الإخلاص والمخلصون

عبد الله بن فهد السلوم

عناصر الخطبة

  1. شرطا قبول العمل
  2. معنى الإخلاص
  3. معنى الرياء وجرحه للإخلاص
  4. أقوال بعض السلف في فضل الإخلاص
  5. آفات الإخلاص وعلاجها
  6. الأمور التي تُعين على الإخلاص

أيها المسلمون: إن الإخلاص شرط العمل وأساس العبادة؛ ليكون المبتغى والمقصود وجه الله وابتغاء مرضاته؛ قال تعالى: ﴿فَاعْبُدْ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (2) أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ(3)﴾ [الزمر: 2، 3]، وقال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه". رواه مسلم. 

عباد الله: وشرطا العبادة: الإخلاص والصواب، والمراد بالصواب أن يكون العمل موافقًا لما جاء به الرسول –صلى الله عليه وسلم-؛ لقول النبي –صلى الله عليه وسلم-: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد". رواه مسلم.

والمراد بالإخلاص إفراد الله بالقصد في الطاعة، وتصفيته عن ملاحظة المخلوقين، وتنقية العمل من آفات الرياء والسمعة والعجب وغيرها، والمراد بالرياء إظهار الطاعة والعبادة للناس، والتزين بها أمامهم، والرغبة في مدحهم على العبادة، وطلب المنزلة في قلوب الناس من التوقير والمدح والثناء، أو التزين في العبادة وإظهارها لطلب الدنيا من المال والرئاسة؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "إذا كان العبد مخلصًا له اجتباه ربه، فأحيا قلبه، واجتذبه إليه، فينصرف عنه ما يضاد ذلك من السوء والفحشاء، ويخاف من حصول ضد ذلك، بخلاف القلب الذي لم يخلص لله؛ فإنه في طلب وإرادة وحب مطلق، فيهوى ما يسنح له، ويتشبث بما يهواه، كالغصن أي نسيم مر بعطفه –بجانبه- أماله، فتارة تجتذبه الصور المحرمة وغير المحرمة، وتارة يجتذبه الشرف والرئاسة، فترضيه الكلمة، وتغضبه الكلمة، ويستعبده الدرهم والدينار".

ويقول ابن الجوزي -رحمه الله-: "ما أقل من يعمل لله تعالى مخلصًا؛ لأن أكثر الناس يحبون ظهور عباداتهم". ثم قال: "ولقد رأيت من الناس عجبًا، حتى من تزين بالعلم، إن رآني أمشي وحدي أنكر عليّ، وإن رآني أزور فقيرًا عظم ذلك".

فالتفتوا -إخوتي- إلى إصلاح النيات وترك التزين للخلق، ولتكن عمدتكم الاستقامة مع الحق، فبذلك صعد السلف وسعدوا -أيها الإخوة-، وسنعيش وإياكم في روضات المخلصين ومع سلفنا الصالح لنطلع على شيء من حياتهم وأخبارهم، لعل أن يكون في ذلك يقظة لقلوبنا من غفلتها، ودعوة إلى الصدق والإخلاص، قال الربيع بن خثيم: "كل ما لا يراد به وجه الله يضمحل".

ووصى الإمام أحمد ابنه قائلاً: "يا بني: انْوِ الخيرَ؛ فإنك لا تزال بخير ما نويت الخير".

وسئل حمدون القصار: "ما بال كلام السلف أنفع من كلامنا؟! قال: لأنهم تكلموا لعز الإسلام ونجاة النفوس ورضا الرحمن، ونحن نتكلم لعز النفوس وطلب الدنيا ورضا الخلق".

ودخل عبد العزيز بن محيريز -رحمه الله- حانوتًا وهو يريد أن يشتري ثوبًا، فقال رجل لصاحب الحانوت: هذا ابن محيريز، فأحسن بيعه، فغضب ابن محيريز وخرج وقال: "إنما نشتري بأموالنا، لسنا نشتري بديننا". أي إنه لا يريد -رحمه الله- أن يراعى في السعر أو يقدر من أجل دينه؛ لأنه يريد بدينه وجه الله لا الاستفادة من الناس.

وقال زبيد: "أحب أن يكون لي في كل شيء نية حتى في طعامي وشرابي".

وكان ناس من أهل المدينة يعيشون لا يدرون من أين كان معاشهم، فلما مات علي بن الحسين زين العابدين فقدوا ذلك الذي كانوا يؤتون بالليل، وكان علي بن الحسين -رحمه الله- قد وجدوا بظهره أثرًا من الجرب مما كان ينقل بالليل إلى منازل الأرامل.

قال الحسن البصري: "إن كان الرجل ليجلس المجلس فتجيئه عبرته فيردها، فإذا خشي أن تسبقه قام، وكان عبد الله بن المبارك يضع اللثام على وجهه عند قتاله في سبيل الله كي لا يعرف، وقال عنه الإمام أحمد: "ما رفع الله ابن المبارك إلا بخبيئة كانت له".

وخرج عبد الله بن المبارك غازيًا في سبيل الله، ولما رجع من غزوته إلى الرقة سأل عن شاب يقوم بحوائجه ويسمع منه الحديث، فقالوا: إنه محبوس لدين ركبه فقال ابن المبارك: كم مبلغ دينه؟! قالوا: عشرة آلاف درهم، فاستقصى عن صاحب الدين ودعاه ليلاً وأعطاه كامل المبلغ، وحلفه أن لا يخبر أحدًا ما دام عبد الله حيًا، وقال: "إذا أصبحت فأخرج الرجل من الحبس".

اللهم أخلص قلوبنا لك، واجعل أعمالنا كلها ابتغاء وجهك، ولا تجعل لأحد فيها شيئًا، ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.

الخطبة الثانية:

الحمد لله الكريم الوهاب، إليه المرجع والمآب، يقبل توبة من تاب إليه وأناب، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

أيها المسلمون: إن أمر الإخلاص عظيم، وهو مطلب جليل، أقضّ مضاجع العابدين، وأفزع حياتهم وأخافهم؛ لقول النبي –صلى الله عليه وسلم-: "ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال؟!"، قالوا: بلى، قال: "الشرك الخفي؛ يقوم الرجل فيصلي فيزيد صلاته لما يرى من نظر رجل". رواه أحمد.

وعن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن أول الناس يقضي يوم القيامة عليه رجل استشهد، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟! قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، قال: كذبت، ولكنك قاتلت لأن يقال: جريء، فقد قيل، ثم أُمر به فسُحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل تعلم العلم وعلمه، وقرأ القرآن، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال: فما فعلت فيها؟! قال: تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت، ولكنك تعلمت العلم ليقال: عالم، وقرأت القرآن ليقال: هو قارئ، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟! قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك، قال: كذبت، ولكن فعلت ليقال: هو جواد، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه ثم ألقي في النار". رواه مسلم.

الله أكبر! كم من عمل كبير ضيعته النيات، فصار وبالاً على صاحبه، فسُحب على وجهه في النار؛ لأنه لم يقصد به وجه الله، وكم من عمل صغير سهل بسيط رفع الله به صاحبه إلى الجنان بسبب النية وحسن القصد؛ لأن الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى، قال الربيع بن خثيم لأصحابه: "تدرون ما الداء والدواء والشفاء؟! قالوا: لا، قال: الداء الذنوب والدواء الاستغفار والشفاء أن تتوب فلا تعود". فكانت أم الربيع تناديه فتقول: "يا بني يا ربيع: ألا تنام؟! فيقول: "يا أماه: من جنّ عليه الليل وهو يخاف البيات حق له أن لا ينام". قال: فلما بلغ ورأت ما يلقى من البكاء والسهر نادته فقالت: يا بني: لعلك قتلت قتيلاً؟! فقال: "نعم يا والدة قتلت قتيلاً". فقالت: ومن هذا القتيل يا بني؟! نتحمل على أهله فيعفوك، والله لو علموا ما تلقى من البكاء والسهر لقد رحموك؟! فيقول: "يا والدتي: هي نفسي".

وقالت ابنة الربيع بن خثيم: يا أبتاه: ما لي أرى الناس ينامون ولا تنام؟! قال: "إن جهنم لا تدعني أنام".

وقال محمد بن واسع: "إن كان الرجل ليبكي عشرين سنة وامرأته معه لا تعلم به".

وقال الخريبي: "كانوا يستحبون أن يكون للرجل خبيئة من عمل صالح لا تعلم به زوجته ولا غيرها".

وقال الشافعي: "لوددت أن الخلق يتعلمون مني ولا ينسب إليّ منه شيء".

وقال أيوب السختياني: "والله ما صدق عبد إلا سره أن لا يشعر بمكانه".

وغلب أيوب البكاء يومًا فقال: "الشيخ إذا كبر مج، وغلبه فوه، فوضع يده على فيه وقال: الزكمة ربما عرضت".

أيها المسلمون: قال ابن القيم: "ومن آفات الإخلاص: رؤية العمل وملاحظته، فيرى الرجل عمله ويعظم في نفسه ويعجب بنفسه، قال رسول الأمة –صلى الله عليه وسلم-: "لو لم تذنبوا خفت عليكم ما هو أكثر من ذلك، العجب". فالمعجب يعتز بنفسه أو يثني عليها وينسى نعمة الله عليه: ﴿وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ﴾ [النحل: 53]، وعلاج ذلك مشاهدته لمنة الله عليه وفضله وتوفيقه، وأنه بالله لا بنفسه؛ قال تعالى: (وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ) [النور: 21].

والآفة الثانية في الإخلاص: هي طلب العوض والمقابل على الطاعة، وعلاج ذلك يكون بعلم العبد أنه عبد محض لربه، والعبد لا يستحق على خدمته لسيده عوضًا ولا أجرة، فما يناله من سيده من الأجر والثواب تفضُّل منه وإحسان إليه.

والآفة الثالثة: رضاه بعمله وسكونه إليه، وعلاج ذلك أمران:

الأول: مطالعة عيوبه وآفاته وتقصيره وما فيه من حظ النفس والشيطان، فقلَّ عمل من الأعمال إلا للشيطان فيه نصيب وإن قلَّ، وللنفس فيه حظ؛ فقد سئل النبي –صلى الله عليه وسلم- عن الالتفات في الصلاة فقال: "هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد". فهذا التفات طرفه أو لحظه، فكيف التفات قلبه إلى ما سوى الله؟! هذا أعظم نصيب الشيطان من العبودية.

وأما حظ النفس مثل شعور العبد بالميزة على غيره، وطلب المدح، والخجل من الناس إذا قصّر في عبادة.

العلاج الثاني لرضا العبد بعمله وسكونه إليه: هو العلم بما يستحق الرب -جل جلاله- من حقوق العبودية وشروطها وآدابها، والعبد أضعف وأعجز وأقل من أن يوفيها فكيف يرضى عن نفسه؟! وكيف لا يستحي من مقابلة الله بعمله؟! فعليه أن يسيء الظن بنفسه وعمله، ومن لم يتهم نفسه على دوام الأوقات فهو مغرور جاهل؛ لأنها مأوى كل سوء وعجز وضعف وهوى وفتنة.

عباد الله: والذي يعين على الإخلاص بعد توفيق الله أمور؛ وهي:

1 – أن يجعل العبد ربَّه نصب عينيه، فيقصد بعمله وجه الله ويلجأ دائمًا إلى ربه ويسأله ويكثر من قول: يا حي يا قيوم: برحمتك أستغيث.

2 – أن نعلم أن الناس لا ينفعون ولا يضرون، فعلينا أن نقطع اعتبارهم وأخذ حسابهم في أية عبادة.

3 – أن يحذر العبد المسكين من نفسه الأمارة بالسوء التي تريد العلو والمباهاة والتقديم والتكريم والمدح وغلبة الرأي، وتريد احتقار الآخرين والتعالي عليهم والسخرية منهم.

4 – أن نحذر من الشيطان الرجيم أن لا يأتينا من أبواب نأمنها، كعند الكلام والمفاخرة، أو عند الغيرة على الدين، أو عند إعجاب الناس وثنائهم.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾ [البينة: 5].

اللهم يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام، يا بديع السموات والأرض: برحمتك نستغيث ومن عذابك نستجير، اللهم اشرح صدورنا للإسلام، ونورها باليقين والإيمان، اللهم إنا نعوذ بك أن نشرك بك شيئًا ونحن نعلمه، ونستغفرك لما لا نعلمه، اللهم إنا نعوذ بك من الغفلة والذنوب، ونسألك عفوك ورضوانك ورحمتك التي وسعت كل شيء يا أرحم الراحمين ويا خير الغافرين.

اللهم إنا نسألك يا الله باسمك الأعظم، أن تحسن ختامنا، وتتوفانا وأنت راضٍ عنَّا، وأن لا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين؛ فإننا الفقراء والضعفاء المذنبون الغافلون المساكين، اللهم لا تعذب قلوبًا توجهت إليك، ولا أعينًا بكت من خشيتك، ولا أرجلاً مشت في سبيلك، ولا أيادي امتدت لمرضاتك، ولا ألسنًا لهجت بذكرك وتلاوة كتابك، ولا آذانًا أصغت بسماع دينك، ولا تخيب نفوسًا تعرضت لرحمتك وغفرانك يا أرحم الراحمين ويا أكرم الأكرمين.

اللهم لا تردنا خائبين، ولا عن باب رحمتك مطرودين، اللهم ارزقنا إخلاصًا يباعدنا عن معاصيك ويقربنا إليك، اللهم انصر دينك، وأعلِ كلمتك، وأعزَّ أولياءك، وارفع رايتهم، وتولّ أمرهم، وفرج همهم، ونفس كربهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم.

اللهم عليك بالكفرة ومن شايعهم، اللهم لا ترفع لهم راية، ولا تحقق لهم غاية، واجعلهم لمن بعدهم آية، اللهم شتت شملهم، وفرق جمعهم، وخالف بين كلمتهم، واجعل تدبيرهم تدميرًا عليهم يا خير الناصرين.

اللهم أصلح نياتنا وذرياتنا والمسلمين ومجتمعاتهم، وطهرها من كل فحشاء ومنكر، اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد، يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر يا سميع الدعاء، اللهم آمنا في دورنا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا.

عباد الله: صلوا وسلموا على نبيكم؛ امتثالاً لأمر ربكم: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً﴾ [الأحزاب: 56].  


تم تحميل المحتوى من موقع