الاستخارة

عبد العزيز بن عبد الله السويدان

عناصر الخطبة

  1. تعريف الاستخارة
  2. حكم صلاة الاستخارة وفيما تشرع
  3. حكم تكرار الاستخارة
  4. هل يشترط صلاة الركعتين ثم الدعاء؟
  5. وقت صلاة الاستخارة
  6. شرح مختصر لحديث الاستخارة
  7. المداومة على دعاء الاستخارة

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾[آل عمران: 102].

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾[النساء: 1].

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا(71)﴾[الأحزاب: 70-71].

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

إن من علامات الرضا، وحسن التوكل، والثقة بالله -تبارك وتعالى-: الاستخارة، والاستخارة في اللغة طلب الخيرة في الشيء، وفي الاصطلاح: معرفة الأدلة.

فالاستخارة طلب مبني على ضعف وعجز من العبد، في معرفة موقع الخير وسبيله، والاستخارة كذلك دعاء جميل يحمل إلى الله -تبارك وتعالى- من الإذعان، وتعظيم الله، والتفويض إليه.

وكلها من مستلزمات العبادة والدعاء، قال تعالى: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾[غافر: 60].

عن جابر -رضي الله عنه-: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها، كالسورة من القرآن، يقول: إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم يقول: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي -ويسمى ذلك الأمر- في ديني ومعاشي، وعاقبة أمري، أو قال: عاجل أمري وآجله، فاقدره لي ويسره لي، ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر -ويذكره- شر لي في ديني ومعاشي، وعاقبة أمري، أو قال: عاجل أمري وآجله فاصرفه عني واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان ثم أرضني به، قال: ويسمي حاجته"[رواه البخاري].

قول جابر -رضي الله عنه-: "كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يعلمنا".

وفي رواية: "يعلم أصحابه الاستخارة في الأمور كلها".

اتفقت المذاهب الأربعة أن الاستخارة تكون في الأمور التي لا يدري العبد وجه الصواب فيها، أما ما هو معروف خيره أو شره؛ كالعبادات، وصنائع المعروف، أو في الجانب الآخر: المعاصي والمنكرات، فلا حاجة إلى الاستخارة فيها.

إلا إذا أراد بيان خصوص الوقت مثلا؛ كالحج في هذه السنة، أو في غير هذه السنة، لاحتمال عدو، أو فتنة، أو غير ذلك، أو الحج مع فلان مثلا، أو في الحملة الفلانية مثلا، يستخير الله في هذه الأمور، لكن الحج ذاته، أو في الطاعة ذاتها، أن يوافق التعارض: أنْ إذا تعارض عنده أمران: أيهما يبدأ به، أو يقتصر عليه.

أما المباح من الأمور فيستخار في أصله، قال ابن حجر: "ويتناول العموم العظيم من الأمور والحقير، فرب حقير يترتب عليه الأمر العظيم، يستخير الإنسان في كل شأنه".

قوله: "كالسورة من القرآن". وفي لفظ: "كما يعلمنا السورة من القرآن" هذا يدل على شدة الاعتناء بالدعاء، يعلمهم كالسورة في القرآن، لا شك أن هذا يعني إلى الندب لحفظ الدعاء كما تحفظ السورة من القرآن، بلا زيادة ولا نقصان؛ لأنه دعاء مفسر في الحديث: "إذا هم أحدكم" بأول ما يرد على القلب.

كما فسر أيضا بالعزيمة، ولو استخار في كل خاطر يرد، فلا يستخار في الخواطر التي تأتي في القلب، وإنما على الهم.

قال النووي: "يستحب أن يستشير قبل الاستخارة من يعلم من حالة النصيحة والشفقة والخبرة، ويثق في دينه، قال تعالى: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ﴾[آل عمران: 159].

وإذا استشار وظهر أنه مصلحة استخار الله -تعالى- في ذلك، وقد وقع في حديث ابن مسعود –رضي الله عنه- : "إذا أراد أحدكم أمرا فليقل… ".

إذا تشرع الاستخارة حتى فيما عزم الإنسان على فعله، هذا هو الأرجح، إذ لو استخار الإنسان في كل ما يخطر في باله لكان من العبث، والنبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا هم أحدكم" ولم يقل: إذا تردد أحدكم.

فالإنسان إذا عزم على أمر ما، بعد الدراسة والاستشارة، ثم يستخير الله -تعالى-فيما ترجح فعله فيما فيه المصلحة، ولذلك لا يشترك ظهور علامات تدل على القبول كانشراح الصدر، أو رؤيا منام، قال بعض أهل العلم: "لا يشترط شرح الصدر".

فإذا استخار الإنسان ربه في شيء فليفعل ما بدى له، سواء انشرح صدره، أم لا، فإن فيه الخير، لكن إن شعر أن قلبه قد صرف عنه بعد أن كان معلق به، فله أن يحجم، فإن في الدعاء: "فاصرفه عني، واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان، ثم رضني به".

وقد يكرر الإنسان الاستخارة، لا بأس في ذلك، يجوز أن يكرر الاستخارة في الأمر الواحد، فقد استخار عبد الله بن الزبير ربه ثلاثا في إعادة بناء الكعبة على قواعد إبراهيم، كما صح ذلك في مسلم، وقال: "إني مستخير ربي" ثلاثا "ثم عازم على أمري" فلما مضى الثلاث، أجمع رأيه على أن ينقضها.

قوله: "فليركع ركعتين من غير الفريضة" ظاهر الحديث يدل على التقييد بركعتين، فخرج بذلك بما هو أكثر من ركعتين، وما هو أقل كالوتر.

قال ابن حجر: "والظاهر أنه يشترط إذا أراد أن يستخير أن يسلم من كل ركعتين، يعني من النافلة؛ لأنه قال: "من غير الفريضة" ليحصل مسمى الركعتين، ولا يجزئ لو صلى أربعا مثلا بتسليمة واحدة".

والحاصل: أنه ورد في الاستخارة حالتين:

الأولى: هي الأوثق والأفضل تكون بركعتين بغير الفريضة بنية الاستخارة، وأن يكون الدعاء بعدها.

والثانية: وقال بها بعض العلماء: إذا تعذرت الصلاة فلا بأس بالدعاء فقط دون الركعتين.

لكن هل تجوز الاستخارة في النافلة المطلقة، أو الراتبة بلا النية المسبقة؟

قال البعض: لا تشترط النية، وقال البعض: بل تشترط النية، وهو الأحوط.

قال الحافظ: إن نوى تلك الصلاة بعينها وصلاة الاستخارة معا أجزئ، بخلاف إذا لم ينو، وله أن يقول الدعاء قبل أن يسلم، فإذا انتهى سلم.

يقول فإن النبي -صلى الله عليه وسلم-: أكثر دعاءه كان قبل السلام، والمصلي قبل السلام لم ينصرف، فهذا أحسن، أي لا يزال في صلاته يناجي ربه.

أما وقت صلاة الاستخارة: فالأولى أن تكون في غير أوقات النهي، وأوقات النهي من بعد صلاة الفجر إلى ارتفاع الشمس قدر رمح، وعند قيام الشمس حال الاستواء في كبد السماء حتى تزول، ومن بعد صلاة العصر حتى تغيب الشمس.

وصلاة الاستخارة ليست نافلة مطلقة، وإنما هي من ذوات الأسباب، قال ابن تميمة: ذوات الأسباب تفعل في أوقات النهي، وعلل السبب في أنها لم تفعل لأجل الوقت، وإنما دعا إليها داعي، بخلاف التطوع المطلق الذي لا سبب له.

ثم قال: إنما ذوات الأسباب تفوت إذا أخرت عن وقتها، إذا وافق وقتها وقت النهي، مثل تحية المسجد، وصلاة الكسوف، ومثل الصلاة عقب الطهارة، يعني عقب الوضوء، كما في حديث بلال، وكذلك صلاة الاستخارة إذا كان الأمر الذي يستخير يفوت إذا أخرت الصلاة.

إذاً، نخلص بأنه إذا كان الأمر الذي يستخير الله -تعالى- من أجله لا يفوت، أو لن يفوت، فالأولى تأخير الصلاة عن أوقات النهي.

ولو صلاها في أوقات الإجابة كان أفضل؛ كالثلث الأخير من الليل، وبين الآذان والإقامة، والساعة الأخيرة من عصر الجمعة، وغيرها من أوقات الإجابة.

قال صلى الله عليه وسلم: "اللهم إني أستخيرك بعلمك" والباء للتعليل، والمقصود بأنك أعلم، أي أطلب منك أن تشرح صدري، وتهديني لخير الأميرين، بسبب علمك بكيفيات الأمور ومآلها إذ لا يحيط بها سواك، كما قال تعالى: ﴿وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 216].

جاء في الحديث القدسي: "يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أستهدكم".

قوله: "وأستقدرك بقدرتك" أي أطلب منك القدرة على ما تختاره لي، أو أطلب منك أن تقدره لي.

قوله: "وأسألك من فضل العظيم" إشارة إلى الإقرار بأن الفضل في هذا الأمر وغيره من الأمور إنما هو لله –تعالى- وحده لا شريك له، لاسيما في أمور الغيب التي لا يعلمها إلا هو، ولذلك أعقبها قائلا: "فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب".

فتقدير الأمور منه عز وجل: ﴿اللّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ﴾ [الرعد: 8].

﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ [القمر: 49].

وفيما تقدم من إظهار وإبداء الضعف والعجز والفقر إلى إعانة الله، وتقديسه وتعظيمه، والثناء عليه ما يمهد للسؤال، وهذا من آداب الدعاء.

قال صلى الله عليه وسلم: "إذا صلى أحدكم فليبدأ بتمجيد ربه -سبحانه-، والثناء عليه، ثم يصلي على النبي-صلى الله عليه وسلم-".

قال النووي: "أجمع العلماء على استحباب ابتداء الدعاء بالحمد لله -تعالى-، والثناء عليه، وقد جاء في حديث الشفاعة: أدب النبي -صلى الله عليه وسلم- مع ربه عندما يتخلى جميع الأنبياء عن الشفاعة، فيقوم بها نبينا الحبيب محمد -صلى الله عليه وسلم-".

وقال فيه: "فأتي باب الجنة، فأخذ بحلقة الباب، فأستفتح، فيقال: من أنت؟ فأقول: محمد، فيفتح لي" قال: وهنا الشاهد: "فأخر ساجدا فأحمد ربي -عز وجل- بمحامد لم يحمده بها أحد كان بعدي، فيقال: -أي بعد أن أقول تلك المحامد، خضوعا وإذعانا، وإبداء الفقر- "ارفع رأسك، وسل تعط، واشفع تشفع".

هناك يبدأ النبي -صلى الله عليه وسلم- بالسؤال والطلب.

فحمد الله -تعالى- والثناء عليه، وتمجيده، وإبداء العجز والفقر قبل الدعاء من الآداب التي ينبغي أن يحافظ عليها المؤمن.

قوله: "اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر" وفي رواية: "فيسميه بعينه" يعني: "إن كان في علمك خير لي في ديني" نعم، الدين أولا في حياة المسلم، ولذلك لا وجه للاستخارة في الحرام، أو المكروه، بلا ضرورة شرعية.

"ومعاشي" يعني حياتي الحياة الدنيا "وعاقبة أمري" وفي رواية: "في عاقبة أمري وعاجله" وعاجل الأمر يشمل الدين والدنيا، والآجل يشمله مع العاقبة.

قوله: "فاقدره لي" أي اجعله مقدورا لي، أو هيئه لي.

قال: "ويسره لي، ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني، ومعاشي، وعاقبة أمري، وعاجله، أو آجله، فاصرفه عني، واصرفه عني" يعني حتى لا يبقي قلبه، حتى بعد صرف الأمر معلقا به.

قال: "واقدر لي الخير حيث كان" أي من زمان أو مكان. وفي رواية: "حيث كنت".

قوله: "ثم أرضي به" أي حتى أكون دائم الرضا بقضائك.

وفي الحديث كما قال الحافظ: "شفقة النبي -صلى الله عليه وسلم- على أمته، وتعليمهم جميع ما ينفعهم، في دينهم ودنياهم".

وعند الطبراني من حديث ابن مسعود: "كان يدعو بهذا الدعاء صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يصنع أمرا، ويحذر من هوى النفس".

فأنت عندما تستخير إنما تفوض الأمر المجهول إلى الله -تعالى- من حيث هدايته، هدايته هو لك، لا هوى قلبك، وميل نفسك إلى ما تشتهيه.

فانشراح الصدر بعد دعاء الاستخارة ليس شرطا في هذه الحالة، وإنما يكون المؤمن متجردا من حظوظ النفس ورغباتها، طالبا للحق المجرد، الحق المستند إلى الأدلة.

أقول ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن سار على نهجه، واهتدى بهداه إلى يوم الدين.

أما بعد:

فيقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أعجز الناس من عجز عن الدعاء".

ويقول: "إنه من لم يسأل الله -تعالى- يغضب الله عليه".

كثير من المسلمين عند خيار الأمور والحيرة فيها مع الأسف يقصدون العرافين والمشعوذين -والعياذ بالله-، وهذا –والله- من الجهل، ونقص الإيمان، فبعضهم يتطيرون ويتشاءمون من القطط، ومن كسر الآنية، وبعضهم يستبشرون بالخشب.

ولا شك أن الذي يداوم على دعاء الاستخارة يدل على قوة صلته بالله خالقه، ومدبر أمره، كما يدل على حسن ومتانة علاقته بربه.

اللهم أعز الإسلام والمسلمين..


تم تحميل المحتوى من موقع