إنَّ الربا من أكبر الذنوب، ومن أعظم محق الأموال، وأفظع تعامل مُنِيت به الإنسانية، وأبشع وضع تواضع عليه الجاهلون، يقول -سبحانه- في شأنه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ) ..
الحمد لله المتفرد بكمال الذات والصفات، المتقدس في كماله عن مشابهة المخلوقات، العالي بقدره وقهره فوق الكائنات، أحمده سبحانه حمداً يملأ الأرض والسماوات، وأشكره على سوابغ نعمه المتواترات.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة مبرأة من الشرك والشك والتوهيمات، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أفضل المخلوقات، الهادي إلى طريق الخير، والمحذر من طريقة الهلاك والضلالات، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أُولي الفضائل والكرامات، وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الممات، وسلم تسليما.
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى وأطيعوه، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، اتقوا الله عباد الله، (آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ) [الحديد:7].
عباد الله: إن الله استخلفكم على هذه الأموال وجعلها زينة وبلاغاً إلى حين، جعلها عصباً لحياتكم، تقوم بها مصالحكم ومنافعكم في هذه الحياة، وحذركم من الظلم فيها، أو الوقوع فيها في مكاسب خبيثة، أو السعي فيها إلى مآرب سيئة، أو تحصيلها من طرف ملتوية أو مشتبهة.
ألا وإن من أعظم الظلم فيها التعامل فيها بالربا، تلكم الكبيرة العظمى، والجريرة الكبرى، التي تهدم حياة المؤمن، وتعكر صفوه، وتجر عليه الويلات والنكبات، وتوقعه في حرب معلنة مع الله.
إنَّ الربا من أكبر الذنوب، ومن أعظم محق الأموال، وأفظع تعامل مُنِيت به الإنسانية، وأبشع وضع تواضع عليه الجاهلون، يقول -سبحانه- في شأنه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ) [البقرة:278-279].
ما أعظم الذنب، وما أحقر المذنب، حينما يواجه الحرب مع الله -جل جلاله-! بل وما أسود المصير، وما أبشع الصورة، وأقبح المنظر، وما أشد الهول حينما يقوم صاحبه يوم القيامة يجثو على ركبتيه فرعاً متخبطاً؛ كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس! فقد قال -سبحانه-: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا...) [البقرة:279].
تِلْكُم الربا عباد الله وآفاته، لُعِنَ آكله وموكله وكاتبه وشاهداه على لسان نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-، فما هو يا ترى هذا الربا، الذي أسمعتكم خبره، وعظمت لكم خطره، وانتشار شرره، وشناعة ضرره؟.
لعلي أقدم شيئاً من حقيقته، وأوصاف التعامل به؛ هو: الزيادة في المال بغير حق، وهو: دفع دراهم لشخص مقابل دراهم مع الأجَل والزيادة، وهذا صريحه، ومنه بيع الربوي بجنسه؛ كبيع الذهب إذا كان قديماً بذهب جديد الصياغة، مع كون أحدهما أكثر وزناً.
ويمكن تقسيم الربا إلى أنواع، وتصنيف التعامل به إلى الأوصاف الآتية:
أولاً: ربا الفضل؛ وهو: البيع مع زيادة أحد العوضين المتجانسين على الآخر؛ كبيع صاع بر بآخر، مع زيادة أحدها، وكبيع الذهب والفضة بجنس أحدهما بأقل أو أكثر في الوزن.
ثانياً: ربا النسيئة؛ وهو: بيع أحد النقدين بجنسه متماثلاً إلى أجل معلوم، أو بيع المطعوم بجنسه متساوياً إلى أجل معلوم.
ثالثاً: ربا الجاهلية؛ وهو: بيع ما حل في الذمة إلى أجل مع الزيادة، وهذا الربا هو الذي ذكره الله في قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً...) [آل عمران:130].
رابعاً: ربا القرض؛ وهو: المسالفة التي تجر نفعاً للمقرض، فإذا اقترض شخص من آخر، وشرط المقرض نفعاً معيناً من الآخذ فهو ربا.
خامساً: بيع المداينة؛ وهو: ربا الحيلة كما ذكره بعض المحققين، وهي: المداينة؛ وهي: أن يتفق الدائن والمدين على المعاشرة أولاً ثم يذهبان إلى صاحب محل عنده بضائع فيشترِي بها الدائن شراءً صورياً، ليس له بها غرض سوى الوصول إلى الدراهم، فلا يقلب ما اشتراه، ولا يماكس في الثمن، وبعد هذا الشراء يبيع هذا الدائن هذه البضاعة على المدين، وهو كذلك لا ينظر إليها، ولا يقلبها بما اتفق عليه من الربح أولاً، ثم يعود المدين ويبقيها على صاحب المحك، ويخرج بدارهم.
فهذه المعاملة قلبت عن صريح الربا بمقلب التحايل، فهي حيلة أوصلت إلى محرم.
عباد الله: من الصور التي تلحق بالربا ما كان موجوداً، وما كان مستحدثاً في هذا العصر؛ فمنها: بيع العينة؛ وهي: أن يشتري من شخص سلعة بثمن مؤجل ثم يبيعها على صاحبها الذي اشتراها منه بثمن أقل منه نقداً؛ كأن يشتري سيارة من معرض بقيمة عشرين ألف ريال مؤجلاً، ثم يبيعها على صاحب المعرض نقداً بقيمة سبعة عشر ألف ريال، فهذه هي مسالة العينة، حيث عادت عين السلعة إلى صاحبها.
ومنها: بيع السلعة بالتأجير المنتهي إلى التمليك؛ كأن يعقد مع الشركة أو البائع عقد إيجار مدة معينة، ويدفع المشتري قسطاً كل شهر، وتكون السلعة في هذه المدة للشركة حتى يُسدد ما عليه فيملكها بعدما يدفع ثمنها في زيادة مضاعفة، وهذا العقد مخالف لصحة البيع، فإن فيه عقدين في عقد، وفيه أن البيع معلق لا مجزوم فيه، وفيه عدم ملك السلعة للمشتري وعدم التصرف. وهو مخالف لشرعية عقد البيع.
وما يلحق بصور الربا ما يحصل في سوق الأسهم الآن، والمضاربة فيه، فقد التبس على الكثير من الناس الصحيح من الفاسد، وصار الكثير في دوامة من الشك والحيرة، وقد علا على المنابر ووسائل الإعلام من يفتي بصحة ذلك، ومن يفصل في الأمر، ومن يرتبك في الإجابة دون دراسة للحكم الشرعي، ومن يتورع ويغلق الباب.
وعلى المسلم حيال ذلك: أن يتورع في هذا الباب عن المتاجرة في الأسهم، فإن في البيع فيها اختلاط وارتياب، فبعضها فيه صريح الربا، وبعضها شبهه، وبعضها مختلط، ولا يسلم الكثير من غبار الربا.
وَلِيتورع السالك في هذا الباب، وليتأمل قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "الحلال بين، والحرام بين، وبينهما أمورٌ مشتبهات، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام".
ولقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في مثل هذه الأمور: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك".
ومن صور الربا: التعامل بالمصارفة؛ وهو: بيع نقد بنقد إلى أجل؛ كأن يبيع التاجر أو البنك مقدراً من الجنيهات أو الدولارات بمقدارٍ من الريالات إلى أجل متفق عليه بينهم ولو ساعة؛ لأن هذا من ربا النسيئة؛ لما روي في الصحيح: عن أبي المنهال قال: سألت البراء بن عازب، وزيد بن أرقم عن الصرف، فكل واحدٍ يقول: هذا خير مني، وكلاهما يقول: "نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن بيع الذهب بالورق ديناً".
هذا إذا كانت المصارفة ديناً؛ أي: أحد النقدين حاضراً والآخر مؤجلاً فلا تصح المصارفة لما ذكرنا، فإن كان النقدان حاضرين فلا بأس بالمصارفة، وإن زاد أحدهما على الآخر إن كان من جنسين؛ لما روي في الصحيحين: عن أبي بكرة -رضي الله عنه-؛ وفيه: أُمِرْنا أن نشتري الفضة بالذهب كيف شئنا، ونشتري الذهب بالفضة كيف شئنا. فسأله رجل فقال: يداً بيد؟ فقال: هكذا سمعت.
فلا بد من القبض عند المصارفة في جنسين متفقين أو مختلفين، فإن صارفه أوراق نقدية بدراهم معدنية فلا بد من القبض، ولا بأس بالزيادة؛ لأنه صرفٌ وليس بيعاً.
فاتقوا الله عباد الله، وأدركوا خطر الربا، وتنسخوا مما اشتبه عليكم، واعلموا أن أخطار الربا لا تقتصر على المتعاملين به؛ بل تتعداهم إلى مجتمعاتهم وأمتهم، فقد روي في حديث عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "الربا وإن كثر فأمره إلى قلة".
وثمة -عباد الله- عقوبة جماعية، يذهب فيها البَر والفاجر، يستوجبها المجتمع إذا انحرف في تيارات هذا الوباء؛ ومن ذلك قوله -صلى الله عليه وسلم-: "ما ظهر في قوم الزنا والربا إلا أحلوا بأنفسهم عذاب الله، وما ظهر هذان الداءان في قوم إلا ظهر فيهم الفقر، والأمراض المعدية، وظلم السلطان، ونقص الأموال، ومحق البركات"، قال تعالى:(يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ) [البقرة:276].
وفقني الله وإياكم إلى هدى كتابه، وسلك بنا طريق أحبابه، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي