أكل الربا

عبد العزيز بن الطاهر بن غيث
عناصر الخطبة
  1. تعريف الربا وبيان تحريمه وخبثه .
  2. أسباب الوقوع في الربا .
  3. عقوبة المتعامل بالربا .

اقتباس

وهذا الربا قبيح ومذموم ومحرم في كل الشرائع، قال بعض العلماء: "إنّ الرّبا لم يحلّ في شريعةٍ قطّ لقوله تعالى: (وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ)، يعني: في الكتب السّابقة". ولكن أهل الكتاب حرفوا كتبهم وغيروا فيها، فصار اليهود يحلون التعامل بالربا مع غير اليهود ليمتصوا ثرواتهم ويستولوا على أملاكهم، ثم توسعوا فيه حتى صاروا لا يتعاملون إلا به، ثم أفلحوا في أن يعمموه على كل العالم، فصار العالم كله يتعامل بالربا لتصب فوائده في النهاية في جيب ..

أما بعد: نتكلم اليوم -بإذن الله- عن كبيرة من كبائر الذنوب والمعاصي، حرمها ديننا الحنيف تحريمًا قاطعًا لما فيها من مخالفة لشرع الله وضرر وظلم للناس، وتوعد الله ورسوله مرتكب هذه الكبيرة بوعيد عظيم.

نتكلم عن معصية أكل الربا والتعامل به، فالله سبحانه أحل للمسلم أن يسعى في طلب المال من حله، وأن يتاجر بالحلال ليكسب الأموال، ولم يحل له أن يستغل حاجة المحتاجين ليضاعف أمواله أو أن يقترض بالربا، يقول سبحانه: (وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) [البقرة: 275].

والأصل في معنى الربا: الزّيادة، يقال: ربا الشّيء إذا زاد، ومن ذلك قول اللّه -تبارك وتعالى-: (يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ) [البقرة:276]، أي: ينميها ويزيدها.

وهذا الربا -إخوة الإيمان- قبيح ومذموم ومحرم في كل الشرائع، قال بعض العلماء: "إنّ الرّبا لم يحلّ في شريعةٍ قطّ لقوله تعالى: (وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ) [النساء: 161]، يعني: في الكتب السّابقة". ولكن أهل الكتاب حرفوا كتبهم وغيروا فيها، فصار اليهود يحلون التعامل بالربا مع غير اليهود ليمتصوا ثرواتهم ويستولوا على أملاكهم، ثم توسعوا فيه حتى صاروا لا يتعاملون إلا به، ثم أفلحوا في أن يعمموه على كل العالم، فصار العالم كله يتعامل بالربا لتصب فوائده في النهاية في جيب اليهود في أكثر الأحيان.

وقد عرف عرب الجاهلية الربا وكانوا يتعاملون به، وكان إذا استدان بعضهم من بعض وحان وقت السداد يقول الدائن للمدين: "تقضي أم تُربي"، أي: إن كان لديك مال تقضي دينك وإلا أزيدك في المدة وتزيدني في المال، ولكن العرب مع تعاملهم بهذا الربا إلا أنهم كانوا يعرفون خبثه وأنه كسب حرام، فكانوا لا يضعون أموال الربا في الأمور المقدسة لديهم، يروى عن ابن وهب بن عمرو بن عائذ -وهو خال عبد الله والد النبي -صلى الله عليه وسلم- وكان شريفًا من رجالات العرب في الجاهلية، يروى عنه أنه قال مخاطبًا قريشًا عند إعادة بناء الكعبة: "يا معشر قريش: لا تدخلوا في بنيانها من كسبكم إلا طيبًا، لا يدخل فيها مهر بغي، ولا بيع ربا، ولا مظلمة أحد من الناس". وهذا أكبر دليل على خبث الربا وخسته واتفاق الناس حتى في الجاهلية على ذمه.

ثم جاء شرعنا المطهر وشريعتنا الإسلامية السمحة فحذرت من هذا الذنب العظيم وهذه المعاملة الممقوتة التي تُستغل فيها حاجة المحتاج ليُسلب منه ماله أو متاعه ويؤول إلى جيب المرابي، جاء الإسلام والناس يتعاملون بالربا فحرّمه عليهم، يقول سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [آل عمران: 130]، هذا تحذير من أن يملأ المسلم بطنه بكسب الربا، تحذير من أن ينبت لحم المسلم من سحت الربا وفوائده؛ لأنه بذلك لا يُنعم جسمه بل يضره ويعرضه إلى عذاب الله وعقابه، نعم يعرضه إلى عذاب الله لأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لا يربو لحم نبت من سحت إلا كانت النار أولى به". أخرجه الترمذي عن كعب بن عجرة.

إذا نبت لحم الإنسان من سحت الحرام ومن سحت الربا ومن سحت السرقة وغيرها فإنه يهيئ هذا الجسم لعذاب النار، يهيئه ليصلى نارًا حامية، فما أخبث هذا الدرهم الذي يتمتع به الإنسان في هذه الدنيا الفانية ثم يعقبه عذاب متواصل لا يطاق.

إننا -عباد الله- إذا أردنا أن نتخذ وقاية من النار، وإذا أردنا أن نجعل سترًا بيننا وبين النار؛ فعلينا أن نبتعد عن الحرام، وأن نتخذ من الحلال رزقًا وكسبًا، يقول –صلى الله عليه وسلم- في الحديث الذي أخرجه ابن حبان عن النعمان بن بشير: "اجعلوا بينكم وبين الحرام سترًا من الحلال"، أي: استعينوا بما أحل الله من رزق وكسب كي لا تقعوا فيما حرم الله.

والربا من أهم المحرمات في الكسب، بل إن الله أنذر القائمين على الربا والمتعاملين به بحرب من الله ورسوله، وهو ما لم ينذر به أي عاصٍ بمعصية أخرى غير الربا، وهذا ينبئك بفداحة هذه المعصية، يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ) [البقرة:278، 279]، قال قتادة كما في تفسير ابن كثير: "أوعدهم الله بالقتل كما يسمعون، وجعلهم بهرجًا -أي: دماؤهم مهدورة- أينما أتوا، فإياكم ومخالطة هذه البيوع من الربا، فإن الله قد أوسع الحلال وأطابه، فلا يلجئنكم إلى معصيته فاقة". رواه ابن أبي حاتم. وقيل: إن معنى الآية: إن لم تنتهوا فأنتم حرب لله ولرسوله أي أعداء لله ورسوله، وروى ابن عباس أنه يقال يوم القيامة لآكل الربا: "خذ سلاحك للحرب".

هذا هو التحذير العظيم لآكل الربا، فما الذي يدعو المسلم لارتكاب هذا الذنب؟! وكيف تهون عليه نفسه فيعرضها إلى حرب من الله ورسوله، حرب من رب السموات والأرض، من خضعت له المخلوقات جميعًا، من سبّح الرعد بحمده والملائكة من خيفته، وحرب من رسوله الذي أرسله رحمة للعالمين؟! هل عاقل من يعرّض نفسه إلى هذا الخطر؟! وهل حكيم من يدخل هذه الحرب المعلومة النتيجة؟!

ولعل من أهم الدوافع إلى الربا قلة إيمان الإنسان بموعود الله في الرزق، فلو كان الإنسان مؤمنًا حقًّا وموقنًا بأنه لن يُحرم رزقًا كتبه الله له فلن يلجأ أبدًا إلى دخول باب حرم الله دخوله، ولكن الثقة في الرزق مهزوزة، والاعتماد على الرزاق ضعيف، لهذا يلجأ الإنسان إلى كل الأبواب ولا يلجأ إلى باب العزيز الوهاب الذي كتب الأرزاق لعباده وحددها، يقول سبحانه: (وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ) [الذاريات: 22، 23]، كما أن الإنسان إذا ابتعد عن دين الله وركن إلى الدنيا وشغف بمتاعها وزينتها فإنه لا يبالي من أي مكان جلب المال وكسبه، وهذا يجعله يقع في المحظور، يقول -صلى الله عليه وسلم-: "ليأتين على الناس زمان لا يبالي المرء مما أخذ المال أمن حلال أم من حرام". أخرجه البخاري عن أبي هريرة. ولكن المسلم الحق والمسلم الصادق لا يمكن أن يستسهل أمرًا لعن الله فاعله وأنذره وبالغ في ذمه؛ لأن اللعنة تعني الغضب وتعني العذاب، فالمتعامل بالربا كما يخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- معرض للعنة الله رب العالمين سواء كان مقرضًا أو مقترضًا، وهذا ليس بالأمر الهيّن، أخرج الإمام أحمد عن ابن مسعود أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لعن الله آكل الربا وموكله وشاهده وكاتبه". فاللعنة ليست على المقرض بالربا وحده، بل هي على الطرفين، بل إنها تشمل حتى من يكتبه ومن يشهد عليه، كل هؤلاء تلحقهم لعنة الربا والعياذ بالله.

وآكل الربا -إخوة الإيمان- يعذّب على هذه المعصية عذابًا شديدًا، وصف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شيئًا من هذا العذاب في حديث الرؤيا التي رآها، والذي أخرجه البخاري عن سمرة، يقول في هذا الحديث: "رأيت الليلة رجلين أتياني فأخرجاني إلى أرض مقدسة، فانطلقنا حتى أتينا على نهر من دم فيه رجل قائم وعلى شط النهر رجل بين يديه حجارة، فأقبل الرجل الذي في النهر، فإذا أراد أن يخرج رمى الرجل بحجر في فيه فرده حيث كان، فجعل كلما جاء ليخرج رمى في فيه بحجر فيرجع كما كان، فقلت: ما هذا الذي رأيته في النهر؟! قال: آكل الربا". كما بيّن الله سبحانه أن آكل الربا يقوم يوم القيامة من قبره كالمجنون جزاء ما أكل من أموال محرمة، يقول سبحانه: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ) [البقرة: 275]، قال ابن كثير: "أي: لا يقومون من قبورهم يوم القيامة إلا كما يقوم المصروع حال صرعه وتخبط الشيطان له؛ وذلك أنه يقوم قيامًا منكرًا". وقال ابن عباس: "آكل الربا يبعث مجنونًا يخنق". هذه هي فداحة هذه المعصية العظيمة، وهذا ما تجنيه على صاحبها من عقوبات مادية ومعنوية.

قال السّرخسيّ: "ذكر اللّه تعالى لآكل الرّبا خمسًا من العقوبات:

إحداها: التّخبّط، قال اللّه تعالى: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ) [البقرة: 275].

الثّانية: المحق، قال تعالى: (يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا) [البقرة:276]، والمراد: الهلاك والاستئصال، وقيل: ذهاب البركة والاستمتاع حتّى لا ينتفع به ولا ولده بعده.

الثّالثة: الحرب، قال اللّه تعالى: (فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِه) [البقرة:279].

الرّابعة: الكفر، قال اللّه تعالى: (وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) [البقرة: 278]، وقال سبحانه بعد ذكر الرّبا: (وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ) [البقرة: 276]، أي: كفّارٍ باستحلال الرّبا، أثيمٍ فاجرٍ بأكل الرّبا.

الخامسة: الخلود في النّار، قال تعالى: (وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [البقرة: 275].

فلا ينبغي -إخوة الإيمان- لمسلم يؤمن بالله ربا وبالإسلام دينًا وبمحمد -صلى الله عليه وسلم- نبيًّا ورسولاً أن يلجأ إلى هذه المعاملة الممقوتة، فيبني بها بيتًا أو يطعم منها أهلاً وولدًا، بل على المسلم أن يصبر، وأن يسعى للكسب من الحلال، وأن يدعو الله سبحانه أن يفتح عليه أبواب رزقه، فإن الله سبحانه لا يعجزه شيء.

أسأل الله أن يوفقنا إلى ما فيه رضاه وهداه، أقول قولي هذا، وأستغفر الله إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

معشر المسلمين: لقد نظر الإسلام إلى الربا نظرة ملؤها المقت والكره، لهذا حذّر أتباعه منه وذمَّه لهم، وقد بلغ من هذا التحذير أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول كما في مسند أحمد من حديث عبد الله بن حنظلة وهو في صحيح الجامع: "درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم أشد عند الله من ست وثلاثين زنية".

كما أنه -صلى الله عليه وسلم- ركّز على أمر الربا فيما ركّز عليه من أمور مهمة في خطبة حجة الوداع، تلك الخطبة التي أوصى فيها المسلمين بأهم الوصايا، يقول -صلى الله عليه وسلم- في تلك الخطبة العظيمة كما عند ابن ماجه من حديث عمرو بن الأحوص: "فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا"، ثم يقول -صلى الله عليه وسلم-: "وإن كل ربا من ربا الجاهلية موضوع، لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون، ألا يا أمتاه: هل بلغت؟!". ثلاث مرات، قالوا: نعم، قال: "اللهم اشهد". ثلاث مرات.

هذه وصية الوداع من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبل أن يغادر هذه الدنيا، يوصي بها أمته ناصحًا مشفقًا، ويُشهد الله على ذلك، فهل تكون أمة تابعة لنبيها مطيعة له أمة تعصيه في آخر وأهم وصاياه؟! وماذا تنتظر الأمة إذا عصت هذا الأمر الإلهي وهذه الوصية النبوية؟! هل تنتظر رفعة وعزًّا؟! ماذا تنتظر أمة تعاملت بالربا المحرم؟! هل تنتظر رخاءً ونماءً؟! لا يمكن أن يكون رخاءً ونماءً فيما حرّمه الله سبحانه، لهذا قد ينتعش اقتصاد يقوم على الربا ولكنه انتعاش يحمل في طياته الهلاك والخسران وإن طال الزمن، يقول -صلى الله عليه وسلم- فيما أخرجه الحاكم من حديث ابن عباس: "إذا ظهر الزنا والربا في قرية فقد أحلوا بأنفسهم عذاب الله". لهذا ينبغي علينا أن نبتعد عن هذه المعصية، وأن لا نقترب منها إن كنا نريد الفلاح وإن كنا نريد النجاة، فلا سبيل إلى النجاة إلا في الابتعاد عما حرم الله، يقول سهل بن عبد الله كما في تفسير القرطبي: "النجاة في ثلاثة: أكل الحلال، وأداء الفرائض، والاقتداء بالنبي -صلى الله عليه وسلم-". فالنجاة إذًا في طلب الحلال، أما الاعتماد في هذه الحياة ومطالبها على الحرام واللجوء إلى الربا وغيره مما حرم الله فإنه لا ينفع ولا يدوم ولا يفضي إلا إلى القلة والفقر مهما استكثر الإنسان منه، عن ابن مسعود أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما أحد أكثر من الربا إلا كان عاقبة أمره إلى قلة". أخرجه ابن ماجه.

فلنتق الله عباد الله، ولا يدفعنا طلب الرزق أو قِلَّته إلى أن نطرق أبواب الحرام.

أسأل الله أن يهدينا إلى صالح الأقوال والأعمال، اللهم أرنا الحق حقًّا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه...
 


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي