الشريعة الإسلامية جاءت لتصحيح الأخلاق وتهذيب النفوس؛ حتى إن الرجل يبلغ بحسن خلقه درجة الصائم القائم. وحين يقال: حسن الخلق، فهو شامل جميع صور التعامل مع الناس، كرمًا وسخاءً، عفوًا وتسامحًا، برًّا وصلة، شفاعة وهدية، إصلاحًا ونفقة، والله تعالى عفو كريم يحب المحسنين، وما منكم من أحد إلا ومتصف بأكثر هذه الصفات أو كلها. والسخي قريب من الله قريب من الجنة قريب من الناس، والبخيل بعيد من الله بعيد من الجنة بعيد من الناس ..
إن الحمد لله...
قال -صلى الله عله وسلم-: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق".
الشريعة الإسلامية جاءت لتصحيح الأخلاق وتهذيب النفوس؛ حتى إن الرجل يبلغ بحسن خلقه درجة الصائم القائم. وحين يقال: حسن الخلق، فهو شامل جميع صور التعامل مع الناس؛ كرمًا وسخاءً، عفوًا وتسامحًا، برًّا وصلة، شفاعة وهدية، إصلاحًا ونفقة، والله -تعالى- عفو كريم يحب المحسنين، وما منكم من أحد إلا ومتصف بأكثر هذه الصفات أو كلها.
والسخي قريب من الله قريب من الجنة قريب من الناس، والبخيل بعيد من الله بعيد من الجنة بعيد من الناس.
والسخاء صفة تستر بها العيوب وتزال بها الكروب والأزمات؛ قال الشافعي:
يغطَّى بالسماحة كل عيب *** وكم عيب يغطيه السخاء
يغطي عيوب الإنسان من الحدة والغضب والشراسة؛ حتى قال أحدهم:
أنفق ولا تخش من ذي العرش إقلالاً *** ولا تطع في سبيل الجود عذالاً
من جاد جاد عليه الله واستترت *** عيوبه وكفى بالجود سربالاً
ولا يشترط أن تجود بكل ما تملك، وإنما بما تقدر من حسن الخلق واللين والميسور والتحية وإطعام الطعام الموجود بلا تكلف، وهناك حديث عن سلمان الفارسي -رضي الله عنه- قال: "نهينا عن التكلف، أي لا تتكلف المفقود ولا ترد الموجود".
وأسمى صور الجود الجهاد في سبيل الله حين يبذل روحه في سبيل الله كما قال الشاعر:
جودوا بالنفس إن ضنَّ البخيل بها *** والجود بالنفس أغلى غاية الجود
ثم الجود بالمال يكون بالإنفاق في سبيل الله -عز وجل- والعطاء والصدقة؛ ومن أحسن من ضرب الأمثلة على ذلك أبو بكر الصديق الذي جعل ماله كله في سبيل الله.
ومن أقسام الجود: الجود بالطعام؛ قال -تعالى-: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً) [الإنسان :8 ]، ولا ندري أي ضمير يحمله إنسان يبيت شبعان وجاره جائع؟!
والكرم أنواع؛ فمن يختزله بالموائد والولائم حصره بالماديات وهو فوق ذلك، وهنا ولد بيت الشعر المنفر من الكرم حين حصره بمعنى واحد:
لولا المشقة ساد الناس كلهم *** الجود يفقر والإقدام قتال
والجود بوابة واسعة للمجد والشرف والسيادة، وكل الناس يعرفون ذلك، ولكن الذي يصرفهم عنه -على حد رأي الشاعر- أنه يسبب الفقر والقلة، فيتنازلون عن المجد درءًا للفقر؛ وهذا غير صحيح لسببين:
أولهما: أن الجود إذا كان خالصًا لله فإن الله يخلف على صاحبه: (وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) [سبأ : 39].
والثاني -وهو موضوعنا-: أن الجود ليس محصورًا في بذل المال، الجود معنى واسع رحب؛ فهناك الجود بالجاه: "والبخيل من بخل بجاهه".
وهناك الجود بالمشاعر والعاطفة والكلمة الطيبة والابتسامة المشرقة، والبخل بهذه الأشياء من أبشع صور البخل وأقساها وأسوؤها أثرًا على العلاقات والنفوس؛ فهناك من البخلاء حين يراك يظل وجهه متصلبًا لا يبش بنظرة ولا يلين بابتسامة، وكأنه يخاف على وجهه أن يتهدم، أو على شفتيه أن تتثلم، وهناك من يعجبه صنيعك وتصرفك ولكنه يشح عليك بكلمة شكر أو تقدير يسعدك بها، وفيهم من يحبك حبًّا حقيقيًّا ولكنه يبخل عليك أن يقر لك بهذا الحب أو يعترف لك بهذه المشاعر!!
وما أروع هدي النبوة!! ما أرقّه وأرقاه حين يربي النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه على البوح بمشاعر الحب حينما أمر الرجل الذي عبّر عن حبه لصاحبه في غيبته، أن يخبره بحبه له، وهذه من مكارم الأخلاق، ومن صفات العظماء الكرماء النبلاء.
ولقد قالوا: إن من أعظم صفات الكريم الجواد البسمة على محياه، والتهلل والبشر، ويوم تراه تجده متهللاً كما قالوا:
تراه إذا ما جئته متهللاً *** كأنك تعطيه الذي أنت سائله
أما العبوس فليس من علامة أهل الإيمان والأجاود، وإنما هو من علامة أهل الكبر والإعراض والمعصية.
ومن صور البخل أن يتلقى المرء هدية طريفة ثم لا يجود بكلمة امتنان، أو تعبير عن إعجاب وعرفان.
هذه الأنماط من الناس أشحة حقيقيون؛ لأنهم يغلقون على مشاعرهم في صناديق حديدية، وكأنهم يخافون عليها أن تنفد أو تتبخر!! فهل رأيت أبخل من هؤلاء؟! ألم يكونوا جديرين بدخول موسوعة الجاحظ (البخلاء) من أوسع أبوابها؟!
ومن الجود: الجود بالجاه؛ فمن أعطاه الله رفعة ومرتبة ومنزلة فجاد بجاهه وشفع لعباد الله -عز وجل- عند من يشفع عنده من الناس من مسؤول أو وزير أو موظف، وسهل أموره، سهل الله أمره؛ كالشفاعة في الدماء والشفاعة للفقراء والمساكين، والوقوف مع الأرملة والضعيف واليتيم ونحو ذلك، والشفاعة للمحبوسين وغير ذلك.
ومنها الجود بالعلم -وهو من أفضلها وأحسنها-، فيبذل علمه الذي جعله الله -تعالى- وديعة عنده؛ فيعلم خطابة وتدريسًا وتأليفًا ونصحًا وأمرًا بالمعروف ونهيًا عن المنكر.
ومن الجود: أن تجود بوقتك على المسلمين في عيادة المريض والوقوف مع ذي الحاجة.
ومن الكرم والسخاء: أن تقابل الإساءة بالإحسان: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) [فضلت: 34]، وأن لا تنتظر لمعروفك مقابلاً من الآخرين؛ فالله -تعالى- يقيك مصارع السوء، ويدفع عنك المحن، والناس شهداء الله في الأرض.
ومن الكرم والجود والسخاء: القناعة بما تيسر من أخلاق الناس؛ فلا تطلب فيهم الكمال، واسلك سلم التغافل والإعراض: (خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ) [الأعراف:199]، وهي أجمع آية في الأخلاق، (عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ) [التحريم :3].
فإذا كنت كذلك فأنت معدود من الأبرار الأخيار الذين اختارهم الله -عز وجل- وجعل لهم أخلاقًا؛ منها اللين والبسمة والرحابة والبشاشة والقرب من الناس والتحبب إليهم، وهذا هو الجود بالخلق الكريم، ولا يحمله إلا من أعطاه الله -تعالى- خلقًا نبيلاً عظيمًا.
وعلماء النفس يرون أن من أراد السعادة فعليه أن يبذل وأن يعطي، وهذا يسمونه صيدلية القلوب؛ أي أن تبذل من طعامك ودراهمك ومن أخلاقك، فيشفيك الله -عز وجل- من مرض القلق والاضطراب والهم والغم والحزن، وهذا أمر مجرب. بل إن النبي -صلى الله عليه وسلم- وصف المنفق الذي كلما أعطى وأنفق يتوسع عليه درعه حتى تنزل على جسمه، وأما البخيل فإنه كلما أمسك ضاق عليه الدرع حتى يكاد يختنق.
لهذا تجد في أخلاق البخيل من الشراسة والحدة والنكد ما لا تجده عند غيره، وكلما قتّر يقتر الله عليه ويكون من نكد إلى نكد.
ولقد وصف الجاحظ أحد الأجاود بأن أخلاقه تسيل رقة وعذوبة وكأن وجهه يحييك قبل لسانه.
ووصف الحطيئة أحد العرب فقال:
متى تأته تعشو إلى ضوء ناره *** تجد خير نار عندها خير موقد
ولقد شكا المحلق -أحد البخلاء- إلى زوجته عدم طلب الناس للزواج من ابنتيه، فقالت له -وكانت عاقلة-: لأنك بخيل، والناس ينفرون من البخلاء. قال: ما الحل؟! قالت له: ادع الأعشى وانحر له ناقة وأطعمه وأكرمه، فإنك إذا فعلت ذلك مدحك بالكرم وتزوج الناس بناتك، وبالفعل فعل ما طلبته منه زوجته وأكرم الأعشى وذبح له وأطعمه، ولما خرج الأعشى من عنده مدحه بقصيدة، وانتشرت القصيدة وتزوج الناس بناته في تلك السنة.
وأنا لا أدعوكم إلى دعوة الأعشى، ولكن اطرحوا التعالي والغرور والكبر، وجودوا على الآخرين بالبسمة والحب والإخاء.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي