدٌ يُمِدُّ ويستمِدُّ، وينفعُ وينتفِعُ.
والدولةُ هي رأسُ المُجتمع، وهي جهازُه الذي يرعَى هذا الترابُط ويُحافِظُ عليه ويصُونُه، ويُؤكِّدُ لُحمتَه، ويرعَى ثمرَتَه: "كلُّكم راعٍ وكلُّكُم مسؤولٌ عن رعيته، فالإمامُ راعٍ وهو مسؤولٌ عن رعيَّته، والرجلُ راعٍ في أهلِهِ وهو مسؤولٌ عن رعيَّته...". الحديث.
الدولةُ تُحقِّقُ العدلَ، وتدعُو إلى الخيرِ، وتتَّخِذُ من الأساليب والوسائل والإجراءات ما يُعالِجُ الفقرَ، ويُخفِّفُ آثارَه، ويضمنُ العيشَ الكريمَ لكلِّ مُحتاجٍ، ويُحقِّقُ التكافُل بين المُجتمع، وهي: وسائل وأساليب وإجراءاتٌ تختلفُ باختلاف الأزمِنةِ والبيئاتِ والأحوال والنوازِل والمُستجَدَّاتِ والموارِد.
وللاجتهاد وحُسن السياساتِ والإدارات في هذا مدخلٌ واسعٌ من الإعداد والتدريب، وتوجيه كل أحدٍ إلى ما يُحسِنُه، مع الأجرِ العادلِ وتشجيعِ المُحسِنِ ومُكافأته، ومُجازاة المُسيءِ ومُعاقبتِه، في سياساتٍ تصُونُ ثروات الأمة، وتزيدُ في إنتاجِها، وتُحسِّنُ مُستوى خدماتها، وتحفَظُ طاقاتها، وتُقدِّرُ جهودَ أبنائِها في مواهبهم، وقُدراتهم، وكفاءاتهم، ومُؤهِّلاتهم، في بناءٍ حضاريٍّ، وإدارةٍ مُنظَّمة، وسياساتٍ مُحكَمة؛ عِمارةً للأرض، وتطبيقًا للشرع، وتوظيفًا للطاقات في توازنٍ بين حقوق الإنسان وواجباته.
وهذا وليُّ أمرنا خادمُ الحرمين الشريفين -حفظه الله وأعزَّه، وأمدَّ في عُمره على طاعته-، وقد جعل الإصلاحَ شَعارَ حُكمه، كان من أحد معالمِ مسيرته الإصلاحية المُظفَّرة: تفقُّدُه لبعض أحياء الفُقراء ومساكنهم؛ ليقِفَ على صُور المُعاناة.
ثم أتبَعَ ذلك بقراراتٍ وسياساتٍ وإنشاء مُؤسَّساتٍ تتولَّى مُعالجةَ ذلك، وأصدرَ توجيهاته لرجال الدولة لتنفيذِ ذلك ومُتابعتِه.
وبعدُ:
عباد الله: فإن كان من تنبيهٍ فهو: أن الحياةَ الإسلامية بمناشِطِها وأعمالها ووظائفها هي حياةٌ نظيفةٌ نزيهةٌ، لا تُقِرُّ العبَثَ، ولا تسمحُ بالفساد والتحلُّل، وصرفِ المالِ والطاقات فيما لا يحِلُّ، لا ليلاً ولا نهارًا، لا في لهوٍ ولا مُجونٍ ولا سُوء استغلالٍ.
ألا فاتقوا الله -رحمكم الله-؛ فدينُكم يُطارِدُ الفقرَ بأحكامِه وتشريعاته وتوجيهاته، والمُسلمُ يستقبِلُ صباحَه باكِرًا مُتوضِّئًا مُتطهِّرًا مُصلِّيًا طيبَ النفسِ، مُستقيمَ الخُلُق، حافظًا لنفسه وماله وأهله ووقته.
هذا، وصلُّوا وسلِّموا على الرحمة المُهداة، والنعمة المُسداة: نبيِّكم محمدٍ رسول الله؛ فقد أمركم بذلك ربُّكم، فقال في محكم تنزيله، وهو الصادقُ في قِيلِه: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك نبيِّنا محمدٍ الحبيب المُصطفى، والنبي المُجتبى، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارضَ اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجُودك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، واحمِ حوزةَ الدين، واخذُل الطغاة والملاحِدة وسائر أعداء الملَّة والدين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمَّتنا وولاة أمورنا، واجعل اللهم ولايتَنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي