فكِّروا فيما أنتم فيه، واعلموا أن التنافس المحمود في هذه الدنيا هو التنافس في الأعمال الصالحة، والمسارعة إلى الخيرات الراجحة، فلتكن دنيانا وسيلة إلى أخْرانا، ولْنأخذ منها ما يبلغنا إلى مثوانا، وأنْ لا نَنْجَرَّ إلى دنيا فانية، لا تدوم فيها سعادة، ولا يستريح فيها بال، ولا تستقر على حال.
الحمد لله الذي أغنى المنفقين بالتقوى وجعلها خير لباس، وأذل العاصين بالخيبة والحرمان والإفلاس، أحمده -سبحانه- أن جعلنا من خير أمة أخرجت للناس.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ذي القوة والسلطان والباس، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أفضلُ من ساد ورأس وساس، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الطاهرين من الأردان والأوجاس، وعلى التابعين ومن تبعهم واقتفى آثارهم من عموم الناس، وسلم تسليما.
أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى، وقوموا بما أوجب الله عليكم من حقوق لله، وحقوق لعباده.
عباد الله: إنكم في دنياكم في ميدان فسيح تتنافسون وتتبارون في أعمال، فمنكم من ينافس في أعمال يتهالك فيها، وينافح عنها، ويشق فيها أصعب الطرق؛ للحصول عليها؛ بل يكدح ليله ونهاره فيها؛ ليغنم منها، وربما أصابه من جراء ذلك التعب والإرهاق، والفشل والإخفاق، وأصبحت حياته تنوبها التعاسة والانزلاق، والخسارة والإملاق.
وربما حصل منها من المكاسب الطائلة، والغنى، وأكثر ما يورده المهالك والردى، فتصبح حياته مسرحاً للمعاصي والهوى والشهوات والمنى، ألا وإن المنافسة في أعمال الدنيا ونيلها والحصول على مكاسبها من أعظم ما يخسر به الإنسان في حياته، ومن أعظم البخس بعد مماته، إذا ما اقترن ذلك ببعد عن منابع الخير، ومواطن الفضيلة، وكان جل الاهتمام فيها دنيا مؤثرة، وهوى متبع؛ لذا تكون المنافسة الصرفة في أعمال الدنيا من الأعمال المذمومة في حياة المؤمن.
إن الله -جل جلاله- جعل هذه الدنيا ميداناً للعمل، يكتسب فيها المؤمنون ما يقربهم إلى الله من أعمال البر والخير، وما يحظون به في الدار الآخرة من الكرامة والنعيم؛ فالتنافس الحقيقي يجب أن يتوجه إلى هذا ولمثل هذا، فليعمل العاملون، ولمثل هذا فليتنافس المتنافسون.
عباد الله: إننا لو سبرنا واقع الحال في مجتماتنا وجدنا الغالب عليها، والطابع هو التنافس للدنيا، ولأجل نيلها بأي طريق، ولو أدى ذلك إلى الوقوع في غضب الله وسخطه.
لقد وصلت الحال بالكثير من الناس أن جعلوها هي الغاية والمطلب، ينافحون فيها، ويتهالكون للحصول عليها، يعادون فيها، ويقربون، يؤاخون ويصاحبون لها، يدنون من أدنت، ويقصون من أقصت، لا يبالون بما يقترفون من حرام، ولا يتورعون عن الوقوع في الآثام، ولا يميزون بين الخبيث والطيب، ولا يتنزهون عن القبيح والخيِّب.
لقد سكر الناس في الدنيا فغابت عقولهم، وأصبحوا في غياهب ظلامها، فأعمت أبصارهم، فتنافسوها فأهلكتهم كما هلك من كان قبلهم.
ولقد تخوف النبي -صلى الله عليه وسلم- على أمته من هذا، وحذر من الوقوع؛ مبيناً عاقبة ذلك، وأنها أليمة وخيمة، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "لا الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تفتح الدنيا عليكم فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم".
عباد الله: لقد فتحت الدنيا علينا في هذا الزمان كنوز الدنيا، وأخرج الله لنا من خيرات الأرض ما لا يوصف، وسخر لنا من الإمكانات والتقنيات ما ليس من قبل يُوجد ويعرف، ازَّينت الدنيا بزخارفها، وازدانت الأرض، وكثر فيها الطلب والعرض، وعصفت بالناس المدنية، واقتنصت ذئاب البشر؛ النفوس الأبيَّة، وكشَّرت بأنيابها فالتهمت الكثير من الفضائل والأعمال البقيَّة، فأصبح الناس في ظل ذلك حيارى مدهوشين، وفي تفكيرهم مشوشين، وعن آخرتهم غافلين، وعن مصيرهم تائهين.
ثم -عباد الله- لا يؤمن للدنيا جانب، وليس لها رفيق أو مصاحب، فكم انقلبت فيها الرؤوس، وأصبح الوضع فيها معكوسا، وكم فيها من مشارٍ إليه بالبنان فلما ارتفع حُمِل بالأنعش ملفوفاً بالأكفان، وكم من ملك رفعت له علامات، فلما علا مات، وكم من دول عظمت وصالت، فلما وقع قدر الله سقطت وخارت!.
ألا وإن الله مثَّل لعباده الدنيا بأرض أُنزل عليها الماء فازدانت بالنبات، وتشكلت بأنواع الزهور والثمرات، وأظهرت الكنوز والخيرات، وارتقى أهلها إلى معالم الشرف، والزهو والبهاء، ولما ظنَّ أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمر الله وقضاؤه، فأصبحت هشيماً مواتاً لا حراك فيها، يقول سبحانه: (إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [يونس:24].
عباد الله: فكروا فيما أنتم فيه، واعلموا أن التنافس المحمود في هذه الدنيا هو التنافس في الأعمال الصالحة، والمسارعة إلى الخيرات الراجحة، فلتكن دنيانا وسيلة إلى أخْرانا، ولْنأخذ منها ما يبلغنا إلى مثوانا، وأنْ لا نَنْجَرَّ إلى دنيا فانية، لا تدوم فيها سعادة، ولا يستريح فيها بال، ولا تستقر على حال.
ثم اعلموا -رعاكم الله- أن الإفلاس في هذه الدنيا هو الإفلاس من الأعمال الصالحة، أو فناء الأعمال الصالحة بالسيئات والموبقات المهلكات، فليس الإفلاس كما ينظره عامة الناس: فوات الدنيا أو الخسارة في الأموال، والإفلاس في الحظوظ والأحوال، أو النقص والمكس في التجارات، والمساهمات، والنكص والنكس، ليس المفلس في دنيانا مثل هذا، وإنما المفلس مَن عمل الموبقات، وشتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا.
المفلس - عباد الله - من أفلس من الحسنات، وعَمِل القبائح والمشينات، ليس المفلس من لا درهم له ولا متاع؛ إنما المفلس من لا عمل له صالحا، ولا شفيعا يطاع، ليس المفلس من سلبت منه الدنيا فأصبح في افتقار، إنما المفلس من غرته الدنيا فأصبح معها في إقبال وإدبار.
ولقد روى أبو هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "أتدرون من المفلس"؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: "إن المفلس من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من سيئاته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار" رواه مسلم.
فاتقوا الله -عباد الله- ولا تغرنكم الدنيا، ولا يغرنكم بالله الغَرور، وادخروا من أعمالكم الصالحة ما ينفعكم، وتحضون به عند ربكم في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا * وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَا *جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى) [طه:74-76].
وفقني الله وإياكم إلى هدى كتابه، وسلك بنا طريق أحبابه، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، ولكافة المسلمين من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي