في فضل الإيمان بالغيب وبيان معناه

صالح بن فوزان الفوزان

عناصر الخطبة

  1. الإيمان ما وقر في القلب
  2. حقيقة الإيمان بالغيب
  3. ما يشمله الإيمان بالغيب .

الحمد لله رب العالمين، مدح أهل الإيمان، ووعدهم الخلود في الجنان، ومنحهم منه المحبة والرضوان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان، وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

أيها الناس: اتقوا الله تعالى، واعلموا أن الإيمان هو الصفة المميزة لأهل الربح من أهل الخسران. من بني الإنسان؛ قال الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم ﴿وَالْعَصْرِ(1) إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ(3)﴾ [العصر:1-3].

أربع صفات هي المنجية من خسار محقق: الإيمان، والعمل الصالح، والتواصي بالحق، والصبر عليه ومن أجله.

والإيمان -يا عباد الله- لا يحصل بالتمني، أو مجرد الدعوى والانتساب، ولكنه ما وقر في القلب وصدقته الأعمال. إنه اعتقاد في القلب وقول باللسان وعمل بالجوارح، يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، ومن أعظم خصال الإيمانِ، الإيمانُ بالغيب، قال الله تعالى: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ..(3)﴾الآيات [البقرة 1: 3]  .

والغيب في كلام العرب: هو ما غاب عنك، فتصدق به اعتماداً على الخبر الصادق من الله ورسوله؛ فتؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره، وتؤمن بما أخبر الله ورسوله عنه من الحوادث الماضية والحوادث المستقبلة؛ من أخبار الرسل والأمم الماضية، وما يحصل في آخر الزمان من علامات الساعة؛ كظهور الدجال، ونزول عيسى بن مريم عليه السلام، وخروج يأجوج ومأجوج، وطلوع الشمس من مغربها، وغير ذلك مما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من أشراط الساعة ما حصل منها وما سيحصل، وتؤمن بما يكون في البرزخ من عذاب القبر ونعيمه، وتؤمن بالبعث والحساب والميزان والجنة والنار، وتعمل من أجل ذلك وتستعد له ولا تغفل عنه؛ قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ﴾ [ص:26] ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ [الحشر:18] ومن آمن بذلك حق الإيمان فإنه لا ينشغل عنه بالدنيا، فيكون ممن قال الله فيهم: ﴿بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى(17)﴾ [الأعلى 16: 17]

لقد توعد الله من هذه صفته بأشد الوعيد، قال تعالى: ﴿فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى(39)﴾ [النازعات 37: 39] فالمؤمن بالآخرة لا يؤثر الدنيا عليها، وإنما يجعل الدنيا مزرعة لها ومطيّة إليها؛ لأنه يعلم أنه منتقل عنها إلى الآخرة؛ فالمؤمن يجمع الله له بين خيري الدنيا والآخرة، والكافر يخسر الدنيا والآخرة؛ قال تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ﴾ [الحج:11] قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: هو المنافق؛ إن صلحت له دنياه أقام على العبادة، وإن فسدت عليه دنياه وتغيرت انقلب فلا يقيم على العبادة إلا لما صلح من دنياه؛ فإن أصابته فتنة أو شدة أو ضيق ترك دينه ورجع إلى الكفر.

عباد الله: ومن الإيمان بالغيب أن يعمل المؤمن بشريعة النبي صلى الله عليه وسلم ويطيعه وهو لم يره؛ فقد قال جماعة من الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم: "أي قوم أعظم منا أجراً، آمنا بالله واتبعناك؟ قال: ما يمنعكم من ذلك ورسول الله بين أظهركم يأتيكم بالوحي من السماء، بل قوم بعدكم يأتيهم كتاب بين لوحين يؤمنون به ويعملون بما فيه، أولئك أعظم منكم أجراً مرتين.

وقد ورد أن المتمسك بدينه عند ظهور الفتن له أجر خمسين من الصحابة؛ فعن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ﴾ [المائدة: 105] فقال صلى الله عليه وسلم: "بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحاً مطاعاً، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه – فعليك بخاصة نفسك، ودع العوام؛ فإن من ورائكم أياماً الصبرُ فيهن مثل القبض على الجمر للعامل مثل أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عملكم. قيل: يا رسول الله: أجر خمسين منا أو منهم؟ قال: بل أجر خمسين رجلاً منكم" رواه أبو داود والترمذي والحاكم وقال: صحيح الإسناد.

عن أبي هريرة رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المتمسك بسنتي عند فساد أمتي له أجر شهيد" رواه الطبراني وأبو نعيم في الحلية.

عباد الله: الإيمان بالغيب يشمل -أيضاً- الذي يطيع الله ويخلص العمل له سواء كان مع الناس أو كان منفرداً خالياً؛ قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ﴾ [الملك:12] وقال تعالى: ﴿مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ﴾ [ق :33]

وهذا بخلاف المنافق؛ فإنه يظهر الطاعة والإيمان إذا كان مع الناس، أما إذا خلا فإنه يكفر بربه؛ قال تعالى: ﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾ [البقرة: 14]

والإيمان بالغيب يتميز به الإنسان العاقل عن الإنسان البهيمي الذي لا يؤمن إلا بالمحسوس المشاهد، وذلك الإيمان البهيمي ليس فيه ميزة للإنسان عن الحيوان ولا ينفع صاحبه؛ قال تعالى: ﴿فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ(85)﴾ [غافر 84: 85] وفرعون لما أدركه الغرق قال: ﴿آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [يونس:90]  قال الله تعالى: ﴿آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾[يونس:91] فهذا حكم الله في كل من تاب عند معاينة العذاب أنه لا يقبل ولهذا جاء في الحديث: "إن الله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر" أي فإذا غرغر -بأن بلغت الروح الحَنْجَرَةَ وعاين الملك- فلا توبة حينئذ تقبل؛ فاتقوا الله عباد الله.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ(5) إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ(6)﴾ [فاطر 5: 6]

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.  


تم تحميل المحتوى من موقع