ما من مسلم إلا ويزعم معرفة الله، وهي في الحقيقة لا توجد عند كثير من الخلق؛ لأن أفعالهم لا تصدق أقوالهم، ولو عرفوا الله لأطاعوه. إنه لا وصول إلى سعادة لقاء الله في الآخرة إلا بتحصيل محبته والأنس به في الدنيا، ولا تحصل المحبة إلا بالمعرفة، ولا تحصل المعرفة إلا بدوام الفكر، ومن عرف الله تعالى عرف أنه يفعل ما يشاء ولا يبالي، ويقضي ما يريد ولا يخاف..
أما بعد:
فيا أيها الناس: اتقوا الله فإن قدر الله عظيم، فها هي مخلوقاته وآياته تدل على عظمته وكبريائه جل في علاه.
عباد الله: قال السلف في قوله تعالى: (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) [النساء: 17] كل من عصى الله فهو جاهل، وذلك أنه لم يعرف الله حق معرفته، ولو عرفه لما عصاه.
معاشر المؤمنين: احتجب الله جل جلاله عن الأبصار، وفطر الناس على معرفته، ووضع لهم آيات ودلالات على عظمته، فبها تزداد فِطَرهم معرفة له، ولهذا كان أعلم الناس بالله الأنبياء والمرسلين ومن بعدهم ورثتهم في العلم، كما قال جل وعلا: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) [فاطر: 28].
أخرج البخاري في صحيحه من حديث عائشة رضي الله عنها مرفوعًا: «إن أتقاكم وأعلمكم بالله أنا»، ولما سأل الإمامَ أحمد ابنه عبد الله عن حال معروف الكوفي، وكأنه تقالّ علمه!! قال أحمد: وهل يُراد من العلم إلا ما بلغه معروف؟! يعني من الخشية والعبادة.
أيها المؤمنون: أخرج البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة مرفوعًا: «ما من مولود إلا ويولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو يمجسانه»، فهذه الفطرة وهي معرفة الله والدين الحق تنمو مع المولود، وتزداد وتتأثر بالمؤثرات الخارجية، فمن نماها على الخير، وعلى سبيل الشريعة أنار الله قلبه، ورزقه خشيته، وفتح عليه من فتوحاته ما لا يحصيه إلا هو جل وعلا، وكلما قلت عنايته بفطرته كلما نقص نصيبه من ذلك.
عباد الله: حديثنا هذه الخطبة بمشيئة الله عن معرفة الله، التي ما من مسلم إلا ويزعمها، وهي في الحقيقة لا توجد عند كثير من الخلق؛ لأن أفعالهم لا تصدق أقوالهم، ولو عرفوا الله لأطاعوه.
إن معرفة الله لدى الكثير مزاعم وادعاءات، فما هي معرفة الله؟
معاشر المسلمين: إن معرفة الله هي ثمرة التوحيد، ويُرَاد بها معرفته عز وجل بأسمائه وصفاته الواردة معرفة صحيحة ناشئة عن الأدلة التعينية، فإن معرفة الله جل وعلا بالدليل على الإجمال فرض عين لا مخرج عنه لأحد من المكلفين، وعلى سبيل التفصيل فرض كفاية لا بد أن يؤمن بها البعض.
معاشر المسلمين: إنما كان الناس مراتب في التقوى والعبادة، ذلك لتفاوتهم في معرفة الله جل وعلا.
قال ابن تيمية –رحمه الله-: أصل التفاضل بين الناس إنما هو بمعرفة الله ومحبته، وكما يتفاضلون فيما يعرفونه من المعروفات، وإذا كانوا يتفاضلون في معرفة الملائكة وصفاتهم والتصديق بهم فتفاضلهم في معرفة الله وصفاته والتصديق به أعظم، إن كل ما يُعلم ويقال يدخل في معرفة الله؛ إذ لا موجود إلا وهو خلقه، وكل ما في المخلوقات من الصفات والأسماء والأقدار والأفعال شواهد ودلائل على ما لله سبحانه من الأسماء الحسنى والصفات العلى، وكل كمال في المخلوقات من أثر كماله، وكل كمال ثبت للمخلوق فالخالق أولى به وأحق، وكل نقص تنزه عنه مخلوق فالخالق أحق بتنزيهه عنه.
أيها الناس: إذا علم أن على العبد أن يسعى جاهدًا في المعرفة الحقة لربه جل وعلا، وجب عليه أن يعرف الطرق التي من خلالها يتوصل لتلك المعرفة، والمعرفة الموجودة في قلب كل مخلوق، إلا أنها تحتاج إلى صقل وتنمية حتى يصل بها إلى أعلا المراتب.
ومن الطرق التي تدعو إلى معرفة الله ما ذكره ابن القيم –رحمه الله- في كتاب الفوائد قال: "الرب تعالى يدعو عباده في كتابه الكريم إلى معرفته من طريقين: أحدهما: النظر في مفعولاته، والثاني: التفكر في آياته وتدبرها".
فالنوع الأول كقوله سبحانه: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) [البقرة: 164]، ومثل هذا في القرآن كثير.
والنوع الثاني كقوله تعالى: (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ) [المؤمنون: 68]، وقوله: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) [ص: 29]، فالمفعولات تدل على الأفعال، والأفعال تدل على الصفات، ومن تدبرها خرج منها بمصالح وحكم وغايات محمودة، فأفعاله جل وعلا الدالة على النفع تدل على حكمته، وأفعاله التي فيها الإحسان للخلق تدل على رحمته، وأفعاله التي فيها البطش والانتقام تدل على غضبه وسطوته، وأفعاله الدالة على التقريب والإكرام تدل على محبته، وما فيها من الإهانة والإبعاد والخذلان تدل على بغضه ومقته، ونحو ذلك من الدلالات التي تعرّف العبد بصفات ربه ومدلولاتها وأسمائه وما تضمنته من صفات عظيمة.
عباد الله: من لم يعرف المعاني التي تدل عليها صفات الله وأسماؤه، كيف يعرف الله جل وعلا، قال أبو حامد –رحمه الله-: أخوف الناس لربهم أعرفهم ينفسه وبربه، ولذا قال صلى الله عليه وسلم: «أنا أخوفكم لله»، وكذلك قال تعالى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) [فاطر: 28]، ثم إذا كلف المعرفة أورثت جلال الخوف واحتراق القلب.
وقال: لا وصول إلى سعادة لقاء الله في الآخرة إلا بتحصيل محبته والأنس به في الدنيا، ولا تحصل المحبة إلا بالمعرفة ولا تحصل المعرفة إلا بدوام الفكر، وقال: من عرف الله تعالى عرف أنه يفعل ما يشاء ولا يبالي، ويقضي ما يريد ولا يخاف.
عباد الله: من كان لا يتردد في فعل المعصية ويجد نفسه كسولاً في فعل الخير فليقو معرفته بالله تعالى.
عباد الله: كلما عظم التوحيد في قلب العبد كلما عظمت معرفة الله في قلبه، والمعرفة الحقة تقطع العلائق كلها، وتعلّق صاحبها بمعروفه، فلا يبقى فيه علاقة لغيره، ولا تمر به العلائق إلا وهي مجتازة.
قال أحمد بن عاصم: من كان بالله أعرف كان من الله أخوف.
وقال هرم بن حيان: المؤمن إذا عرف ربه عز وجل أحبه، وإذا أحبه أقبل إليه.
وقال الحسن البصري: من عرف ربه أحبه، ومن عرف الدنيا زهد فيها، ومن خلا عن الحب هذا فلأنه اشتغل بنفسه وشهواته وذهل عن ربه وخالقه فلم يعرفه حق المعرفة، وقصر نظره على شهواته ومحسوساته.
وقال يحيى بن معاذ: يخرج العارف من الدنيا ولم يقض وطره من شيئين: بكاؤه على نفسه وثناؤه على ربه.
وهذا يدل على معرفته لنفسه ومعرفته لربه وجماله وجلاله، فهو شديد الإزراء على نفسه لَهِج الثناء على ربه، وقال الفيروزآبادي: من عرف الله تعالى صفا له العيش وطابت له الحياة، وهابه كل شيء وذهب عنه خوف المخلوقين، وأنس بالله.
وقال ابن الجوزي: ليس في الدنيا ولا في الآخرة أطيب عيشًا من العارفين بالله تعالى، فإن العارف به يستأنس به في خلقه، فإن عمت نعمة على من أهداها، وإن مرًّا حلا مذاقه في فيه؛ لمعرفته بالمبتلي، وإن سأل فتعوق مقصوده، صار مراده ما جرى به القدر؛ علمًا فيه بالمصلحة بعد يقينه بالحكمة وثقته بحسن التدبير.
معاشر المسلمين: إن من أعرف الخلق بالله ملائكته، ولهذا وصفهم الله بقوله: (لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) [التحريم: 6]، وقوله: (وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ) [الأنبياء: 19- 20].
أيها المؤمنون: إن العارف بالله وأسمائه وصفاته يعيش في لذة، وأنس وفرح؛ لأنه مع الله، ومن كان الله معه فلا يخاف ولا يحزن.
إن من عرف أن الله جل وعلا لا تخفى عليه خافية، وإن الغيب عنده شهادة، وإنه جل وعلا ذو سطوة بالمجرمين، كما فعل بالقوم الكاذبين، وتأمل إغراقه لفرعون وإهلاكه لثمود وعاد، وقوم لوط وغيرهم، فإنه لا شك يبتعد عن المعاصي كلها صغيرها وكبيرها، بل وتراه يقترب إلى كل عمل صالح؛ لأنه يشاهد بقلبه ثواب الله لأوليائه، فهو يعيش في الحياة ويعلم أنه يتقلب في علم الله وتحت بصره وفي قبضته، فهو بالله ومع الله ولله، في كل تصرفاته.
أيها الناس: تأملوا في حلم الله تعالى على خلقه، وتأملوا في كرمه وسعة رزقه، وتأملوا في عظمته وكبريائه، وأن الخلق خلقه والأمر أمره، وكل الوجود من خلقه وفي ملكه، وتأملوا تدابيره في الحياة، منذ أن خلق آدم وحتى وقتنا هذا فعندئذ يدل قلبك على ربه، وتضعف شهوتك في دنياك، وتعظم رغبتك في الآخرة، وتتجلى لك أنوار المعرفة حتى يقتبس قلبك منها نورًا، يهديك إلى محاب الله ورضوانه، فتكون العبادة من ألذ شهواتك والمعصية من أبغض الأعمال لقلبك، ولا يفتر لسانك عن ذكر ربك، بل يكون هو أنيسك في الدنيا والآخرة.
الله ارزقنا معرفة بك تنير بها قلوبنا..
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي