يجب على الدولة أن تعالج الأسباب التي أوصلت البلاد إلى هذا المأزق، ومنها غياب الشريعة عن الحكم، وغلاء الأسعار غلاءً فاحشا أنهك الغني وسحق الفقير، وفرض الضرائب والجمارك، وقلة الوظائف، مع زيادة العاطلين عن العمل، وكثرة المتخرجين في سوق العمل، وضعف الخدمات الضرورية أو تقديمها للناس بمقابل، كل هذا من الظلم الواضح الذي بحَّت أصوات العلماء والناصحين والغيورين في رفضه وإنكاره والتحذير من عواقبه، ووجوب إزالة هذه الأسباب التي أوصلت البلاد إلى هذا الواقع المر، والحال الأليم ..
أخرج الإمام مسلم في صحيحه، عن زيد بن ثابت -رضي الله عنه- وأرضاه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ من الْفِتَنِ، ما ظَهَرَ منها وما بَطَنَ"، قالوا: نَعُوذُ بِاللَّهِ من الْفِتَنِ، ما ظَهَرَ منها وما بَطَنَ.
وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول في دعائه: "اللهم إني أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين؛ وأن تغفر لي، وترحمَني، وتتوب عليَّ؛ وإن أردت بعبادك فتنة فاقبضني إليك غير مفتون" رواه الترمذي وصححه الألباني.
عباد الله: إن الناظر بعين البصر والبصيرة في عالم اليوم يجد أننا نمر بفتن عظيمة تنوعت أسبابها، وتعددت أشكالها، وكثرت صورها؛ فتعاظم خطرها، وتتطاير شررها؛ فتنٌ تحسِّن القبيح، وتقبّح الحسن، وتجعل الصادق كاذبا، والكاذب صادقا، والخائن أمينا، والأمين خائنا؛ أهواءٌ تعبث، ومصالح تحكم، ودِينٌ يُقصَى، ويقين يضعُف.
وصدق النبي -صلى الله عليه وسلم- إذ يقول: "سَيَأْتِي على الناس سَنَوَاتٌ خَدَّاعَاتُ يُصَدَّقُ فيها الْكَاذِبُ، وَيُكَذَّبُ فيها الصَّادِقُ، وَيُؤْتَمَنُ فيها الْخَائِنُ، وَيُخَوَّنُ فيها الْأَمِينُ، وَيَنْطِقُ فيها الرُّوَيْبِضَةُ في أَمْرِ الْعَامَّةِ"، قِيلَ: وما الرُّوَيْبِضَةُ؟، قال: "الرَّجُلُ التَّافِهُ".
لقد أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- بما يكون في هذه الأمة مِن تَفَرُّقٍ واختلاف، ونزاع وشقاق، وفتن ومحن، تلتبس على الكبار فضلاً عن الصغار، ويحتار فيها ذوو العقول والأبصار؛ يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ستكونُ فتنةٌ صَمَّاءُ [بكماء] عمياء، مَن أشرف لها استشرفت له".
ويقول -عليه الصلاة والسلام-: "سَتَكُونُ فِتَنٌ الْقَاعِدُ فيها خَيْرٌ من الْقَائِمِ، وَالْقَائِمُ فيها خَيْرٌ من الْمَاشِي، وَالْمَاشِي فيها خَيْرٌ من السَّاعِي؛ وَمَنْ يُشْرِفْ لها تَسْتَشْرِفْهُ، وَمَنْ وَجَدَ مَلْجَأً أو مَعَاذًا فَلْيَعُذْ بِهِ".
يقول الإمام علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- وأرضاه- عن الفتن: تبدأ في مدارجَ خفيةٍ، وتؤول إلى فظاعة جلية، فتزيغ قلوب بعد استقامة، وتضلّ رجال بعد سلامة، وتختلف الأهواء عند هجومها، وتلتبس الآراء عند نجومها؛ مَن أشرف له قصَمَتْهُ، ومَن سعى فيها حطمته، تغيض فيها الحكمة، وتنطق فيها الظلمة، وتثلِم منارَ الدين، وتنقض عقد اليقين، تهرب منها الأكياس، وتدبّرها الأرجاس، مرعادٌ مبراق، كاشفة عن ساق، تقطَّع فيها الأرحام، ويفارَق عليها الإسلام. اهـ.
فيجب علينا -عباد الله- أن نجتنب الفتن، وأن نبتعد عن مواطنها، وأن نحذر من الخوض فيها؛ حتى يعصمنا الله من الخلل، ويصوننا من الأخطار والزلل.
يجب على كل فرد منا أن يُقبِل على خاصة نفسه، وأن يهتم بصلاح قلبه، وأَلَّا يُعَرِّض نفسه لفتن سوداء مظلمة التبس فيها الحق بالباطل، واختلط فيها الصحيح بالسقيم، وتمشي الأمور فيها بلا زمام ولا خطام، يقول المقداد بن الأسود -رضي الله عنه-: أيم الله، لقد سمعت سول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن السعيد لَمَنْ جُنّب الفتن، إن السعيد لمن جنِّب الفتن، إن السعيد لمن جُنّب الفتن؛ وَلَمَن ابتلي فصبر" رواه أبو داود وصححه الألباني.
ويقول -صلى الله عليه وسلم-: "إذا رأيتم الناس قد مرجت عهودهم، وخفّت أماناتهم، وكانوا هكذا" وشبّك بين أصابعه، قال: فقمت إليه، فقلت: كيف أفعل عند ذلك؟ جعلني الله فداك! قال: "الزم بيتك، واملك عليك لسانك، وخذ بما تعرف، ودع عنك ما تنكر، وعليك بأمر خاصة نفسك، ودع عنك أمر العامة".
قيل لسفيان الثوري -رحمه الله- يا أبا عبد الله! إن الناس قد أكثروا في المهدي، فما تقول فيه؟ فقال: إنْ مَرَّ على بابك فلا تكن منه في شيء حتى يجتمع الناس عليه.
وهذا عقبة بن عامر -رضي الله عنه- وأرضاه يسأل النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، ما النجاة؟ قال: "أَمْلِكْ عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك".
عباد الله: إننا في ظل هذه الظروف العصيبة التي تعصف بنا، وفي خضم الأحداث المتلاحقة والتغيرات المتسارعة التي تعيش حولنا بحاجة إلى الثبات؛ لأن الثبات يثبت الإنسان في الأزمات، (يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاء) [إبراهيم:27].
ويقول -سبحانه وتعالى- في كتابه الكريم: (وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ) [هود:12].
إذا كان هذا واجبنا نحن عامة الناس أن نجتنب الفتنة وأن تمسك عليك لسانك، وأن يسعك بيتك، وتبكي على خطيئتك؛ فإن على العلماء، وخاصة الناس وذوي التأثير في الأمة، واجب آخَر، وهو أن يسعوا جاهدين إلى تحقيق مصالح الأمة، وأن يدرءوا عنها المفاسد والضرر، وأن يبذلوا ما في وسعهم وطاقتهم لإزالة الأسباب التي تؤجج المخاطر، وتهيج التداعيات، وأن ينصحوا الجميع بما يرونه موافقاً لكتاب الله، وسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "الدِّينَ النَّصِيحَةُ"، قالوا: لِمَنْ يا رَسُولَ اللَّهِ؟ قال: "لِلَّهِ، وَلكِتَابِهِ، وَلرَسُولِهِ، وَلأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ".
إنَّ البلاد تمر بمنعطف خطير، ومزلق كبير، وإن لم يتداركها العقلاء قبل فوات الأوان فإن الصراعات ستمزقها، وتصفية الحسابات في انتظارها.
وأما واجب الدولة فإنه أعظم وأكبر، والمسؤولية على عاتقها أخطر، فيجب عليها أن تعلم أن هناك أسباباً أدت إلى تدهور الأوضاع وسوء الأحوال، ومن أعظمها نشر الذنوب والمعاصي، ومحاربة الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- جهاراً نهاراً، وذلك بتقنينهم للربا، وفشو الزنا، وانحراف الأخلاق، وانتهاك الحرمات، وتضييع الفرائض والواجبات، وتعطيل الحدود، وفساد الإعلام، واختلاط الرجال بالنساء.
ومن كان هذا حاله فكيف سيوفقه الله؟ وكيف سيؤيده الله؟ وكيف سيسدده الله؟ (وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) [الحج:40-41].
يجب على الدولة أن تعالج الأسباب التي أوصلت البلاد إلى هذا المأزق، ومنها غياب الشريعة عن الحكم، وغلاء الأسعار غلاءً فاحشا أنهك الغني وسحق الفقير، وفرض الضرائب والجمارك، وقلة الوظائف، مع زيادة العاطلين عن العمل، وكثرة المتخرجين في سوق العمل، وضعف الخدمات الضرورية أو تقديمها للناس بمقابل، كل هذا من الظلم الواضح الذي بحَّت أصوات العلماء والناصحين والغيورين في رفضه وإنكاره والتحذير من عواقبه، ووجوب إزالة هذه الأسباب التي أوصلت البلاد إلى هذا الواقع المر، والحال الأليم.
ولتعلم أنها إذا استمرت في تجاهل الأسباب وعدم تقديم العلاج لهذه الأوضاع فإنها ستعرض البلاد والعباد لصراعات لا يُدرى ما نهايتها، ومآلات لا يُعلم ما عاقبتها، يقول الله -سبحانه وتعالى- عن صالح -عليه السلام- أنه قال لقومه: (فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ) [الأعراف:79].
إن الواجب اليوم على الجميع أن يستمعوا إلى كلام العلماء الربانيين، والرجال الصادقين المخلصين، وأن يأخذوا بتوجيهاتهم، ويستمعوا إلى آرائهم، ويعملوا بما جاء في بياناتهم؛ وأن يأخذوه بعين الاعتبار، كما أمر الله بذلك فقال: (وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً) [النساء:83].
هذا هو الحل، وهذه هي النجاة، وهذا هو المخرج إن كنا نريد الحل والمخرج؛ وأما إذا ركب كل منا هواه واغتر بنفسه ورأيه، فإن العواقب ستكون أليمة، والنهاية وخيمة، وحينها سيندم الجميع في وقت لا ينفع فيه الندم.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي