إنَّ من وفائنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون لنا شأن مع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن من حق المنابر علينا أن تعلوها سيرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعد أن جفّت منابعها، وطويت صحائفها عند كثير من منابر الفكر ووسائل الإعلام، وصُمَّت آذاننا بالمقابل بسيرٍ وقصص لا تقدم ولا تؤخِّر، ولا تربّي ولا تبني!.
إنّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي، ومَن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحد لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ وأوصي نفسي وإياكم بتقوى الله.
وبعد:
أيها الإخوة: إن من وفائنا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يكون لنا شأن مع أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وإن من حق المنابر علينا أن تعلوها سيرة أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، بعد أن جفّت منابعها، وطويت صحائفها عند كثير من منابر الفكر ووسائل الإعلام، وصُمَّت آذاننا بالمقابل بسيرٍ وقصص لا تقدم ولا تؤخر، ولا تربّي ولا تبني.
(لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ) [يوسف:111]، نعم! في قصص الصحابة عبرة، وفي قصص غيرهم عبرة أيضا؛ لكن في قصصهم عبرة تَعْبُر بك إلى رضوان الله، وإلى رياض الهدى، وأما في قصص غيرهم ففيها عبرة، تَعْبر بك عن رضوان الله إلى مهاوي الردى.
(لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ)، لِمَن؟ (لأولي الألباب)! لمن؟ (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) [ق:37].
أيها المؤمنون: تُحدِّثنا كتب السيرة أن الطفيل بن عمرو الدّوسي قدم إلى مكة في بداية الدعوة النبوية، وكان الطفيل رجلا شريفا شاعرا لبيبا، فلما علمت رجال قريش بمقدَمه، سارعوا إلى لقائه على مداخل مكة، لماذا؟ ترحيباً به؟ لا! إنما خوفا مِن أن يلتقي به محمد -صلى الله عليه وسلم- ويسبقهم إليه!.
فماذا قالوا له؟ وبماذا نصحوه؟ قالوا له: يا طُفيل، إنك قدمت بلادنا, وهذا الرجل -يقصدون الرسول صلى الله عليه وسلم- وهذا الرجل الذي بين أظهرنا قد أعْضَل بنا, وقد فرق جماعتنا، وشتت أمرنا, وإنما قوله كالسحر يفرق بين الرجل وبين أبيه, وبين الرجل وبين أخيه, وبين الرجل وزوجته, وإنا نخشى عليك وعلى قومك -انظر معي إلى الكذب، ولكنهم يخشون على سيادتهم أن تنقض عراها، تماما كما كذب معلمهم فرعون من قبل (وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ) [غافر:26]- وإنا نخشى عليك وعلى قومك ما قد دخل علينا، فلا تكلمنه ولا تسمعن منه شيئا.
يقول الطفيل: فواللهِ! ما زالوا بي حتى أجمعت أن لا أسمع منه شيئا، ولا أكلِّمه. إنها جهود جبارة بذلتها صناديد قريش -وما زال يبذلها أحفادهم- ليحجبوا نور الهداية النبوية عن الطفيل وعن أمثال الطفيل في الأرض كلها، حلقات مكثفه قامت بها صناديد قريش-ومازال يقوم بها إخوانهم- لتشويه دعوة رسول الإسلام -صلى الله عليه وسلم-.
نعم -أيها المؤمنون- إن هناك أصنافا من أعداء الإسلام هذه هي صنعتهم، وهذه هي حرفتهم، نذروا أنفسهم لمنع كلمة الله أن تصل إلى قلوب الناس وأن تطرق مسامعهم، إنها مهنة الصدّ عن سبيل الله.
والغريب والعجيب أنهم لم يهتدوا بهدي الإسلام، ولم يتركوا الناس ليهتدوا بهديه، كما وصفهم ربك العليم سبحانه: (وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ) [الأنعام:26]، ينأى بنفسه فلا ينتفع، وينهى غيره حتى لا ينتفع، (مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ) [القلم:12].
يا ويلهم من الله العظيم! ألا يعلمون أنهم يحاربون الله؟ لأنّ مَن صدّ الناس عن دعوة رسول الله، ولأن من شوّه دعوة رسول الله، فإنما يصد عن كلمة الله، ويشوه كلمة الله، لذلك اشتد غضب الله عليهم، فقال الحق سبحانه: (أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ * الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ) [هود:18-19]، وهكذا صنع صناديد قريش مع الطفيل، صدّوه عن دعوة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهم لم يقبلوها؛ بل شوهوا حقيقتها.
قالوا له: يا طفيل، إنك قدمت بلادنا، هذا الرج قد أعضل بنا، وقد فرق جماعتنا. يحذرونه ممّن؟ يحذرونه من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهم يعلمون علم اليقين أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إنما يدعو الناس لما فيه مصلحتهم ونجاتهم، ولما فيه وحدتهم ومنعتهم، فما الذي يغيظهم من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ وما الذي يغيظ ذراريهم من العلمانيين والليبراليين وإخوتهم من أبناء العرب ومن الغرب حتى يبذلوا أموالهم، ويشحذوا أقلامهم، ويفتحوا إعلامهم لكل ما مِن شأنه تشويه دعوة الإسلام، وشخص رسول الإسلام -صلى الله عليه وسلم-.
إنه العداء التاريخي والمنهجي لهذه الدعوة ولأتباعها! محاولات ومحاولات مستميتة للصد عن سبيل الله ولمنع كلمة الله الصافية أن تصل بصفائها إلى مسامع الناس وقلوبهم، وهي ذات المحاولات التي قام بها صناديد قريش مع الطفيل ومع غيره لصدهم عن الهداية وتلبيس أمرهم عليهم.
يقول الطفيل عن نفسه بعد محاولات قريش معه، واصفا الحالة والقناعة التي وصل إليها: حتى حشوتُ في أذني حين غدوت إلى المسجد كرسفا (قُطْناً) فَرَقاً (خَوْفاً) من أن يبلغني شيء من قوله.
ثم يتابع الطفيل سرد ما جرى معه فيقول: غدوت إلى المسجد, فإذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قائم يصلي عند الكعبة, فقمت قريباً منه، فأبى الله إلا أن يُسمعني بعض ما يقول.
نعم! إنها إرادة الله التي لا يقف أمامها شيء (وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ) [الزمر:37]، قال الطفيل: فسمعت كلاما حسنا, فقلت في نفسي: وا ثكْلَ أمِّي! والله إنّي لرجلٌ لبيبٌ شاعرٌ ما يخفَى عليّ الحسَن من القبيح, فما يمنعني أن أسمع من هذا الرجل ما يقول؟ فإن كان الذي يأتي به حسنا قبلته، وإن كان قبيحا تركته.
انظروا -أيها الإخوة- كيف وظّف عقله في التمييز بين الحق والباطل, والخير والشر، وهو مازال على الكفر، بينما بعض المسلمين اليوم -وهو على الإسلام- قد سَلّمَ عقله إلى غيره يدسّه بالباطل ويدسّ الباطل فيه.
ولما انصرف رسول الله إلى بيته تبعه الطفيل، فدخل عليه، فقال: يا محمد، إن قومك قالوا لي كذا وكذا, ثم أبى الله إلا أن يُسمعني قولك، فأعرِضْ عليَّ أمرك؛ فعرض عليه رسول الله الإسلام، وتلا عليه القرآن, فقال الطفيل: لا والله ما سمعت قولا قط أحسن من هذا, ولا أمراً أعدل منه! فأسلَم، وشهد شهادة الحق؛ وبذلك أذن الله للهداية أن تدخل قلبه.
ما يمنعك -أيها المسلم- أن تنقاد إلى كلام ربك وإلى هدي نبيك -صلى الله عليه وسلم-، فوالله إنها فرصتك أن تحكّم عقلك، وتعود إلى ربك!.
وما أعظمها من ساعة حينما يقرر الإنسان فيها أن يعود إلى وطنه، إلى وطن الإيمان وطاعة الرحمن! وما أشرفها من إشراقه حينما يشرق نور الهدى في جنبات نفسك التي تآكلت من المعاصي، وأظلمت من الذنوب، فتنورها وتطهرها وتطرد ظلامها وغمها وهمها، كما طردت إشراقة الإيمان ظلام سنين قضاها الطفيل بين أنياب الشيطان، قبل أن يصبح في رحمة الرحمن! (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ).
أيها الإخوة المؤمنون: ويأتي المقطع الأخير من قصة إسلام الطفيل, فيقول للرسول -صلى الله عليه وسلم-: يا نبي الله، إني امرؤ مطاع في قومي, وأنا راجع إليهم وداعيهم إلى الإسلام.
يقول الطفيل وقد عاد إلى موطنه( قومه): فلما نزلت أتاني أبي, وكان شيخا كبيرا، فقلت له: إليك عني يا أبتِ! فلستُ منك ولستَ منّي، قال: ولِمَ يا بنيّ؟ قال: أسلمتُ وتابعت دين محمد -صلى الله عليه وسلم-. قال: أي بني: فديني دينك.
ثم أتتني صاحبتي ( زوجتي) فقلت: إليكِ عني! فلستُ منكِ ولستِ مني. قالت: لِمَ؛ بأبي أنت وأمي! قال: قد فرّقَ بيني وبينك الإسلام، وتابعتُ دين محمد -صلى الله عليه وسلم-. قالت: فديني دينك.
إنها دعوة الأهل- أحق الناس بك- إلى هداية الرحمن، إلى النجاة من النيران (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) [التحريم:6]، اقرأها أيها الأب المؤمن صباح مساء، واقرئيها أيتها الأم المؤمنة صباح مساء، فإن الله سائلكما عن أهليكما، هل دفعتم عنهم نار الآخرة، أم دفعتموهم إلى نار الآخرة؟.
أيّ أبوّة تلك، وأيّ أمومة تلك، حينما ترى ابنك وقد مرت عليه السنة تلو السنة وهو لا يعرف السجود لله؟ وأيّ زوجية تلك حينما ترى زوجتك أو ابنتك وقد طوتها الأشهر والسنون وهي طاوية للقرآن وطاوية للحجاب؟ عاد الطفيل مؤمنا من عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليعود بالخير على أهله وزوجه وعياله.
إن بعضنا اليوم يمكث في الجامعة يطلب العلم أربع سنوات، وما يوما عاد على أهله بهداية الدين! وإن بعضنا يمكث يدرس ويعلم السنوات الطوال، وما عاد يوما بعود يذكر على أهل بيته من خير الآخرة! وإن بعضنا يحضر عشرات الخطب والمواعظ، وما عاد يوما بنفع منها على أهل بيته! ولكن الطفيل عاد بالخير كله وأنقذ أهله.
ثم تابع مسيرته، يقول الطفيل: ثم دعوتُ دوسا -قومه- إلى الإسلام, فأبطئوا عليّ، فرجعت إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم-, فقلت له: إنه قد غلبتني دوس، فادع الله عليهم. فرفع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يديه. قال الصحابة: فقلنا: هلكت دوس! هلكت دوس! ولكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، الداعية الرحيم، الداعية الرؤوف الشفوق، رفع يديه قائلا: اللهم اهدِ دوساً! اللهم اهدِ دوساً!.
فرفقاً أيها الدعاة، رفقاً بالمدعوين، رفقاً بالعصاة من المسلمين، رفقا بالمخطئين من أهليكم وأصحابكم وجيرانكم وطلابكم، رفقا بهم! لا تدعوا عليهم، لا تتمنوا أن يسحقهم ربهم، وأن يخلّص الأرض أو البيت منهم.
رفقا بالضالين من المسلمين؛ لأن محمدا -صلى الله عليه وسلم- الداعية الرحيم كان رفيقا شفوقا بدوس وهم من الكافرين، فقال: اللهم اهد دوسا. فقل أنت كذلك أيها الداعية وأيها المؤمن وأيها الوالد، قل: اللهم اهد مسلما شاردا، اللهم اهدِ مسلمة ضالة، اللهم اهدِ ابنا آبقا، اللهم اهدِ زوجة عاصية، اللهم اهدِ طالبا منحرفا.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسولنا الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: أيها المؤمنون، لقد كانت نهاية الطفيل عجيبة, لما خرج لمعركة اليمامة قال لأصحابه: إني رأيت رؤيا: رأيت أن رأسي حُلق، وأنه خرج من فمي طائر، وأنه لقيَتْني امرأة فأدخلتني في فرجها! ثم أوّلها لهم فقال: أما حلق رأسي فوضْعُه (أي قتلي)، وأما الطائر الذي خرج من فمي فهي روحي، وأما المرأة التي أدخلتني في فرجها فالأرض تحفر لي فأغيب فيها.
وهذا ما كان فعلا! فقد قتل شهيدا، وخرجت روحه الطاهرة، ثم غيّب في الأرض.
فرضي الله عنه، ورضي عنا معه، وحشَرَنَا في زمرته وزمرة أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم-، وجعل لنا العبرة في قصصهم، والانتفاع بما نخدم به ديننا ودعوتنا.
اللهم اجعل أعمالنا صالحة، واجعلها لوجهك خالصة، ولا تجعل لأحد فيها شيئا... يا رب العالمين.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي