لا بدَّ قبل أن ننتصر على الأعداء أن ننتصر على أنفسنا، والانتصار على النفس بحملها على طاعة الله، والبعد بها عمَّا حرم الله، وهذه مرتبة من الجهاد تُبتلى بها النفوس، وتمتحن بها الهِمَم، وقد يضعف فيها كثيرٌ من الناس، وتراهم ينشغلون بالعدوِّ الخارجي أكثر من انشغالهم بالعدو الداخليِّ؛ وذلك لتسلية أنفسهم، وتبرير أخطائهم، وكان من وصية أسلافنا لقادة الجهاد أن ذنوب الجيش أشدُّ عليهم من أعدائهم ..
الحمد لله ربِّ العالمين، أمر بالصبر عند البلاء، والشكر حين السراء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يثبّت الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد. وأشهد أن محمداً عبدُه ورسوله، توعَّد قريشاً بالذّبح وهو محاصرٌ في مكة حين قال: "أتسمعون يا معشر قريش، أمَا والذي نفسي بيدهِ لقد جئتكم بالذّبح" رواه البيهقي؛ فصدق الوعدُ، وقطع دابرُ المشركين، وإن فصل الزمانُ بين الوعد والإنجاز.
اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارض اللهم عن أصحابه أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) [التوبة:119].
عباد الله: هذا حديثٌ متممٌ للحديث قبله عن (التفاؤل في زمن الشدائد).
وقد سبق بيان هدي المرسلين -عليهم السلام- لقومهم، ووعدهم لهم بالنصر وهم في الضيق والكُربات، وكيف تحقق وعدُ الله وانتصر المُستضعفون، كما سبق بيانُ شيءٍ من الأخطاءِ التي قد تلازم بعض الناس في حال ضعف الإيمان واليقين، وغلبة الكافرين، وشيوع الفساد وكثرة المفسدين، وشيء من مظاهر الإحباط والضعف عند فئامٍ من المسلمين.
أيها المسلمون: إن من العيوب والأخطاء أن يخطئَ المرءُ ولا يدرك خطأه، بل يظل يُزكّي نفسه ويستغرب: لماذا يبطئُ النصر؟ وإليكم نموذجاً من أخطائنا يقررها ابن القيم -رحمه الله- في (إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان).
يقول ابن القيم: إن العبد كثيراً ما يترك واجباتٍ لا يعلمُ بها ولا بوجوبها، فيكون مقصِّراً في العلم، وكثيراً ما يتركها بعد العلم بوجوبها إما كسلاً أو تهاوناً، وإما لنوع تأويلٍ باطل، أو تقليد، أو لظنه أنه مشتغلٌ بما هو أوجب منها، أو لغير ذلك، فواجبات القلوب أشدُّ وجوباً من واجبات الأبدان، وآكدُ منها، وكأنها ليست من واجبات الدين عند كثيرٍ من الناس. اهـ.
إخوة الإيمان: والمطلوب مِنّا -في كل حال، ولاسيما في زمن الشدائد والكروب- أن نفتش عن عيوبنا، ونعالج أخطاءنا، ونصدق الله في التماس أسباب النصر، وأن نملأ قلوبنا من الثقة بنصره، وعلوِّ دينهِ، وأن نُخلصَ في ولائنا لله، ونجرد الاستعانة بالله وحده بعد تجريد العبودية له، تحقيقاً لقوله تعالى: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) [الفاتحة:5].
كيف نتخذ من دون الله ورسوله والمؤمنين وليجة، أي: بطانةً ودخيلة، والله يقول: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [التوبة:16]؟ وكيف نطلب النصر من غير الله، والله يقول: (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) [آل عمران:126]، وكيف نزكي أنفسنا، والله يقول: (فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى) [النجم:32].
عباد الله: لا بدَّ قبل أن ننتصر على الأعداء أن ننتصر على أنفسنا، والانتصار على النفس بحملها على طاعة الله، والبعد بها عمّا حرم الله، وهذه مرتبة من الجهاد تُبتلى بها النفوس، وتمتحن بها الهِمَم، وقد يضعف فيها كثيرٌ من الناس، وتراهم ينشغلون بالعدوِّ الخارجي أكثر من انشغالهم بالعدو الداخليِّ؛ وذلك لتسلية أنفسهم، وتبرير أخطائهم، وكان من وصية أسلافنا لقادة الجهاد أن ذنوب الجيش أشدُّ عليهم من أعدائهم.
إن تربية النفوس على الانتصار لشرع الله ودينه، ومجاهدة النفس على التعلق بمعالي الأمور، وترك السفاسف والفواحش هو طريقٌ وسببٌ لنصر الله، والله يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) [محمد:7].
يا أخا الإيمان: إن هذه المعاني التي نحتاجها في كل حين، لا سيما في وقت الشدائد، من الإيمان واليقين والتسليم وصدق الولاء والصبر والتضرع لله وحسن المجاهدة، وتهذيب النفوس وتصفيتها من الشوائب، وتجريد الاستعانة والعبودية لله، والنظر في الأخطاء وإصلاحِ العيوب، والعمل بجدٍّ لتجاوز النفق المظلم بروية وتخطيط وإنجاز وإنتاج دون ملل أو كلل، حتى يأتي نصرُ الله أو نهلك في سبيله، كل ذلك مارسه المؤمنون السابقون وتركوا لنا نماذج تُسلِّي وتُؤنس، وتقوي الهمم، وتشحذُ العزائم.
وإليك نماذج من الشدّة والبأساء وقعت لخير القرون: لقد زُلزل المؤمنون في غزوة الأحزاب زلزالاً شديداً وبلغت القلوب الحناجر، وزاغت الأبصار، كما قال ربُّنا: (إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً) [الأحزاب:10-11].
وكيف لا يقع ذلك والمدينة لأول مرة في تاريخ الإسلام يطوقها ما يقرب من عشرة آلاف من قريش وأحلافها والمتحزبين معها، واليهود ينقضون عهدهم في المدينة، والمنافقون من داخل الصّف يرجفون بالمسلمين ويظنون بالله الظنونا؟! ومع ذلك كلِّه صدق المسلمون مع ربِّهم وجلى اللهُ موقفهم بقوله: (وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً) [الأحزاب:22].
ومن قبل وقع في أُحد من الشدة والبلاء على الرسول والمؤمنين ما الله به عليم. وفي قوله تعالى: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) [الأحزاب:23].
أخرج البخاري في (صحيحه) عن أنس -رضي الله عنه- قال: غاب عمي أنسُ بن النَّضْرِ عن قتال بدر، فقال: يا رسول الله، غبتُ عن أولِ قتالٍ قاتلت المشركين، لئن اللهُ أشهدني قتال المشركين ليَرَينَّ اللهُ ما أصنع، فلما كان يومُ أحدٍ وانكشف المسلمون قال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء -يعني أصحابه- وأبرأُ إليك مما صنع هؤلاء -يعني المشركين-.
ثم تقدم فاستقبله سعدُ بنُ معاذ فقال: يا سعد بنَ معاذ! الجنةَ! وربِّ النَّضْر! إني أجدُ ريحها من دون أُحد، قال سعدٌ: فما استطعتُ يا رسول الله ما صنع! قال أنسٌ: فوجدنا به بضعاً وثمانين ضربةً بسيف، أو طعنةً برمح، أو رميةً بسهم، ووجدناه قد قتل وقد مثَّل به المشركون، فما عرفه أحدٌ إلا أختُه ببنانه، قال أنس: كُنَّا نرى -أو نظن- أن هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ...) [الأحزاب:23].
إخوة الإسلام: وفي ظل ظروف المِحَنِ واللأْواء والشدائد يظهر دور العلماء، وتحتاج الأمة إلى أصوات المستيقنين المثبتين لقلوب الناس، والواعدين بنصر الله وفق سنن الله وعوامل النصر المشروعة.
أجل، لقد مرت الأمةُ المسلمةُ بعواصفِ الردةِ، فكان أبو بكر لها، وطوفانِ المحنة فكان ابنُ حنبلٍ جبلها، ثم طارت في الأمة تيارات المذهبية والآراء والنحل الفاسدة، فتصدى العلماء لها وكشفوا عن زيفها وفساد معتقد أصحابها، وربما حملوا السلاح لمجاهدة أصحابها.
ثم انساح الصليبيون في بلاد المسلمين واستولوا على مقدساتهم، وبرغم الهزائم التي لحقت بهم، فلم تلحق الهزيمة قلوبهم، ولم تتخلخل قناعاتهم، هزموا في ميدان المعركة، لكنهم لم ينهزموا في القيم، كانت هزيمتهم حسّية ولم تكن معنوية، حتى إذا جاء صلاح الدين الأيوبي وَمَنْ قبله من القادة الصالحين، وجمع شملهم ووحد صفوفهم، وجد عندهم من القوة والعزيمة على الجهاد ما شجّع القادة على دحر الصليبيين وإخراجهم من بلاد المسلمين خاسئين.
ثم ابتليت الأمة بغزو التتر، وبلغ الكربُ بالمسلمين مبلغه، حتى قال أحدُ المؤرخين المعاصرين لها: فلو قال قائل: إن العالم منذ خلق الله -سبحانه وتعالى- آدم، وإلى الآن لم يبتلوا بمثلها، لكان صادقاً، فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا ما يدانيها. اهـ.
وكما وصف ابن الأثير طرفاً من أحداثها، فقد وصف شيخ الإسلام طرفاً آخر يشير إلى أن أحداث التتر في بلاد الشام وما حولها: طبق الخافقين خبرُها، واستطار في جميع ديار الإسلام شررها، وأطلع فيها النفاقُ ناصية رأسه، وكشَّر فيها الكفرُ عن أنيابه وأضراسه، وكاد فيها عمودُ الكتاب أن يجتَثَّ ويخترم، وحبلُ الإيمان أن ينقطع ويصطلم... وفيها فرّ الرجل من أخيه وأمه وأبيه، إذ كان لكل امرئٍ منهم شأن يغنيه... اهـ.
ومع ذلك؛ برز العلماء يُهدّئون ويسكنون الناس ويثبتونهم ويعدونهم ويبشرونهم بالنصر، وكان لشيخ الإسلام ابن تيمية في ذلك قدحٌ معلّى، حتى كشف الله الغمة عن المسلمين، بعد أن تحزَّبَ الناسُ وانقسموا إلى ثلاثة أحزاب: حزبٍ مجتهدٍ في نصر الدين، وحزبٍ خاذلٍ له، وآخر خارجٍ عن شريعة الإسلام.
عباد الله: ولم تكن فتنة التتر آخر البلايا والمحن على المسلمين، بل وافتهم بعدها محنٌ وخطوب، واستعمارٌ وحروب، ولا تزال المؤامرات وأساليب الغزو والتدمير ماضية، وحربُ الأعداء للمسلمين اليوم استمرارٌ لحروبهم بالأمس، وعلى مسلمي اليوم أن يقرؤوا تاريخ أسلافهم، ويستفيدوا من تجاربهم، ويتعرفوا على طبيعة أعدائهم، ويتمعنوا في قول ربهم: (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) [البقرة:120].
نفعني الله وإياكم.
الحمد لله القوي العزيز، ذي القوة المكين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له جنودُ السماوات والأرض، (وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) [المدثر:31]، (وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [فصلت:46].
وأشهد أن محمداً عبدُه ورسولهُ، نصَره ربُّه بعد أن آذاه المشركون والمنافقون، ووعد أمته بالنصر، وخصَّ الطائفة المنصورة بالظهور على الحقِّ إلى يوم القيامة: "لا تزالُ طائفةٌ من أمتي قائمةً بأمر الله، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمرُ الله وهم ظاهرون على الناس" رواه أحمد واتفق عليه الشيخان.
أيها المسلمون: وإذا كان أثرُ العلماء الربانيين ظاهراً في تسكين الناس وتثبيتهم على الحق حين الشدائد، وفتح الآفاق لهم للعمل والدعوة والإنتاج، فثمة مرجفون يشككون الناس في عقائدهم، ويروجون للباطل بأقوالهم وكتاباتهم وأعمالهم، يساهمون في هدم القيم، ولا يأنفون من إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا، يسخرون بالدِّين، ويلمزون المطوعين من المؤمنين، وهم حريصون على تغريب المسلمين وتحطيم حواجز الولاء والبراء مع الكافرين، إلى غير ذلك من مناحي الفساد والمساهمة في إحباط الأمة وتخاذلها على مستوى الرجل والمرأة والشاب والكهل والغني والفقير.
وهؤلاء المرجفون المفسدون يجدون في فرص ضعف الأمة وتكالب الأعداء عليها وغياب الصوت القوي الفاضح لخُبثهم فرصةً لترويج باطلهم، وفي ظل هذه الظروف الحرجة كذلك يجدون من يسمع لهم ويتأثر بهم، إذ في فترات ضعف المسلمين يروجُ الفساد ويتنمّر المبطلون، وتضعفُ مناعةُ رفض الفساد، إلا من رحم الله وعصم وثبت وقاوم، وميّز بين دعاة الحق ودعاة الباطل.
إخوة الإيمان: وحين نعي المطلوب منا في أوقات الشدائد، وعَلِمْنا نماذج من الكروب التي مرت بأسلافنا، وكيف تجاوزوها، ووقفنا على نماذج من مواقف أهل العلم واليقين في تسلية المسلمين وشدِّ أزرهم، ويقابلهم أهلُ الإرجافِ والريب ومن في قلوبهم مرض.
بقي أن نقف على شيء من دروس أزمنة الشدائد، ولن نستفيد من الشدائد والنوازل الواقعة حتى نأخذ العبرة لحاضرنا ومستقبلنا.
إن من أبرز الدروس أن فترات الضعف والكروب هذه يتميز فيها الصادقون من الكاذبين، كما قال تعالى: (وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) [العنكبوت:3]، وفي الشدائد يتميز الخبيث من الطيب (مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) [آل عمران:179].
أجل، إن الانتساب للإسلام سهلٌ في أوقاتِ الرخاء؛ لكنه ليس كذلك في أوقات الضراء، وكثيرون هم الذين يعدُّون أنفسهم مع المسلمين الملتزمين في حال المغانم، ولكنهم قلةٌ حين تكون المغارم.
ومن دروس المحنة والشدائد استخراج عبودية الضراء، والتضرع لله بكشف النوازل، فهل رفعنا أكفَّ الضراعة لله صادقين خاشعين؟ وهل بكت منَّا العيون لما حلَّ ويحل بالمسلمين؟ لقد جاء في كتاب ربِّنا (فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الأنعام:43]، وفيه أيضاً: (وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ) [المؤمنون:76].
إنَّ التضرع لله افتقارٌ إليه ومسكنة وإيمانٌ بأنه وحده الكاشفُ للضراء، ويقين بقدرته على رفع البلاء، أما الذين تقسو قلوبهُم ويزيد انحرافهم حين الشدائد فما استفادوا من دروس المحن، وما عقلوا حكمة الله في فتنةِ البلاء!.
ومن دروس الشدائد أنها كاشفاتٌ لأصحابِ النفوس الكبيرة، الذين لا تزيدهم الشدائد إلا صبراً ويقيناً، أولئك يواجهون الشدة بالحزم والعزم والتفكير الإيجابي للخروج من المأزق؛ كما أنها كاشفاتٌ لضعافِ النفوس، الذين تهزهم حادثاتُ الزمن وإن صَغُرت، وتؤثر فيهم الصيحاتُ المريبةُ، وإن عُلمَ الخبثُ فيها وفيمن وراءها!.
ومن دروس الشدائد استخراج ما في النفوس من بطرٍ وأشر وكبرياء لو استمر لها النصرُ، وعاشت دائماً في السراء، وتكتمل عبودية المسلم لله في حال السراء والضراء، وفي حال العافية والبلاء، وفي صحيح السنة: "عجباً لأمر المؤمن! إن أمره كله له خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، وليس ذلك إلا للمؤمن".
فهل يحقق المسلمُ عبوديته لله في كل حال؟ أم تراه يجزعُ إن مسه الشرُّ ويهلعُ إن مسه الخير؟ وما تلك سماتُ المؤمنين المصدقين.
إخوة الإيمان: يا من أفاء اللهُ عليهم بنعمة الأمن والإيمان ارعوا ما أنتم فيه من نعمة، قيدوها بالشكر، وخذوا على أيدي السفهاء، وأطروهم على الحق أطراً، ولا ينسِكم ما أنتم فيه من نعمة ما يعيشه بعضُ إخوانكم المسلمين من بلاءٍ ومحنة، فالمؤمنون إخوة، والمسلم للمسلم كالبنيان يشدُّ بعضه بعضاً، وتذكروا أنه ما يمسُّ أحداً من المسلمين من بلاءٍ وشدة إنما هو بلاءٌ وشدةٌ على المسلمين كلهم، وما يحقّقه الله من نصرٍ لأحدٍ من المسلمين فإنما هو نصرٌ للمسلمين كلِّهم، فالأعداء جميعاً إنما يقاتلون المسلمين من أجل هذا الدين، وصدق الله: (إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ) [الممتحنة:2].
ومن الذلة والهوان أن يتخلف المسلمون عن نصرة إخوانهم المسلمين على حين يتنادى الكافرون من كل حدب للدفاع عن أبناء ملتهم؛ بل ولأهل الكفار جميعاً وإن اختلفت دياناتُهم، أما المسلمون المستضعفون فيظلون يستصرخون، وربما بُحت حناجرُهم أو انقطعت أنفاسهم، بل أزهقت أرواحهم وطردوا من بلادهم واستبيحت نساؤهم، ولم تحرك صيحاتُ النساء الأيامى وأنّات الأطفال اليتامى، وبرك الدماء، وتناثر الجثث والقتلى، كل ذلك لا يحرك ساكناً في المسلمين، ويظل الصمتُ الرهيب يخيم عليهم حتى بلغت القلوب -من المسلمين- الحناجر وزلزلوا زلزالاً شديداً.
وها هم مسلمو الشيشان يوجهون النداء لأمة المليار مسلم ويقولون: لقد حمي الوطيس، وبلغت القلوب الحناجر، واشتد الأمر، وتكالب العدو، وتواطأ الكفار علينا من كل جانب؛ الطائرات تقصف بأنواع القذائف المدمرة، والراجمات تقذف بأنواع الصواريخ، والجليد يطاول الجبال، حتى ذكرنا حال إخواننا.
ثم يقولون: أيتها الأمة: ألا يوجد فينا من لو أقسم على الله لأبره؟ ألا يوجد فينا من يرفع أكفَّ الضراعة لله فيستجيب له؟ ثم يختمون نداءهم بالقول: أيتها الأمة المسلمة، لا تنسونا من دعائكم ودعمكم، فإنما يأتي الفرج بعد الشدة.
اللهم وفقنا لهداك وثبتنا على شرعك، واجعلنا هداة مهتدين، وهيّئ لأمّتنا أمراً رشداً يُعَزُّ فيه أهل الطاعة.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي