إن من أعظم النِّعم على العبد انشراح صدره، وسعادة قلبه، وراحة بالِه، وهذه المنزلة لا يصلها إلا الذين قَوِيَتْ بالله صلتُهم، وتعلقت به قلوبهم، قال الله: (الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآَبٍ) [الرعد:29].
الحمد لله المتفرد باسمه الأسمى، والمختص بالملك الأعز الأحمى، الذي ليس من دونه منتهى ولا ورائه مرمى، الظاهر لا تخيلاً ووهمًا، الباطن تقدسًا لا عدمًا، وسع كل شيء رحمة وعلمًا، وأسبغ على أوليائه نعما عُما.
وبعث فيهم رسولاً من أنفسهم أنفثهم عربًا وعجمًا، وأذكاهم محتدًا ومنما، وأشدهم بهم رأفة ورحمة، حاشاه ربه عيبًا ووصمًا، وذكاه روحًا وجسمًا، وآتاه حكمة وحكمًا، فآمن به وصدقه من جعل الله له في مغنم السعادة قسمًا، وكذّب به وصدف عنه من كتب الله عليه الشقاء حتمًا، ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى، صلى الله عليه صلاة تنمو وتنمى، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا.
معاشر الصالحين: إن من المخالفات مُخلفات، وللذنوب نُدوب، وللإعراض أَعراض وأمراض؛ وإن البعيد عن الله لا يمكن أبدا أن ينعم بحياة ولا أن يلتذ بمتاع، وإن بدا على ظاهره النعيم فإن بباطنه نار مستعرة لا تنطفئ أبدا، وحكم الإله وقضى: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا * وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) [طه:124 : 125].
قال صاحب التحرير والتنوير: إذ رتب على الإعراض عن هدي الله اختلال حاله في الدنيا والآخرة، فالمعيشة مراد بها مدة المعيشة -أي مدة الحياة-، والضنك هو الضيق، يقال: مكان ضنك أي ضيق، ومنه قول عنترة:
إنْ يلحقوا اكرُرْ وإنْ يستلحِمُوا *** أشْدُدْ وإنْ نزلوا بضنْكٍ أَنزلِ
أي إن نزلوا بمكان ضيق.
ثم يقول -رحمه الله-: والمعنى أن مجامع همه ومطامح نظره تكون إلى التحيل في إيجاد الأسباب والوسائل لمطالبه، فهو متهالك على الازدياد، خائف على الانتقاص، غير ملتفت إلى الكمالات، ولا مأنوس بما يسعى إليه من الفضائل، يجعله الله في تلك الحالة وهو لا يشعر، وبعضهم يبدو للناس في حالة حسنة ورفاهية عيش، ولكن نفسه غير مطمئنة.
وجعل الله عقابه يوم الحشر أن يكون أعمى؛ تمثيلا لحالته الحسية يومئذ بحالته المعنوية في الدنيا، وهي حالة عدم النظر في وسائل الهدى والنجاة. انتهى كلامه -رحمه الله-.
ويقول الإمام الفخر الرازي -رحمه الله-: واعلم أن الضيق المتوعد به إما أن يكون في الدنيا، أو في القبر، أو في الآخرة، أو في الدين، أو في كل ذلك، أو أكثره.
وقد يسأل سائل: ما المقصود بالضيق في الدين؟ فيجيبه عبدالله بن عباس -رضي الله عنهما- بقوله: المعيشة الضنك هي أن تضيق عليه أبواب الخير فلا يهتدي لشيء منها.
سئل الإمام الشبلي -رحمه الله- عن قوله -صلى الله عليه وسلم-: إذا رأيتم أهل البلاء فاسألوا الله العافية، فقال: أهل البلاء هم أهل الغفلات عن الله، فعقوبتهم أن يردهم الله إلى أنفسهم.
وأي معيشة أضيق وأشد من أن يرد الإنسان إلى نفسه، يقول الإمام ابن كثير -رحمه الله- في قوله تعالى: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا)، قال: أي: ضنكا في الدنيا فلا طمأنينة ولا انشراح لصدره؛ بل صدره ضيق حرج لضلاله، وإن تنعم ظاهره ولبس ما شاء وأكل ما شاء وسكن حيث شاء فإن قلبه ما لم يخلص إلى اليقين والهدى فهو في قلق وحيرة وشك، فلا يزال في ريبه يتردد فهذا من ضنك المعيشة. انتهى كلامه -رحمه الله-.
أيها الأحباب: إننا إذا بحثنا اليوم في أدوائنا وأمراضنا وجدنا أن أكثرها انتشارا وأكبرها ضررا وأشدها فتكا وخطراً مرض الضيق والاكتئاب، لا تكاد تجد أحداً نجا منه إلا من سلمه الله ونجاه.
ولذلك مظاهر وله تجليات، فهذه الخصومات والعداوات والتطاحنات، وهذه الخمور والمخدرات التي غزت حتى مدارسنا فلم يسلم منها أبناؤنا وبناتنا؛ وهذه الانتحارات، وهذه الجرائم المروعة من قتل للآباء والأمهات والإخوان والأخوات؛ انتشر الهمّ، وسيطر الغمّ، حتى أصبح الواحد منا لا يتمتع بشيء أبداً، غضبه أقرب إليه، وشتمه أسرع إليه، انظر ذلك في معاملتنا وطرقاتنا من سب وشتم وصراخ وغضب.
المال موجود، والانشراح مفقود، الدار والسيارة، والنفس مريضة محتارة، الزوجة والأولاد، والعبد في واد والسعادة في واد، فما هو الكنز المفقود؟ إنه الانشراح! انشراح الصدر، وجمع الأمر، وانبلاج الفجر، وما أعظمها من مِنَّة! وما أجلَّها من عَطِيَّة!.
إذا حرم العبد انشراح الصدر تحول قصره إلى قبر، وتحول ماله إلى ملل، واكتسى ثوب السواد، وذاق طعم البعاد، وهجره الرقاد، ولم ير -لقصر نظره- نجاته إلا في كأس من الخمر يعاقرها، أو بغي يواقعها.
يقول الإمام القاسمي -رحمه الله- في محاسن التأويل، نقلا عن أحد الأئمة: إننا نرى أمام أعيننا بعضا من الناس قد رزقوا صحة عظيمة، وثروة جسيمة، وتهذبوا بأنواع العلوم والمعارف، ولكنهم كثيرو الضجر، شديدو الحيرة، لا يكادون يشعرون بالراحة، ولا يلتذون بملذة، كأن لهم في لذة ألماً، وبإزاء كل فرح ترحاً، يحسّون بكآبة قد رانت على صدورهم، فلا يعلمون سببها، ولا يعرفون موجبها، كآبة لا تزايلهم إلا بزوال عقولهم عنهم بكأس من الرحيق، فلذلك تراهم شديدي الكلف به، كثيري التحرق لفقدانه، لأنه دواؤهم الوحيد.
يقول الإمام القاسمي معلقا: أما يدلنا هذا الضجر السريّ على أن النفس تائقة لأمر ما، إن غاب على الإنسان علمه، فقد دله عليه أثره وإن ذلك الأمر ليس هو صحة البدن، ولا وفرة المال، ولا كثرة البنين، ولا سكنى القصور، ولا أكل الصنوف، ولا سماع العيدان، ولا مغازلة الغيد؛ بل هو أمر آخر ما هذه الملاذ بالنسبة له إلا هباء، ولا الأكوان بجانبه إلا فناءً. انتهى كلامه -رحمه الله-.
ما هو هذا الأمر أيها الأحباب؟ إنه انشراح الصدر، وكيف نصل إلى هذا المقام الرضي، والمنزل السني؟ كيف نحصل على هذه المنحة الربانية لتتحول حياتنا إلى نعيم، ولنعرج إلى فردوس الإيمان والأمان قبل العروج إلى فردوس الجنان؟ وقد قال أحد السلف: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة.
إنه انشراح الصدر، وما أدراكم ما انشراح الصدر؟ نعمة طلبها موسى -عليه السلام-: (قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي) [طه:25]، وامتَنَّ الله على سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم-: (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) [الشرح:1]، وجعلها الله دليل الهداية وهبة الإيمان: (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ) [الأنعام:125].
والهم والحزن -أيها الأحباب- نوعان: الأول: حزن وهمٌّ ينتج عن التفريط في القيام بحقوق الله، أو الحزن والهم على التورط في ارتكاب الذنوب، والحزن والهم على اضطهاد المسلمين كما هو حاصل اليوم في بلاد الشام من ظلم ومن مناظر تفتت الأكباد، ومن مكر وتواطؤ وكيد وخداع، ومن خذلان من المسلمين لإخوانهم في الشام وتركهم لقمة سائغة للظالمين البغاة الحاقدين.
ولكن أهل الشام -إن شاء الله- سينتصرون، وسيمكن لهم، وسينتقم الله من الظالم وأعوانه شاء من شاء وأبى من أبى؛ لأن الأمر أمر الله وإذا أراد الله شيئا فلن يستطيع مَن في الكون رده ولا معارضته، (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) [يوسف:21]. وهذا الحزن محمود، إذا لم يصل بصاحبه إلى القنوط من رحمة الله.
والنوع الثاني حزن وهمٌّ ناتج عن الابتلاء بأمر من أمور الدنيا مثل الخوف أو الجوع أو الفقر أو الموت أو المرض أو الخسارة في المال أو ضياع المنصب والرئاسة او ما شابه ذلك، وهذا النوع من الحزن والهم الذي يصاب به العبد المسلم لا تكفر به الخطايا إلا إذا صبر على ذلك الابتلاء، لقوله -تعالى-: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) [البقرة:155-157].
قلنا: إن من أعظم النِّعم على العبد انشراح صدره، وسعادة قلبه، وراحة بالِه، وهذه المنزلة لا يصلها إلا الذين قَوِيَتْ بالله صلتُهم، وتعلقت به قلوبهم، قال الله: (الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآَبٍ) [الرعد:29].
إذاً؛ فكيف نصل إلى هذا المقام؟ وما هي الأسباب التي تؤدي بنا إلى انشراح الصدر حتى نغادر عالم القلق والضيق والاكتئاب؟ وحتى ندخل جنة الدنيا التي من لم يدخلها لن يدخل جنة الآخرة؟ أول هذه الأسباب وأجلها وأعظمها توحيد الله.
قال ابن القيم -رحمه الله-: فأعظم أسباب انشراح الصدر التوحيد، وعلى حسب كماله وقوته وزيادته يكون انشراح الصدر صاحبه، قال تعالى: (أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ) [الزمر:22]، وقال تعالى (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ).
وقال أيضا -رحمه الله-: والإخلاص والتوحيد شجرة في القلب، فروعها الأعمال، وثمرها طيب الحياة في الدنيا والنعيم المقيم في الآخرة، وكما أن ثمار الجنة لا مقطوعة ولا ممنوعة فثمرة التوحيد والإخلاص في الدنيا كذلك، والشرك والكذب والرياء شجرة في القلب ثمرها في الدنيا الخوف والهم الغم، وضيق الصدر وظلمة القلب، وثمرها في الآخرة الزقوم والعذاب المقيم.
ولكن لماذا التوحيد؟ لأن التوحيد هو أول واجب دعا إليه الرسل جميعا، وهو أصل دعوتهم وأساسها: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) [النحل:36].
فلأجل التوحيد أرسلت الرسل، وأنزلت الكتب، وخلقت الدنيا والآخرة والجنة والنار، وبه حقت الحاقة ووقعت الواقعة، ومن أجله تنصب الموازين وتتطاير الصحف، وعلى حسبه تقسم الأنوار، (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ) [النور:40].
والتوحيد هو أعظم حق لله تعالى على عبيده، عن معاذ بن جبل -رضي الله عنه- قال، قال -صلى الله عليه وسلم-: "حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا" أخرجه البخاري. فمن حقق التوحيد دخل الجنة، ومن فعل أو اعتقد ما ينافيه ويناقضه فهو من أهل النار عياذا بالله العزيز الغفار.
وتحقيق التوحيد -أيها الأحباب- سبيل لاجتماع الأمة وتوحيد صفوفها وكلمتها، والخلل في التوحيد سبب الفرقة والتشتت، فهو الفرض الأعظم على جميع العبيد، وليس شيء من الأشياء له من الآثار الحسنة والفضائل المتنوعة مثل التوحيد؛ فإن خير الدنيا والآخرة من ثمرات هذا التوحيد وفضائله، ومغفرة الذنوب وتكفيرها من بعض فضائله وآثاره، فهو السبب الأعظم لتفريج كروبات الدنيا والآخرة ودفع عقوبتهما.
جعلني الله وإياكم ممن ذكر فنفعته الذكرى، وأخلص لله عمله سرا وجهرا، آمين، آمين. والحمد لله رب العالمين.
الحمد لله الذي أقام من شاء على طاعته، ووفق من أراد لسلوك منهجه، وقرب من قرب بفضله، وأبعد من أبعد بعدله، والصلاة والسلام على سيد الموحدين وإمام العابدين سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
معاشر الصالحين: ليس كُلُّ مَن قال لا إله إلا الله يكون موحِّداً؛ بل لابد في شهادة أن لا إله إلا الله من سبعة شروط ذكرها أهل العلم، وهي كالتالي:
أولا: العلم بمعنى لا إله إلا الله، قال تعالى: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) [محمد:19].
ثانيا: اليقين؛ أن يكون قائلها مستيقنا، فإن كان شاكا مرتابا بما تدل عليه لا تنفعه، قال تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا) [الحجرات:15].
ثالثا: القبول لما دلت عليه هذه الكلمة من عبادة الله وحده وترك عبادة ما سواه.
رابعا: الانقياد لما دلت عليه، قال تعالى: (وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى) [البقرة:256]، ومعنى يُسْلِمْ وَجْهَهُ: أي ينقاد ويخضع، والعروة الوثقى: هي لا إله إلا الله.
خامسا: الصدق، وهو أن يقول هذه الكلمة صدقا من قلبه، قال -صلى الله عليه وسلم-: "ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، صِدقا من قلبه، إلا حرمه الله على النار" أخرجه البخاري.
سادسا: الاخلاص؛ وهو تصفية العمل من جميع شوائب الشرك، قال -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله" أخرجه البخاري ومسلم.
سابعا: المحبة الكاملة لهذه الكلمة ولما تدل عليه ولأهلها العاملين بها؛ قال تعالى (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ) [البقرة:165]
وكما يجب علينا تحقيق التوحيد وتوفير شروط "لا إله إلا الله" فإنه يجب علينا كذلك أن نخاف من الشرك ونحذره بجميع أنواعه وأبوابه ومداخله كبيره وصغيره.
وإليكم -معاشر الصالحين- بعض ما ينافي التوحيد أو يخل به كما ذكر ذلك أهل العلم:
أولا: الرقى البدعية والتمائم: والرقى البدعية هي المشتملة على الطلاسم والكلام غير المفهوم والاستعانة بالجن في معرفة المرض أو فك السحر، والتمائم وهو ما يعلق على الإنسان والحيوان من خيط أو ربطة أيا كان نوعها من نحاس أو حديد أو جلد لرفع بلاء أو دفعه فهو من الشرك، قال -صلى الله عليه وسلم-: "إن الرقى والتمائم والتولة شرك" أخرجه أبو داود وابن ماجه وصححه الألباني. والتولة : شيء تصنعه النساء تتحبب به إلى أزواجهن.
ومن ذلك: تعليق ورقة أو قطعة من النحاس أو الحديد في داخل السيارة، واعتقاد أن ذلك يحفظها ويمنع عنها الشر من عين او نحوها.
ومن ذلك: وضع قطعة على شكل كف أو مرسوم فيها عين فلا يجوز وضعه حيث يعتقد فيه دفع العين والوقاية من الحسد، قال -صلى الله عليه وسلم-: "من تعلق شيئا وكل إليه" رواه الترمذي. وهذا مدخل من مداخل الشقاء والنكد والتعاسة؛ فمن تخلى الله عنه فقد خاب وخسر.
ثانيا: التبرك بالأشخاص والتمسح بهم وطلب بركتهم، أو التبرك بالأشجار والأحجار وغير ذلك، قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وهو يقبل الحجر الأسود: والله إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع! ولولا أني رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقبلك ما قبلتك. أخرجه البخاري ومسلم.
ثالثا: الذبح لغير الله، كالذبح للأولياء وللشياطين وللجن لجلب نفع او دفع ضر، فهذا من الشرك الأكبر عياذا بالله، قال -صلى الله عليه وسلم-: "مَن ذبح لغير الله فقد أشرك"، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "لعن الله من ذبح لغير الله" أخرجه مسلم.
فهذا الذي يذبح لغير الله ممتثلا أمر المشعوذين المجرمين -وما أكثرهم في مجتمعنا!- يظن أنه بعمله سيجني الراحة والسعادة، وما علم أنه إنما يجني الشقاء واللعنة عياذا بالله، قال تعالى حاكيا عن الجن (وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا) [الجن:6].
قال ابن كثير مفسرا ما ورد على لسان الجن: أي: كنا نرى أن لنا فضلاً على الإنس لأنهم كانوا يعوذون بنا إذا نزلوا وادياً أو مكاناً موحشاً من البراري وغيرها، فلما رأت الجن أن الإنس يعوذون بهم من خوفهم منهم زادوهم رهقاً، أي: خوفاً وإرهاباً وذعراً. قال قتادة: زادوهم رهقاً، أي: إثما، وازدادت الجن عليهم جراءة.
رابعا: النذر لغير الله، كأن يقول: إن قضي لي كذا وكذا سأقدم هدية ذبيحة لسيدي فلان من الأولياء والمقبورين وغيرهم، فالنذر عبادة، ولا يجوز أن تصرف لغير الله -سبحانه وتعالى-.
خامسا: الطواف بالقبور والتمسح بها، فهو من الشرك؛ لأن الطواف عبادة لا تجوز إلا لله -عز وجل-، ولا يجوز الطواف إلا حول الكعبة، ولا تجوز الصلاة إلى القبور أو السجود عليها؛ لأنها وسيلة إلى الشرك، فكيف بالصلاة لها والطواف بها؟ ولحماية التوحيد جاء النهي عن البناء على القبور وجعل القباب والمساجد عليها.
سادسا: السحر وإتيان السحرة والكهنة والمنجمين ونحوهم، السحرة مجرمون خبثاء؛ بل الأكثر من ذلك كفار، قال -تعالى-: (وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ) [البقرة:102].
وقال -صلى الله عليه وسلم-: "من أتى عرافا أو ساحرا أو كاهنا يؤمن بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد" -صلى الله عليه وسلم-، فإذا كان هذا في حق من يأتي السحرة، فما ظنكم بالسحرة؟ قال الإمام الذهبي -رحمه الله-: "الساحر لابد وأن يكفر، إذ ليس للشيطان الملعون غرض في تعليمه الإنسان السحر إلا ليشرك بالله".
سابعا: الطيرة، وهي التشاؤم في الطيور أو بيوم من الأيام، أو بشهر من الشهور، أو بشخص من الأشخاص، كل هذا لا يجوز، فالتطاير شرك كما جاء في الحديث، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "الطيرة شرك" أخرجه أبو داوود.
نجد بعض الأشخاص إذا خرج صباحا ووجد كلبا أسودَ او غرابا أسود أو ما شابه ذلك تشاءم؛ بل ربما رجع إلى بيته، فهذا لا يليق بالمؤمن الموحد المتوكل على الله الذي يعلم أن مقادير الأمور بيد الله -جل في علاه-، ومن هنا يتضح لنا أن تحقيق التوحيد يضمن لنا السعادة، وينفي عنا الضيق والاكتئاب والخوف من الأشياء.
ثامنا: التنجيم واستعمال النجوم في غير ما خلقت له، قال قتادة -رحمه الله-: خلق الله النجوم لثلاث: زينة للسماء، ورجوم للشياطين، وعلامات يهتدى؛ فمَن تأمل فيها بغير ذلك فقد أخطأ وأضاع نصيبه، وتكلف ما لا علم له به.
ومنه ما ابتلي به كثير من المسلمين اليوم من قراءة ما يسمى بالأبراج لمعرفة حظه ونصيبه ومستقبله، والمؤسف أنْ يُمكَّن لهذا الخبل في جرائدنا ومجلاتنا وقنواتنا؛ بل وتسمع برامج عن الأبراج! هذا برج الدلو وهذا برج العقرب والأخر برج السرطان! ووالله! إن هذا لهو السرطان بعينه! فإن الشرك هو سرطان الإيمان، قال الله: (قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ) [النمل:65].
تاسعا: عدم الرضا عن أقدار الله ومعارضتها والتسخط عليها، وذلك كأن يقول العبد: لماذا يارب تفعل بي كذا وكذا؟ لماذا عملت حتى يحصل لي كذا وكذا؟ وما أكثر ما نسمع مثل هذا الكلام المحرم!.
وكذلك النياحة والعويل والصراخ وشق الجيوب، قال -صلى الله عليه وسلم-: "ليس منا مَن لطم الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية" أخرجه البخاري ومسلم.
عاشرا: الرياء والسمعة وأن يريد الإنسان بعمله الدنيا، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال، قال -صلى الله عليه وسلم-: "مَن سمع سمع الله به، ومن راءى راءى الله به" أخرجه مسلم.
وعن محمود بن لبيب -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر"، قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: "الرِّيَاءُ، يَقُولُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إذَا جَزَى النَّاسَ بِأَعْمَالِهِمْ: اذْهَبُوا إلَى الَّذِينَ كُنْتُمْ تُرَاءُونَ فِي الدُّنْيَا اُنْظُرُوا هَلْ تَجِدُونَ عِنْدَهُمْ جَزَاءً" أخرجه الإمام أحمد وصححه الألباني.
وكذلك سب الدهر والزمان والأيام والشهور، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "قال الله -عز وجل-: يؤذيني ابن آدم، يسب الدهر، وأنا الدهر، بيدي الأمر أقلب الليل والنهار" أخرجه البخاري ومسلم.
فهذا الحديث يجعل المؤمن المرهف الصادق الشفاف يذوب رقة وحياء من الله، إذ كيف يتجرأ عاقل على أن يؤذي الله رب العالمين؟ وما أكثر ما نسمع اليوم عبارات سب الأيام والزمان! تجد الواحد منا متكاسلا متخاذلا لا يريد أن يعمل يعتمد على الناس فإذا لم يجد بغيته سب الزمان! وهذا من الخذلان! ولله دَرُّ الشاعر يوم يقول:
وعاجِزُ الرأيِ مضياعٌ لفرصته *** حتى إذا فات أمرٌ عاتَبَ القدَرَا
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال، قال -صلى الله عليه وسلم-: "قال الله تعالى: يؤذيني ابن أدم، يقول: يا خيبة الدهر! فلا يقولن أحدكم يا خيبة الدهر؛ فإني أنا الدهر أقلب ليله ونهاره، فإذا شئت قبضتهما" أخرجه مسلم.
ومن ذلك كذلك التسمية بعبد النبي أو عبدالحسين أو عبد الكعبة أو ما شابه ذلك، وكذلك الحلف بغير الله، كالحلف بالنبي -صلى الله عليه وسلم-، أو الأمانة أو الكعبة أو الشرف أو الطعام أو حياة فلان أو غير ذلك. قال -صلى الله عليه وسلم-: "مَن حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك" أخرجه أبو داوود وصححه الألباني.
عباد الله: والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة، لن نتغلب على أمراضنا، ولن نتخلص من كآبتنا إذا لم نحقق لا إله إلا الله بشروطها أفرادا ومجتمعات! فتحقيق التوحيد أول الخطوات نحو انشراح الصدر وتيسير الأمر، ورفعة القدر، ومن ثم وجب الاعتناء به.
وإذا كانت اليوم الدول والهيئات تنادي بالحكمة فإن أول وأعظم تجلٍّ لهذه الحكمة تحقيق التوحيد، فهذا لقمان الحكيم الذي قال الله عنه: (وَلَقَدْ آَتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ) [لقمان:12]، كان أول ما قدم لابنه من درر الحكمة دعوته إلى تحقيق التوحيد: (وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان:13].
فاللهَ اللهَ في التوحيد! فهو سبيل الخلاص، وهو سر الاختصاص.
اللهم وفقنا لتحقيق التوحيد كما ترضى لنا..
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي