إنَّ زلزلة الساعة شيء عظيم لا يقدر قدْرُه، ولا يُبْلَغ كُنهُه، ففي ذلك اليوم تنفرد كل نفس بنفسها، وتصاب بالغمِّ وحدها، وتنسى غيرها، ويشتد الفزع، ويحصل الجزع، وتذهل الأم عن ولدها، والمرضعة عما أرضعت، فكُلُّ نفسٍ تقول بلسان الحال: نفسي نفسي! وترى الناس في سدور وهيام، وقعود وقيام، حيارى كأنهم سكارى، وما هم بسكارى، ولكن عذاب الله شديد ..
الحمد لله الذي نصَب على وحدانيته الدلائل والبراهين الواضحات، وأحاط علمه بالظواهر والخفيات، وعم بواسع فضله جميع البريَّات، قدر المقادير، وسبق علمه بها قبل خلق الأرض والسماوات، فكل شيء عنده بمقدار، وإنما توعدون لآت.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له المنعوت بأعلى الصفات، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المبعوث بأعظم الشرائع وأشمل الرسالات، صلى الله عليه وآله وأصحابه الذين حازوا السبق في علو الهمة والدرجات، وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الممات، وسلم تسليما.
أما بعد:
أيها الناس، اتقوا الله تعالى، واستعدوا لليوم الآخر، واستقبلوه بالأعمال الصالحة، واخشوا من عقابه واحذروه، وتذكروا ذلك اليوم، وما فيه من الأهوال العظيمة، والأمور المخيفة، فإنه يومٌ يعجز الواصفون عن وصفه، وتنقطع الأقلام عن تصوير وقعه، يومٌ لا تتحمل هوله الأرض والسماوات، وتندك فيه الجبال الرَّاسيات، وتنقطع فيه القلوب حسرةً على ما فات، ذلك اليوم هو يوم الفزع الأكبر: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ) [الحج:1-2].
إنَّ زلزلة الساعة شيء عظيم لا يقدر قدْرُه، ولا يُبْلَغ كُنهُه، ففي ذلك اليوم تنفرد كل نفس بنفسها، وتصاب بالغمِّ وحدها، وتنسى غيرها، ويشتد الفزع، ويحصل الجزع، وتذهل الأم عن ولدها، والمرضعة عما أرضعت، فكُلُّ نفسٍ تقول بلسان الحال: نفسي نفسي! وترى الناس في سدور وهيام، وقعود وقيام، حيارى كأنهم سكارى، وما هم بسكارى، ولكن عذاب الله شديد، فلذلك أذهب عقولهم، وفزع قلوبهم، وبلغت القلوب الحناجر، وشخصت الأبصار، في ذلك اليوم لا يجزى والد عن ولده، ولا مولودٌ هو جازٍ عن والده شيئاً، يومئذٍ يفر المرء من أخيه، وأمه وأبيه، وصاحبته وفصيلته التي تؤويه، لكل امرئٍ منهم شأن يغنيه.
وهناك يعض الظالم على يديه، يقول: يا ليتني اتخذتُ مع الرسول سبيلا! يا ليتني لم أتخذ فلاناً خليلا! وتسْوَدُّ حينئذٍ وجوهٌ، وتَبْيَضُّ وجوه، وتنصب الموازين التي يوزن بها مثاقيل الذر من الخير والشر، وتنشر صحائف الأعمال، وما فيها من جميع الأعمال والأقوال والنيات، من صغير وكبير.
وينصب الصراط، أدق من الشعر، وأحد من السيف، يعبُره الناس على حسب أعمالهم، فمنهم من يمر كلمح البصر، ومنهم كالبرق، ومنهم كالريح، ومنهم كالجواد، ومنهم من يركض، ومنهم من يمشي، ومنهم من يزحف، ومنهم من لا يكمل المرورَ عليه، فتخطفه كلاليبٌ فيلقى في النار، أعاذنا الله وإياكم من ذلك!.
في ذلك اليوم تعرض جهنم للكافرين ليرو ما فيها من النكال والعذاب قبل دخولها: (وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا * الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا) [الكهف:100-101]، فتبرز جهنم للغاوين، ويُعجل لهم الهم والحزن.
وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يؤتى بجهنم تقاد يوم القيامة بسبعين ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك"، (إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا * وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا) [الفرقان:12-13]، ويقال لهم: (لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا) [الفرقان:14].
وإذا نادوا ربهم ليخرجهم منها قالوا: (قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ) [المؤمنون:108]، (وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ) [الزخرف:77]، قد غضب عليهم الرب الرحيم، وحضرهم العذاب الأليم، وأيسوا من كل خير، ووجدوا أعمالهم كلَّها لم يفقدوا منها نقيراً ولا قطميراً.
هذا؛ والمتقون في روضات الجنات يحبرون، وفي أنواع اللذات يتفكهون، وفيما اشتهت أنفسهم خالدون، تذكروا -عباد الله- ذلك اليوم بأهواله، وشدائده، واعلموا أن كل هذا أمامكم، فأعدُّوا له العدة، وتزودوا من العمل الصالح ما ينجيكم من الهول والشدة.
واعلموا أن الله قد قدم بين يدي هذا اليوم أشراطاً وعلامات تظهر قبل وقوعه لعظم هوله وشدته، ولتكون تنبيهاً للغافلين، ونذُراً للمغرضين؛ فمنها علامات قد مضت وانتهت، ومنها علامات تتابع وتستمر إلى ظهور العلامات الكبار، ومنها: العلامات الكبار التي لم تظهر بعد؛ كخروج الدابة، يقول الحق -سبحانه-: (وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآَيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ) [النمل:82]، والدابة من أشراط الساعة، تخرج في آخر الزمان عند فساد الناس، وتركهم أوامر الله، وتبديلهم الدين الحق.
وقد اختلف الناس في مكان خروجها، وكيفية كلامها وصفتها. والواجب: الإيمان بما أخبر اللهُ دون التعرض لما حُجِب عنا علمُه.
والعلامات الكبار التي تؤذن بقرب الساعة هي: ما ذكرت في الأحاديث المسندة، فقد روى الإمام أحمد عن حذيفة بن أسيد الغفاري قال: أشرف علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من غرفةٍ ونحن نتذاكر أمر الساعة، فقال: "لا تقوم الساعة حتى تروا عشر آيات: طلوع الشمس من مغربها، والدخان، والدابة، وخروج يأجوج ومأجوج، وخروج عيسى بن مريم، والدجال، وثلاثة خسوفٍ؛ خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، ونار تخرج من قعر عدن، تسوق أو تحشرُ الناس، تبيت معهم حيث باتوا، وتقيل معهم حيث قالوا". رواه مسلم وأهل السنن.
عباد الله: هذه العلامات التي تتقدم اليوم الآخر، وتنذرُ بدنوِّ هوله وشدائده تتقارب في الظهور كُلما ظهرت واحدة من العلامات الكبار خرج ما هو أعظم منها، حتى تخرج العلامةُ الكبرى التي تظهر لكلِّ عين، ويشاهدُها كلُّ موجود؛ ألا وهي: طلوعُ الشمس من مغربها، المؤذنة بنهاية العالم في هذه الدنيا، وانتقالهم إلى العالم الأخروي.
عباد الله: بادروا بالأعمال، واصرفوا هممكم إلى ما ينجيكم من تلك الأهوال، كيف تغفلوا عن تلك الشدائد، وعن أهوال القيامة، وقد عرفتم أنه لا مفر لكم ولا حائد؟ ما هذا الإصرار على المعاصي من دون رجوع ولا توبة ولا استغفار؟ وما هذا الإعراض والغفلة، وقد اقترب الحساب وقَرُبت النقلة؟ (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ) [الأنبياء:1]! فاتقوا الله -عباد الله- وفكروا في مصيركم ومستقبلكم، فإنكم صائرون إلى الله، محاسبون على أعمالكم، مجزيون بأفعالكم، فقدموا لأنفسكم، واعلموا أنكم ملاقوه وبشر المؤمنين.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي