هكذا سُلِط أبو جهل على نفسه وعلى من معه من المشركين؛ ليحق عليهم قول الله تعالى ، ولينفذ فيهم أمره ، وليصيبهم قدره الذي قدره عليهم ، إنها آية وأي آية !!
الحمد لله رب العالمين ؛ كتب النصر والعز للمؤمنين ، وقضى بالذل والهوان على الكافرين ، لا يقع شيء إلا بعلمه ، ولا يقضى شأن إلا بأمره ، وهو اللطيف الخبير ، أحمده حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ويرضى ، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك ؛ نصر في بدر أهل الضعف والقلة ، ودحر ذوي الشوكة والكثرة (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [آل عمران:123] وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ؛ أعظم الناس خشية لله تعالى ، وأشدهم خوفا منه ، وأكثرهم رجاء فيه ، وأصدقهم دعاء له ، كان في بدر رافعا يديه يهتف بربه فيقول " اللهم أنجز لي ما وعدتني ، اللهم آت ما وعدتني ، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض" صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ؛ هاجروا من ديارهم ، وفارقوا أولادهم ؛ وجاهدوا في سبيل الله تعالى ؛ إعزازا لدينه سبحانه ، وإعلاء لكلمته، وطلبا لمرضاته ، فرضي الله تعالى عنهم وأرضاهم ، وجعل دار الخلد مأواهم ، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد :
فاتقوا الله ربكم ، واغتنموا ما بقي من شهركم ، واعلموا أن أعماركم مستودع أعمالكم ، وأنها مثل رمضان سواء بسواء ، تبتدئ بالتكليف كما يبدأ الشهر بإهلال هلاله، ثم تتوسط كما يتوسط الشهر ، ثم تنتهي بالموت كما ينتهي الشهر بخروجه ، ولا يبقى للعبد إلا ما عمل فيه (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [الزَّلزلة:8].
أيها الناس : عظمة الله تعالى فوق كل عظمة ، وقدرته سبحانه على كل قدرة ، وقد أحاط بكل شيء علما ، وجعل لكل شيء قدرا ، يقضي القضاء فيظن الخلق أنه شر لهم فإذا في طياته خيرا كثيرا لم يدركوه ، وحادثة الإفك التي أوذي فيها أفاضل هذه الأمة: رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه الصديق وابنته عائشة رضي الله عنهما كان فيها من الخير ما حكاه الله تعالى بقوله (لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [النور:11].
وهكذا أيضا في فرض الجهاد مع ما فيه من الرهق والشدة ، والتضحية بالمال والنفس (كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) [البقرة:216].
ووقع ذلك عمليا في أول مواجهة بين أهل الشرك وأهل الإيمان ؛ إذ بلغ النبي صلى الله عليه وسلم مسير قافلة لقريش يقودها أبو سفيان قد قدمت من الشام تقصد مكة ، وتمر بقرب المدينة ، فشاور عليه الصلاة والسلام أصحابه رضي الله عنهم فيها كما روى أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه فقال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن بالمدينة: "إني أخبرت عن عير أبي سفيان أنها مقبلة فهل لكم أن نخرج قبل هذا العير لعل الله يغنمناها فقلنا: نعم فانتدب عليه الصلاة والسلام الناس للخروج فخف بعضهم وثقل بعض ؛ وذلك أنهم لم يظنوا أن رسول الله يلقى حربا" .
علم قائد القافلة أبو سفيان بمسير المسلمين إليه لأخذ قافلته فأرسل رسولا إلى أهل مكة يستنجدهم ، فبلغ رسول أبي سفيان مكة ، وأتى الإبطح مستصرخا مستنفرا ، وعمل ما يعمله النذير بخطر وشيك ؛ فوقف على راحلته ، وحول رحله وشق قميصه ، وجدع بعيره ، يصيح بأعلى صوته: "يا معشر قريش ، اللطيمة اللطيمة ، أموالكم مع أبي سفيان وتجارتكم قد عرض لها محمد وأصحابه فالغوث الغوث" .
وعلى إثر هذا الإنذار خرجت قريش مسرعة لإنقاذ عيرها ورجالها ، واستعادة هيبتها ، والنيل من المسلمين ، يقودهم أبو جهل بن هشام.
ولكن أبا سفيان رضي الله عنه كان من دهاة العرب ، وأفذاذ الرجال ؛ إذ غير طريق القافلة ، ونجا بها من قبضة المسلمين ، وأرسل إلى قريش يطمئنهم على عيرهم ، ويطلب منهم العودة إلى مكة. وهنا تخلف مقصود كلا الطائفتين ؛ فالمسلمون خرجوا لطلب العير ، والعير فاتتهم ، والمشركون خرجوا لنجدتها ، وقد نجت من قبضة المسلمين ، وفي كل الحسابات البشرية أن كل طائفة ترجع إلى بلدها ، ولا سيما مع عدم وجود التكافؤ بين الفريقين ، والمسلمون ما خرجوا للقتال وإنما للعير فحسب. ولكن الرب جلاله له تدبير آخر غير تدبير البشر وتصوراتهم ؛ فسلط سبحانه وتعالى أبا جهل على المشركين وهو قائدهم في ذلك الخروج فرفض رجوعهم رغم نجاة القافلة ، ورغم رجوع بعض القبائل كبني زهرة لما زال سبب خروجهم من مكة ، وما إصرار أبي جهل على المضي في هذا السبيل المجهول إلا ليحقق بزعمه مجدا لقريش أمام قبائل العرب ، وليستعيد هيبة أهل مكة التي تضعضعت بهجرة المسلمين إلى المدينة ، فقال معللا عدم رجوعهم إلى مكة " والله لا نرجع حتى نأتي بدرا - وكانت بدر سوقا من أسواق العرب - فنقيم بها ثلاثا ، فنطعم بها الطعام ، وننحر بها الجزر ، ونسقي بها الخمر ، وتعزف علينا القيان ، وتسمع جميع العرب بمخرجنا وأن محمدا لم يصب العير ، وأنا قد أعضضناه ، فلا يزالون يهابوننا بعدها أبدا" .
هكذا سُلِط أبو جهل على نفسه وعلى من معه من المشركين؛ ليحق عليهم قول الله تعالى ، ولينفذ فيهم أمره ، وليصيبهم قدره الذي قدره عليهم ، إنها آية وأي آية !!
وأما المسلمون فإن النبي صلى الله عليه وسلم استشارهم بعد أن نزل جبريل عليه السلام يخبره بأن الله تعالى قد وعده إحدى الطائفتين وقال لهم : "ما تقولون ؟ إن القوم خرجوا من مكة على كل صعب وذلول ، فالعير أحب إليكم أم النفير ؟ قالوا: بل العير أحب إلينا من لقاء العدو ، فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم ردد عليهم فقال: إن العير قد مضت إلى ساحل البحر ، وهذا أبو جهل قد أقبل ، فقالوا: يا رسول الله ، عليك بالعير ودع العدو ، فقام عند غضب النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر وعمر فقالا فأحسنا ، ثم قام سعد بن عبادة فقال: انظر أمرك فوالله لو سرت إلى عدن ما تخلف عنك رجل من الأنصار" ثم تتابع الصحابة رضي الله عنهم على ما أراد النبي صلى الله عليه وسلم من مواجهة المشركين.
وقد عرض القرآن لهذا الفصل العظيم من تدبير الله تعالى للمواجهة بين أهل الحق وأهل الباطل ، وتهيئة أسباب ذلك ، والمجادلة التي جرت بين أهل الإيمان وهم في بادئ الأمر لا يريدون إلا العير ، ولا يريدون منازلة جيش لم يتهيئوا لمنازلته، (كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ المُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ يُجَادِلُونَكَ فِي الحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى المَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الكَافِرِينَ لِيُحِقَّ الحَقَّ وَيُبْطِلَ البَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ المُجْرِمُونَ) [الأنفال:5-8].
لقد أراد الله تعالى - وله الفضل والمنة على عباده المؤمنين - أن تكون ملحمة لا غنيمة، وأن تكون موقعة بين الحق والباطل؛ ليحق الحق ويثبته، ويبطل الباطل ويزهقه، وأراد سبحانه أن يقطع دابر الكافرين ؛ فيُقتل منهم من يقتل ، ويُؤسر منهم من يؤسر ، وتذل كبرياؤهم ، وتخضد شوكتهم، وتعلو راية الإسلام ، ويمكّن للعصبة المسلمة في الأرض ، ولن يكون هذا التمكين إلا بجهد وعمل ، ومنازلة وجهاد لأهل الباطل والوثني.
لقد خبأ الله تعالى للمؤمنين في بدر ما هو خير لهم من العير والغنيمة ، فهيأ أسباب المعركة بلا سابق إنذار ولا استعداد ، وهنا تظهر التضحيات ، وتبرز البطولات ، ويستعلي الإيمان ، ويتحقق التوكل ، وعندها لا ينظر أهل الإيمان إلى قلتهم وكثرة عدوهم ، ولا إلى قوته وضعفهم ؛ ولهذا قال الصحابة رضي الله عنهم ما قالوا لما رأوا عزم النبي صلى الله عليه وسلم على مقاتلة الجيش المشرك بعد أن فاتت العير ، وأعلنوا له أنه مهما سار بهم فهم ماضون معه ، ولن يتخلفوا عنه ولو كان في ذلك ذهاب نفوسهم وأموالهم.
ولو أن المسلمين والمشركين اتفقوا على المنازلة لربما لم يتهيأ ذلك لهم بسبب بعد مكة عن المدينة ، وللفارق بين الفريقين في العدة والعتاد ، والنفس البشرية تميل إلى التسويف بحجة الاستعداد (إِذْ أَنْتُمْ بِالعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالعُدْوَةِ القُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي المِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولا) [الأنفال:42].
أي: ليقضي الله سبحانه ما أراد بقدرته من إعزاز الإسلام وأهله، وإذلال الشرك وأهله من غير ملأ منكم، ولا تدبير ولا تخطيط ، ففعل سبحانه ما أراد من ذلك بلطفه، قال كعب بن مالك رضي الله عنه : إنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون يريدون عير قريش حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد.
ومن عجيب تدبير الله تعالى أنه قوّى قلب نبيه صلى الله عليه وسلم على خوض المعركة برؤيا رآها ، ثم عند التقاء الطائفتين أرى كل طائفة منهما قلة الطائفة الأخرى ، وأطمعها فيها ، فلا المسلمين هابوا المشركين وهم ثلاثة أضعافهم ، ولا كفَّ المشركون عن المؤمنين خوفا منهم (إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَكِنَّ اللهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ التَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولا وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ) [الأنفال:44] وفي ذلك يقول ابن مسعود رضي الله عنه: "لقد قللوا في أعيننا يوم بدر حتى قلت لرجل إلى جنبي: تراهم سبعين؟ قال: لا بل هم مئة، حتى أخذنا رجلا منهم فسألناه فقال: كنا ألفا".
فأين ما أراده المسلمون من مجرد الظفر بالعير، مما أراده الله تعالى لهم، وساقه إليهم، من كسر شوكة المشركين، وظهور الحق وعلوه، وإزهاق الباطل وسفوله، ولو أن المسلمين ظفروا بالقافلة لكانت مجرد غنيمة لا تكاد تذكر ، فأين ذكرها من ذكر بدر التي لا يذكر الإسلام إلا بها ، حين جسد النبي صلى الله عليه وسلم هذه الحقيقة بدعائه "اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض".
لقد غدت بدر بعد النصر المبين أعظم معركة في التاريخ كله بين أنصار الحق وأهل الباطل ، ولكم تمنى من تخلف عنها من الصحابة رضي الله عنهم إدراكها ، ولكم يغبط المسلمون في كل العصور من حضرها ، وأهل بدر مغفور لهم ، وفضل من شهدها من الملائكة عند الملائكة عليهم السلام كفضل من شهدها من الصحابة عند البشر ، وبعد بدر ظهر الإسلام ، وعرف المسلمون عند العرب ، بل تسامع بهم العجم ، ويكفي دليلا على قوة المسلمين بعد بدر أن النفاق كان بعدها إذ كان أهل الكفر من أهل المدينة وما حولها يعلنون كفرهم وعداءهم للمسلمين ، ويسخرون منهم ، فلما انتصر المسلمون في بدر أظهر كثير منهم الإيمان خوفا من المسلمين ، وأبطنوا الكفر ، فهذا هو أول تاريخ النفاق في هذه الأمة ؛ كما جاء في صحيح البخاري : "أن رأس النفاق عبد الله بن أبي ومن معه من المشركين وعبدة الأوثان قالوا بعد بدر : هذا أمر قد توجه فبايعوا الرسول صلى الله عليه وسلم على الإسلام فأسلموا ".
كل ذلك كان من بركات هذه الغزوة العظيمة التي كره المواجهة فيها بعض المؤمنين في بادئ الأمر ، ولكن أمر الله تعالى نافذ ، وحكمه قاهر ، وكان ما اختاره سبحانه للمؤمنين خيرا مما اختاروه هم لأنفسهم ، وصدق سبحانه إذ يقول : (وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي المِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ) [الأنفال:42].
أسأل الله تعالى أن يرزقنا تدبر كتابه ، والفقه في دينه ، والثبات على الحق إلى الممات ، إنه سميع مجيب ، وأقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم...
الخطبة الثانية :
الحمد لله ، وكفى به شهيدا ونصيرا ، أحمده على عظيم نعمه وجزيل عطائه ، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له (لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي المُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا) [الفرقان:2]. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ؛ خير من صام وقام وقنت لله رب العالمين ، وكان في العشر الأخيرة من رمضان يشد مئزره ، ويحيي ليله ، ويوقظ أهله ، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن سار على نهجهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله تعالى وأطيعوه ، واحذروا غضبه فلا تعصوه ، واعمروا أوقاتكم بذكره وشكره وحسن عبادته ، وتعرضوا في هذه الأيام المباركة لنفحاته ، واسألوه من خيراته؛ فإن ربكم سميع قريب ، جواد كريم ، يعطي العطاء الجزيل على العمل القليل.
أيها المسلمون: لا بد من إحسان الظن بالله تعالى ، والإنابة إليه ، والتوكل عليه ، واليقين بأن قضاءه لعباده المؤمنين خير لهم مما يختارونه هم لأنفسهم ، وإن بدا لأول وهلة أن ما قضاه عليهم فيه عنت ومشقة ؛ فإن الله تعالى لا يقدر شرا محضا ، وسيظهر بجلاء بعد استبانة الأمر أن قضاءه سبحانه كان خيرا للمؤمنين كما استبان ذلك للمؤمنين في بدر بعد أن كرهوا مقاتلة المشركين.
والمسلم يحتاج لأن يملأ قلبه بهذه المعاني العظيمة في زمن كثرت فيه المصائب ، وتعددت المشكلات ، وتنوعت الابتلاءات ؛ فقد يضجر المسلم من خسارة مالية كبيرة، أو من مشكلة أسرية معقدة، أو من ابتلاء عظيم حاق به ، ولا يثبته في ذلك بعد عون الله تعالى وتوفيقه إلا إحسانه الظن بربه عز وجل ، وثقته به ، وتوكله عليه ، ويقينه بأن في مصابه خيرا أراده الله تعالى له ، لا يدركه هو في بادئ الأمر ؛ فليرض بقدر الله تعالى ، وليسلم الأمر له سبحانه ، وسينال بذلك خيري الدنيا والآخرة.
وعلى مستوى الجماعة والأمة فكم يعاني المسلمون في هذا الزمن من تسلط الكافرين والمنافقين عليهم بالإفساد في ديارهم والسخرية بدينهم ، وتدنيس قرآنهم ، وشتيمة نبيهم صلى الله عليه وسلم ، ومحاولة قهرهم على مناهجهم المنحرفة وأهل الحق والإيمان أوزاع متفرقون يرى كثير منهم أنهم غير قادرين على منازلة أعدائهم ، ورد عدوانهم ، وإزاء ذلك كم تخلى أناس عن عقائدهم ، وانحازوا بعقولهم وأفكارهم إلى طوائف الكافرين والمنافقين ، فزادوا الفتنة فتنة ، وعظم الابتلاء بهم ، وكان ما فعلوه بالمسلمين أشد مما فعله الأعداء.
ولكن في هذه التقلبات والابتلاءات من الخير ما لا يحصيه إلا الله تعالى ، فلا يثبت على الحق إلا من اقتنع به ، وضحى في سبيله ، ورجا أن يلقى الله تعالى عليه . يتبع الحق لأنه حق ، ولا يتبع الحق لدنيا يريدها ، أو لنصر ينتظره ؛ حتى إذا ما استبطأ نصر الله تعالى لأهل الحق انسلخ من جلده ، وانحاز لأهل الباطل لأنهم أقوى ، وكم كشفت هذه الابتلاءات عن كثير من فساد العقول ، وأمراض القلوب ، وأظهرت أهواء ذوي الهوى والنفاق ، وفضحت من اتخذوا دين الله تعالى مطية لتحقيق مصالح آنية ، وإشباع طموحات دنيوية. وهذا من الخير العظيم الذي أراده الله تعالى للمؤمنين في تلك الابتلاءات حتى لا يخدعوا بكل دعي ، ولا يصغوا لكل رويبضة.
وفي سياق الآيات التي عرضت لغزوة بدر ، وما فيها من عظيم الابتلاء للمؤمنين المستضعفين بمقابلة المشركين المستكبرين بعددهم وعدتهم ، ثم نصر المؤمنين عليهم ؛ نجد أن الله تعالى قد نص على تلك الحكمة العظيمة (وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي المِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ) [الأنفال:42] قال ابن إسحاق رحمه الله تعالى: "أي ليكفر من كفر بعد الحجة لما رآى من الآية والعبرة ، ويؤمن من آمن على مثل ذلك" .
ولئن كان عدو الله أبو جهل قد ساق المشركين إلى حتفهم بعلوه واستكباره ، وزعمه إعادة هيبة قريش ومجدها ؛ فإننا نرى قادة الدول المستكبرة في هذا العصر قد سلكوا مسلك أبي جهل ، فسلطوا على دولهم ، بقضاء الله تعالى وقدره ، وحكمته وتدبيره ، فغزوا بجحافلهم بلاد المسلمين ؛ لبسط نفوذهم ، واستعادة هيبتهم ، فغرق جنودهم في مستنقعات بلاد الأفغان والعراق ، كما غرق أبو جهل وجنده في بدر ، وكسرت شوكتهم كما كسرت شوكة المشركين في بدر ، وزالت هيبتهم من القلوب ، وصغر أمرهم عند الناس ، واستأسدت عليهم الدول التي كانت من قبل تخافهم ، وفضحوا شر فضيحة.
وكان المسلمون في بادئ الأمر قد كرهوا تسلط المستكبرين في هذا العصر على بلدانهم ، كما كره أهل بدر منازلة المشركين ، ثم استبان للمسلمين أن في هذا التسلط والاستكبار العالمي خيرا كثيرا لم يعلموه هم من قبل ، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
فاتقوا الله ربكم - أيها المسلمون - وثقوا به سبحانه ، واثبتوا على دينه إلى أن تلقوه غير مبدلين ولا مغيرين ، فهو والله الحق الذي لا مرية فيه...
وصلوا وسلموا على نبيكم.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي