ليست التربية بمنأى عن أمر البعثة النبوية، بل هي من أولويات قيام الدعوة التي تنهض على أكتاف الرجال، مع ملاحظة أن التربية حتى مع وجود مقام النبوة يوجد بها استثناءات التي تظهر بشرية بطفو بعض المخالفات الشرعية على السطح، ولا تلبث إلا وقد تطهر منها المجتمع …
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70-71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
فإن الله تبارك وتعالى بعث الرسل وأنزل الكتب من أجل أن تسمو الأنفس وتزكو، ومن أجل أن يتربى الناس كما أراد الله تعالى، ولذلك فإن الأنبياء صلوات الله عليهم بذلوا جهدهم وأجهدوا أنفسهم في سبيل تربية الناس وتنشئتهم التنشئة الصالحة التي تجعل من أولئك الأفراد سائرين وفق منهج الله تعالى، أو أقرب ما يكون منه؛ وذلك أن الخلل وُجد حتى في بعض الأفراد الذين تربوا على أيدي الرسل صلوات الله عليهم، غير أن الناس في ذلك الوقت كانوا سريعي العودة إلى منهج الله تعالى، ولا شك أن أفضل أتباع الرسل هم أتباع نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ومع هذا فقد وُجد شيء من الخلل في بعض أولئك الأصحاب، غير أن ذلك الخلل لم يكن منتشرًا بل كان مضيقًا عليه.
وكان أصحابه يُعَدَّلون بوسائل شتى من هذه الوسائل، منها: تطهير الأنفس بإقامة حدود الله تعالى.
ومن ذلك أيضًا: التربية الحاصلة والتوجيه من النبي صلى الله عليه وآله وسلم تارة، ومن بعض الصحابة لبعضهم البعض تارة أخرى..
الذي يهمنا من هذا كله أن سيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم حافلة بالأساليب التي تربي الناس بالأسلوب الحسن والأمثل والألين الذي ربى أولئك الرجال؛ الذين لن يوجد -إلا أن يشاء الله تعالى- جيل أو أفراد مثلهم، فهم تربوا تحت رعاية النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وتنشئوا تلك النشأة التي كان يتابع صلى الله عليه وآله وسلم تنشئتهم وتربيتهم شيئًا فشيئًا حتى آتى ذلك الثمر أُكله بأن الله تعالى.
وإن هذه الأساليب التي تُستفاد من حياته صلى الله عليه وآله وسلم يحتاج إليها كل أب، وكل مدرس، ويحتاج إليها كل مسئول يحتاج إلى هذه الأساليب إذا أراد أن يكون لزرعه ثمرة، وأن يكون لغرسه أُكُل، وأن يكون له أثر في حياته وبعد موته، فعليه أن يتأسى بهذه الأساليب التي استخدمها رسولنا صلى الله عليه وآله وسلم.
ولا شك أن هذه الأساليب منها ما هو بوحي من الله تعالى، ومنها ما هو باجتهاد منه صلى الله عليه وآله وسلم، غير أن سنته صلى الله عليه وآله وسلم- بأكملها لنا فيها الأسوة والقدوة (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) [الأحزاب: 21]، وقال تعالى: (وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى) [النجم: 3-4].
من هذه الأساليب التي يحتاج إليها كل أبٍ وكل مربٍّ وكل مدرس كما سبق، وقلنا هذا من هذه الأساليب أن تكون اليد حانية على من نتولى تربيتهم، بمعنى يجب أن يكون لليد دور في التربية، ولا أعني بهذا بالطبع أن تكون هذه اليد قاسية غليظة؛ بحيث تضرب الضرب الشديد في حال أي مخالفة تصدر من المربى ولدًا كان أو طالبًا أو غيره، بل إن هذه اليد قد تؤتي ثمارها أحيانًا بمجرد اللمس الخفيف الحاني الدافئ، فتعطي هذه اللمسة أثرها فيمن تربيه، وتريد توجيهه ونصحه وتريد تعليمه، وأحيانًا قد لا يجدي إلا شيء من القسوة، لكن ذلك الضرب سيظل ضربًا غير مبرح وسيظل ضربًا فيه شيء من العطف والحنو على من تؤدب وعلى من تعلم.
فإذا كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يشرع تعزيرًا بعد الحدود إلا عشرة أسواط فقط لا يتجاوز، فقد أرشد صلى الله عليه وآله وسلم هذه الأمة إلى أن يضع المربي عصًا في بيته بحيث يكون على مرأى من أبنائه، وكذلك المدرس لكن هذا العصا لا تستخدم إلا حيث لا ينفع الكلام حيث لا ينفع الحوار ولا تنفع الإشارة فهاهنا يمكن أن يستخدم المربي شيئًا من الضرب ولا يحل له أن يزيد على عشرة أسواط، وهذه الأسواط ليست مع قلتها بقسوة بمعنى أن يستغل الإنسان هذه العشرة الأسواط، فيعطي كل سوط في مقابل خمسين سوطًا يعني يضرب بكل قوته لا وإنما يكون فيها أيضًا شيئًا من العطف والحنان.
ألا ترى إلى عطف الله تعالى ورحمته بتلك المرأة الصالحة بزوجة ذلك العبد الصالح أيوب عليه السلام ابتلاه الله ثمانية عشر عامًا بلاءً شديدًا حتى نفر منه الناس، ولم يعد يزره أحد من الناس، وكانت امرأته تعمل من أجل أن تأتي له بلقمة العيش، وبعد طول هذه المدة قذر الناس هذه المرأة، فرفضوا أن تعمل معهم في بيوتهم قالوا: نخشى أن يصل إلينا هذا المرض فمن أين تأتي بالطعام لهذا العبد الصالح! قيل: إنها قصت شعرها وباعته وجاءت له بالطعام فقال لها من أين هذا الطعام؟ فحاولت ألا تظهر له الحقيقة فقال: والله لئن شفاني الله تعالى لأضربنك مائة سوط، يا الله مائة سوط مقابل ماذا؟! صبرها! مقابل أنها كانت تأتي له بالطعام! مقابل أنها قصت شعرها وباعته! فلا تستحق هذا، بل تستحق كل إجلال وكل احترام وكل تقدير ولكنه لما كان عبدًا صالحًا وأبى الله أن يجعل يمينه حانثًا قال الله تعالى له: (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) [ص: 44]، قال الله له خذ عصبة من الحشيش الذي يطعم للبهائم كل عود رقيق جدًا يكون طري لين أخضر فقال الله له خذ عصبة ملفوفة مائة عود من الحشيش واضربها ضربة واحدة تبر بيمنك ضربة بمائة.
لكن هذا حتى لا يحنث في يمينه لكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رخص بعشرة أسواط هذه الأسواط يكون فيها الضرب فيه شيء من الحنان والعطف؛ حتى يتوجه الولد أو المتعلم، بل إن الله تعالى رخّص بالضرب للزوج أن يضرب امرأته إذا نشزت لكن هذا الضرب يكون ضربًا غير مبرح يعني ليس الضرب الذي يكسر العظم ولا الذي يخضر الجلد، ولا الذي يسيل الدم، إنما هو ضرب فيه شيء من الحنان والعطف والتوجيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل» هنا أثر في عبد الله بن عمر رضي الله عنهما لمس يد النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأن هنالك من الناس من الصحابة رضي الله عنهم كثير منهم ربما سمعوا الكلام وربما لا يحفظون لأنه غير مستحضر لذهنه وقلبه وإلا فنجد كثيرًا من الصحابة ما رووا إلا الحديث والحديثين والثلاثة والأربعة والعشرة، لكن عبد الله بن عمر أكثر من الرواية عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم كل ذلك؟ لأنه استفاد من توجيهاته صلى الله عليه وآله وسلم وكان متيقظًا واستفاد من هذه النصيحة غاية النفع.
فاليد لها دور في التربية والتوجيه كما في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: «ما من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أحد أكثر حديثاً عنه مني، إلا كان من عبد الله بن عمرو، فإنه كان يكتب ولا أكتب».
وهذا أسلوب نبوي بل هو توجيه رباني وجه الله تعالى به الأزواج في حال نشوز الزوجات، فتارة يكون التعامل بحنان ولطف، وتارة يكون فيه التعامل فيه شيء من القسوة، لكن هذه القسوة لا يجوز أن تبلغ ذروتها؛ لأن هذا ليس هو التعامل وليس هو الأسلوب الذي يربي الأبناء أو التلاميذ.
أحيانًا أيضًا من الأساليب النبوية في التعامل مع الآخرين في حال تربيتهم أنه صلى الله عليه وآله وسلم في حال تربيتهم إذا أراد أن يحفّز المربى والموجَّه إلى عمل ما يستحثه ويشحذ همته من أجل أن يؤتي جهده الثمرة المرجوة، كان صلى الله عليه وآله وسلم يتعامل مع هؤلاء بشيء من المال حتى يعطي هذا الإنسان الثمرة المرجوة، فمثلاً المدرس يمكن أن يشجع الطلبة بشيء من الجوائز المالية أو العينية، وكذلك الأب يمكنه أن يربي أبناءه بشيء من هذه الوسائل فيعطي للفائز شيئًا من المال شيئًا من الجوائز العينية وما شابه ذلك كي يتقدم على أقرانه وعلى إخوانه وكي يكون متميزًا، فهنا نجد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا باشر معركة من المعارك قال: «… من قتل قتيلاً له عليه بينة فله سَلَبه…» من السيف من الخيل من الذهب من الفضة مما شابه ذلك.
ولهذا كان الصحابة رضي الله عنهم يتنافسون في الإكثار من القتل للمشركين حتى ربما اختصم اثنان عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذا يقول: أنا قتلته وذاك يقول: أنا قتلته حتى يأتي من يشهد فيقول: أشهد أن فلانًا هو الذي باشر قتله. بل أحيانًا نجد في سيرته صلى الله عليه وآله وسلم أنه ربما جاء إليه أعرابي -والأعراب البدو في الغالب التربية عندهم فيها كثير من القصور إلى يومنا هذا، فتجد أن البدوي فيه شيء من الغلظة والجلافة في كلامه وفي تعامله- جاء يومًا رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا محمد ما قال يا رسول الله ولا قال: يا أبا القاسم وإنما قال: بهذه الجفاوة يا محمد أعطني من مال الله ليس من مالك ولا من مال أبيك، يا لطيف!!
فهمَّ الصحابة رضي الله عنهم بقتله، قال صلى الله عليه وآله وسلم: اتركوه، ثم أخذه إلى بيته صلى الله عليه وآله وسلم، ثم أعطاه شيئًا من المال، لم يغضب لنفسه، وما انتصر لنفسه، ولم يقل: اسجنوه، ولم يقل: عاقبوه، بل أدخله إلى البيت وأعطاه شيئًا من المال، وسأله: «هل رضيت»؟ قال: لا ما رضيت، زاده رضيت؟ قال: لا، ما رضيت، وأعطاه حتى رضي، قال له هل رضيت الآن؟ قال: نعم، جزاك الله من أهل وعشيرة خيرًا، قال له صلى الله عليه وآله وسلم: «اخرج ثم قل لأصحابي ما قلته الآن، فإنهم قد وجدوا في أنفسهم عليك»، يعني يريدون أن يؤذوك، يكسروا رقبتك، فخرج الرجل ومعه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثم قال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: هل رضيتَ يا أعرابي؟ قال: نعم جزاك الله من عشيرة وأهل خيرًا فسكنت أنفس الصحابة رضي الله عنهم.
ثم قال صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه: أتدرون ما مثلي ومثلكم ومثله؟ قالوا: لا. قال: «مثلي ومثلكم ومثله كمثل رجل كانت له دابة فشردت» فصار الناس يجرون وراءها أيش يريدون؟ يمسكوها فكلما التفت الدابة إلى الخلف رأت خلفها مظاهرة فازدادت جريًا تقول: نحن السابقون وأنتم اللاحقون.
«فقال الرجل للناس: اتركوني ودابتي، فأخذ لها شيئًا من حشيش الأرض، ثم أشار إليها بيده فتراجعت فأكلت الحشيش فأمسكها بيده، فهذا مثلي ومثلكم ومثله»، يعني شبه الرجل هذا بالدابة وشبه نفسه صلى الله عليه وآله وسلم بصاحبها وشبّه الناس بالمتظاهرين، هؤلاء فقال صلى الله عليه وآله وسلم: لو تركتكم والرجل لارتد عن دين الله تعالى يعني هذا يضرب وهذا يصيح وهذا يصفع ولكن بشيء من حطام الدنيا رضي الرجل، ولعله أن يتربى ولا يعود لمثل هذا العمل مرة أخرى فالمال أحيانًا له دوره في التربية.
ولهذا لا بأس أن يستخدم الأب هذا الأسلوب وكذلك المدرس والمعلم ويستخدمه كل من خاض في مجال التربية، فقد استخدمه صلى الله عليه وآله وسلم من الأساليب النافعة أيضًا في التربية الإغضاء عن الأخطاء السابقة وعدم تردادها وذكرها؛ لأن هذا الأسلوب أسلوب منفر أسلوب يؤلم القلب ويورث الحسرة في القلب ويجرح القلب، ويجعل الإنسان غير قابل للنصح بعد ذلك إلا أن يشاء الله تبارك وتعالى بمعنى أن الإنسان إذا أخطأ فعلى المربي أن يغض الطرف عن هذا الخطأ إذا شعر أن صاحب الذنب قد ندم، أو حاول أن يصلح نفسه يستشف هذا الأسلوب من أسلوبه صلى الله عليه وآله وسلم متى هذا في كثير من الغزوات بل ربما أحيانًا يثني النبي صلى الله عليه وآله وسلم على من حصل منه شيء يسير فمثلاً في غزوة حنين نجد أن معظم من شارك في هذه الغزوة تراجع بعد بدء المعركة مباشرة.
وهذا خطر عظيم بل ترك صلى الله عليه وآله وسلم ولم يلتف حوله إلا نزر يسير على أعلى الروايات لم يبلغوا عشرين رجلاً من اثني عشر ألفًا وجرفهم سيل المتراجعين من المعركة بل في بداية المعركة بقي وحيدًا صلى الله عليه وآله وسلم ما عنده إلا رجلان ممسكان بزمام ناقته وهو وحده يقول: «أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب»، ويستحث حصانه وبغلته من أجل أن تتقدم إلى نحور الأعداء غير أن من الصحابة من يكبح جماحها وهو يرفع صوته صلى الله عليه وآله وسلم إظهارًا للشجاعة التي أعطاه الله تعالى إياها كأنه يقول: للمشركين هاأنذا لم أتراجع مع الناس ولو بقيت وحيدًا وينادي العباس بالصحابة رضي الله عنهم فيتراجعون أسرابًا وأسرابًا.
بعد ذلك هذا الخطأ الذي ارتكبه جمهور كبير من الصحابة رضي الله عنهم ما ذكره صلى الله عليه وآله وسلم إطلاقًا بعد انتهاء المعركة، ووضعت الحرب أوزارها غض الطرف تمامًا بل إنه صلى الله عليه وآله وسلم جاءه الأنصار بالذات وقالوا: يا رسول الله -وليكن في معلوم الجميع أن الذين تراجعوا في بداية المعركة هم أولئك الذين أسلموا حديثًا من مسلمة الفتح، كانوا نحو ألفين، كانوا في بداية المتراجعين، وكانوا هم السبب في هذا الانحسار الشديد لمن وزع النبي صلى الله عليه وآله وسلم الغنائم، وزعها لهؤلاء الناس والذين ربما لم يشتركوا في المعركة. فجاء الأنصار يقولون: يا رسول! تعطي قريشًا الغنائم وسيوفنا لا تزال تقطر من دمائهم؟! ما اشتركوا في المعركة وكانوا سببًا في التراجع، ومع هذا تعطيهم الغنائم ما قال صلى الله عليه وآله وسلم وأنتم تراجعتم، لكنه صلى الله عليه وآله وسلم غضَّ الطرف تمامًا واستدعى القوم ووعظهم موعظة بليغة حتى بكت أعينهم.
قال صلى الله عليه وآله وسلم يا معشر الأنصار: «ألا ترضون أن يرجع الناس بالشاة والبعير وترجعون برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم» قالوا: رضينا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حظًا وقسمًا، شاهدنا من هذا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يذكر لهم هذا الخطأ إطلاقًا بل غض الطرف عنه لماذا؟ لأنهم قد شعروا بالخطأ الذي ارتكبوه، وهكذا المدرس والمعلم والأب له أن يستخدم هذا الأسلوب إذا وجد أن هذا الأسلوب نافعًا مع فلان من الناس أو مع هذه المجموعة دون تلك المجموعة؛ لأن هذا الأسلوب قد لا يكون نافعًا على سبيل الاطراد فأحيانًا يكون نافعًا وأحيانًا لا يكون نافعًا ينفع مع شخص ولا ينفع مع شخص آخر، ولا بد أن تضع الشيء في موضعه فالغض عن الخطأ في موضعه حكمة وتركه في موضعه من الحكمة وهكذا قل في بقية الأمور أحيانًا يطلب من الشخص مباشرة في حال الرؤيا وفي حال السماع يطلب من الإنسان أحيانًا الكف والإقلاع.
وهذا غلط في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سمع عمر بن الخطاب صلى الله عليه وآله وسلم يحلف بأبيه فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «مه يا عمر» يعني كُفّ عن هذا الكلام «من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك». فأنت مثلاً ترى التلميذ ترى العامي ترى ولدك يفعل خطأ فتقول له اسكت أقلع عن هذا كُفّ عن هذا لا تفعل هذا، وهذا أيضًا من الأساليب النافعة وأحيانًا قد ينفع كما ذكرنا من قبل أن يخاطب المخطئ في مثل هذه الأحوال باليد وبالضرب، لكن هذا الأسلوب لا يتخذ إلا في خاتمة الأمور.
ومن ذلك أن رجلا دخل المسجد يوم الجمعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب. فجعل يتخطى الناس. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اجلس فقد آذيت» يعني آذيت المسلمين وتأخرت لو كنت تريد الفضيلة وتريد الصف الأول تعال مبكرًا الساعة تسع الساعة عشر الساعة إحدى عشر لكي تجلس في الصف الأول أما أن تتخطى رقاب الناس وتأتي متأخرًا فهذا لا يجوز، فها نحن نرى أنه صلى الله عليه وآله وسلم عالج هذه القضية وربى هذا الإنسان مباشرة في حال وقوعه في هذا الغلط أحيانًا ينفع المدح.
وهذا من الأساليب الطيبة النافعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في غزوة الطائف أعطى شيئًا من الغنائم لبعض الناس فجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله أعط فلانًا فما أعطاه ثم أعاد الكلام وأعاد الكلام فقال: صلى الله عليه وآله وسلم: «إني لأعطي بعض الناس شيئًا من المال أتألف قلوبهم وأترك بعضهم ركونًا إلى إيمانهم منهم فلان بن فلان»، قال ذلك الصحابي فو الله ما أحب أن يكون لي بدلاً من هذه الكلمة حمر النعم.
يعني هذه الكلمة من النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهذا الثناء وذكر اسمي أنه ركن إلى إيماني هذه تساوي الدنيا وما عليها، وهذا في الحقيقة أسلوب نافع جدًّا أن تثني على ولدك الثناء الذي يجعله لا يطغى أن تثني على العامي على المتعلم على التلميذ بما يستحقه بين يدي زملائه وأقرانه هذا في الحقيقة يساوي شيئًا كثيرًا، ويدفعه إلى الأمام ويكون زادًا له في طيلة عمره يتفاخر بهذا الكلام الذي صدر من شيخه أو من مربيه بل إنه صلى الله عليه وآله وسلم في غزوة الأحزاب قال: «من يأتني بخبر القوم» يوم الأحزاب، قال الزبير: أنا، ثم قال: «من يأتيني بخبر القوم». قال الزبير: أنا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن لكل نبي حواريًّا وحواري الزبير»، طبعًا هذا الكلام يشرح الصدر ويثلجه ويجعل الإنسان دائمًا في تقدم ومطيع ويسمع الكلام ودائمًا يقبل النصح والتوجيه أما التوبيخ فإن الناس في الغالب جبلوا على ألا يقبلوا التوبيخ لكن قد ينفع التوبيخ من إنسان خجول مستح فيستحي على نفسه أن يوبخ مرة أخرى بين يدي الناس أو حتى كان بين يدي المربي نفسه.
والتربية بالقدوة من الأمور النافعة، فمن المهم أن يكون من يربي قدوة لمن يربي، وهذا بالطبع مأخوذ من سيرته صلى الله عليه وآله وسلم فإن حياته كلها قدوة كما قال الله تعالى (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) [الأحزاب:21]، لكن من أبرز ذلك أنه صلى الله عليه وآله وسلم في غزوة الحديبية أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه فقال: «انحروا الهدي واحلقوا» قال: فوالله ما قام رجل منهم رجاء أن يحدث الله أمرًا، فلما لم يقم أحد منهم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل على أم سلمة فقال: ما لقيت من الناس قالت أم سلمة: فقال ما لقيت من الناس قالت أم سلمة: أو تحب ذاك، اخرج ولا تكلمن أحدًا منهم كلمة حتى تنحر بدنك وتدعو حالقك فقام النبي صلى الله عليه وسلم فخرج ولم يكلم أحدًا منهم حتى نحر بدنه ثم دعا حالقه فحلقه فلما رأى ذلك الناس جعل بعضهم يحلق بعضًا حتى كاد بعضهم يقتل بعضًا …».
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي