أكثر الناس يظنون بالله غير الحق، ظن السوء فيما يختص بهم وفيما يفعله بغيرهم، ولا يسلم من ذلك إلا من عرف الله وعرف أسماءه وصفاته، وعرف موجب حمده وحكمته، فمن قنط من رحمته وأيس من روحه فقد ظن به ظن السوء، ومن جوّز عليه أن يعذّب أولياءه مع إحسانهم وإخلاصهم ويسوّي بينهم وبين أعدائه، فقد ظن به ظن السوء.. ومن ظن به أن يكون في ملكه ما لا يشاء ولا يقدر على إيجاده وتكوينه فقد ظن به ظن السوء ..
أما بعد:
عباد الله: اتقوا الله وكونوا مع الصادقين، فاصدقوا الله في نياتكم واصدقوا الله في أقوالكم، واصدقوا الله في أعمالكم، عاملوا الله بصدق وعزيمة، اعبدوا الله حق عبادته، قوموا بأمره ما استطعتم، وانصروا الله ينصركم، ولا تتخلوا عن طاعته فيتخلى عنكم، فمن اهتدى فلنفسه، ومن ضل فإنما يضل عليها وما ربك بظلام للعبيد.
معاشر المسلمين: إن أعداء الإسلام لا يفتئون ولا يملون في كيدهم للإسلام وأهله، فهم يغزونهم من كل ناحية، فقد غزوه من ناحية الفكر والعقيدة، فصرفوا الأفكار عن اعتدالها، وغيّروا العقيدة عن وجهها، وأدخلوا على الدين القوانين الوضعية والأحكام التـي تناقض أحكام الإسلام، وغزوا الإسلام من ناحية الأخلاق، والمثُل العليا، فأفسدوا الأخلاق وهدموا المثل.
وغزوا الإسلام من الناحية العسكرية، فقاتلوا المسلمين وحاربوهم، فلم يزالوا كذلك كلما حانت الفرصة، ووجدوا الغفلة من المسلمين، وإن هذه هي سنة الله في خلقه، صراع بين الحق والباطل، فمرة يطغى الباطل على الحق، ومرة يحصل عكس ذلك.
غير أنه يدبّ في قلوب بعض المسلمين في حالة غلبة عدوهم عليهم وضعفهم، يدب في قلوبهم الوهن وسوء الظن بالله تعالى، وهو ظن الجاهلية الذي ظنّه المنافقون والكفار، في الدولة الإسلامية، وفي جيش محمد –صلى الله عليه وسلم– حين بيّن سبحانه وتعالى اعتقادهم في ذلك فقال: (بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا) [الفتح: 12].
وإن سوء الظن بالله تعالى يُعد كفرًا به، فليحذر العبد من وساوس الشيطان؛ فإنها تؤدي إلى ذلك.
أيها المؤمنون: إن سوء الظن بالله تعالى على أنواع كثيرة، قال ابن القيم – رحمه الله -: وأكثر الناس يظنون بالله غير الحق، ظن السوء فيما يختص بهم وفيما يفعله بغيرهم، ولا يسلم من ذلك إلا من عرف الله وعرف أسماءه وصفاته، وعرف موجب حمده وحكمته، فمن قنط من رحمته وأيس من روحه فقد ظن به ظن السوء، ومن جوّز عليه أن يعذّب أولياءه مع إحسانهم وإخلاصهم ويسوّي بينهم وبين أعدائه، فقد ظن به ظن السوء، ومن ظن به أنه يجوز عليه أن يؤيد أعداءه الكاذبين عليه بالمعجزات التـي يؤيد بها أنبياءه ورسله، ويجريها على أيديهم يضلون بها عباده، فقد ظن به ظن السوء، من ظن به أن يكون في ملكه ما لا يشاء ولا يقدر على إيجاده وتكوينه فقد ظن به ظن السوء، ومن ظن به أنه ينال ما عنده بمعصيته ومخالفته كما ينال بطاعته والتقرب إليه، فقد ظن به خلاف حكمته وخلاف موجب أسمائه وصفاته، وهو من ظن السوء، ومن ظن أن الله يجعل العزة والغلبة والقهر لأعدائه وأعداء المسلمين دائمًا من غير جرم ولا ذنب لأوليائه، وأهل الحق وهو يرى قهرهم لهم، وغصبهم إياهم حقهم وتبديلهم للدين الحق، وهو يقدر على نصرة أوليائه وحزبه وجنده، ولا ينصرهم ولا يديلهم، بل يديل أعداءهم عليهم أبدًا، أو أنه لا يقدر على ذلك، بل حصل ذلك بغير قدرته ولا مشيئته، فقد ظن بربه ظن السوء. ا.هـ بتصرف واختصار.
عباد الله: إننا نرى سوء ظن بعض الخلق، فيما يحصل في العراق وفلسطين وسوريا وغيرها من بقاع الأرض، وأن المسلمين لن تقوم لهم قائمة، وأن الكفار لا يُغلَبون، ولا يد لأحد في هزيمتهم.
قال ابن القيم – رحمه الله –: فأكثر الخلق بل كلهم إلا من شاء الله يظنون بالله غير الحق، ظن السوء، فإن غالب بني آدم يظنون أنه مبخوس الحق، ناقص الحظ وأنه يستحق فوق ما أعطاه الله، ولسان حاله يقول: ظلمني ربي ومنعني ما أستحقه، ونفسه تشهد عليه بذلك، وهو بلسانه ينكره ولا يتجاسر على التصريح به، ومن فتّش نفسه وتغلغل في معرفة دفائنها وطواياها، رأى ذلك فيها كامنًا كمون النار في الزناد، فاقدح زناد من شئت ينبئك شراره عما في زناده، ولو فتشت من فتشته لرأيت عنده تعتبًا على القدر وملامة له، واقتراحًا عليه خلاف ما جرى، وأنه كان ينبغي أن يكون كذا وكذا، فمستقل ومستكثر، وفتش نفسك هل أنت سالم من ذلك..
فإن تنج منها تنج من ذي عظيمة
وإلا فإني لا إخالك ناجيًا
فليعتن اللبيب الفالح لنفسه بهذا الموضع، وليتب إلى الله تعالى وليستغفره كل وقت من ظنه بربه ظن السوء، وليظن السوء بنفسه التي هي مأوى كل سوء، ومنبع كل شر، المركبة على الجهل والظلم، فهي أولى بظن السوء من أحكم الحاكمين، وأعدل العادلين، وأرحم الراحمين، الغني الحميد الذي له الغنى التام، والحمد التام، والحكمة التامة، المنزه عن كل سوء في ذاته وصفاته، وأفعاله وأسمائه، فذاته لها الكمال المطلق من كل وجه، وصفاته كذلك وأفعاله كذلك، كلها حكيمة ومصلحة، ورحمة وعدل، وأسماؤه كلها حسنى. ا.هـ
اللهم اغفر لنا زللنا وخطأنا، وجدنا وهزلنا، وكل ذلك عندك.
عباد الله: إن أفعال الله تعالى لا تنفك من حكمة، علمها من علمها، وجهِلها من جهلها، قال جل وعلا: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ) [ص: 27]، وقال جل وعلا: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ) [المؤمنون: 115]، وقال سبحانه: (أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى) [القيامة: 36]، وقال سبحانه: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ) [الأنبياء: 16].
فكل قضاء يُقدره الله فهو لحكمةٍ عظيمة وغاية جليلة، ولعل سائلاً يسأل نفسه، ما بال المسلمين يقتلون في كل صقع من الأرض، ويهانون ويذلون؟ ولمَ النصر والتمكين لأعداء الدين؟ فنقول إن ذلك لعدة أمور، أو لإحداها وذلك أنه ربما يكون ابتلاء من الله تعالى لأسباب يعلمها المسلمون، فيقع بهم ذلك ليغيروا ما وقعوا فيه، كما قال جل وعلا: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) [الرعد: 11].
فيكون ذلك تنبيهًا لهم من الغفلة والإعراض، أو يكون امتحانًا لهم وابتلاءً لما في صدورهم، وبيان ما فيها من الإيمان والنفاق، فالمؤمن لا يزداد بذلك إلا إيمانًا وتسليمًا، والمنافق ومن في قلبه مرض، لا بد أن يظهر ما في قلبه على جوارحه ولسانه.
وقد يكون ذلك: تمحيصًا لما في قلوب المؤمنين، وهو تخليصه وتنقيته، وتهذيبه، فإن القلوب يخالطها أخلاط رديئة لغلبة الطباع، وميل النفوس، وتزيين الشيطان، واستيلاء الغفلة، فيرد عليها ما يضاد ما أودع فيها من الإيمان والإسلام والبر والتقوى، فلو تركت في عافية دائمة مستمرة لم تتخلص من هذه الأخلاط ولم تتمحص، فقد رضي الله سبحانه وهو العزيز الحكيم لها من المحن والبلايا ما يكون كالدواء الكريه، لمن كان به مرض عضال، أو غير ذلك من الأمور.
وإن كان الغالب هو الأول، فإن المسلمين في هذا الزمن قد ابتعدوا عن دينهم، وغلب عليهم الوهن، ومتى ما رجع المسلمون لدينهم، وطبقوا الشريعة في ضوء الكتاب والسنة، عادت لهم عزتهم وتمكينهم، ومن تأمل حال الصحابة الكرام يوم غزوة أحد وما حصل لهم من الهزيمة، قال سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا) [آل عمران: 155]، يقول سبحانه أنه سبب تولي من تولى هو ذنوبهم السالفة، وهم أكرم الخلق على الله بعد الأنبياء والرسل، فما حالنا نحن الضعفاء المقصرون؟
فعلى المسلم العاقل أن يعتبر بحال المسلمين وواقعهم، وليكن ذلك دافعًا له على تغيير واقعه الذي هو فيه.
اللهم وفقنا لهداك...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي