من أين.. وإلى أين.. ولماذا؟ (1)

ناصر العلي الغامدي
عناصر الخطبة
  1. موجة من الشكوك والإلحاد .
  2. أسوأ الجهل وأقبحه .
  3. البشر بين المبدأ والمصير .
  4. قصيدة الطلاسم وعناء الجهل وسوء المعتقد .
  5. الإيمان بالله فطرة محكمة .
  6. والحق ما شهدت به الأعداء .
  7. الإيمان العميق بالله تعالى جنة الدنيا ونعيمها .

اقتباس

إنَّ أيَّ جهلٍ مهما عَظُمَتْ نتائجُه قدْ يُغْتَفر، أيُّ جهلٍ كان بأيِّ أمرٍ كان. إلا أنْ يَجْهلَ الإنسانُ سِرَّ وُجُودِه، وغايةَ خَلْقِه، ورسالَتَهُ في الحياة... وأكبرُ العارِ على هذا الإنسانِ الذي أوتي العقلَ والعلمَ والإرادةَ أنْ يعيشَ غافلاً، يأكلُ ويتمتَّعُ كما تأكلُ الأنعامُ، ولا يُفكِّرُ في مصيره، ولا يدري عن حقيقةِ نفسه، وطبيعةِ دورِه في الحياة، ويظلُّ هكذا حتى يُوَافِيَه الأجلُ، فيواجِهَ مصيرَه المجهولَ، ويجنيَ ثمرةَ الغفلةِ. حينئذٍ يندمُ حِيْنَ لا ينفعُ الندمُ ..

أيها الإخوة المسلمون: إنَّنا أضحينا نعيش في عصرٍ فشا فيه الإلحادُ، وبرزَتْ فيه الشكوكُ، وضَعُف فيه اليقين.

فما أحوجنا بين فَيْنةٍ وأخرى أنْ نُذَكِّرَ النفوسَ الغافلةَ، والشبابَ الساهيَ بقضايا العقيدةِ المصيرية.

يا عباد الله: إنَّ أيَّ جهلٍ مهما عَظُمَتْ نتائجُه قدْ يُغْتَفر، أيُّ جهلٍ كان بأيِّ أمرٍ كان. إلا أنْ يَجْهلَ الإنسانُ سِرَّ وُجُودِه، وغايةَ خَلْقِه، ورسالَتَهُ في الحياة.

وأكبرُ العارِ على هذا الإنسانِ الذي أوتي العقلَ والعلمَ والإرادةَ أنْ يعيشَ غافلاً، يأكلُ ويتمتَّعُ كما تأكلُ الأنعامُ، ولا يُفكِّرُ في مصيره، ولا يدري عن حقيقةِ نفسه، وطبيعةِ دورِه في الحياة، ويظلُّ هكذا حتى يُوَافِيَه الأجلُ، فيواجِهَ مصيرَه المجهولَ، ويجنيَ ثمرةَ الغفلةِ. حينئذٍ يندمُ حِيْنَ لا ينفعُ الندمُ، ويرجو الخلاصَ ولَاتَ حِيْنَ مَنَاصٍ.

ولهذا -أيها الإخوة- كان لِزامًا على كلِّ بشرٍ عاقلٍ أن يبادرَ ويسألَ نفسَه بجِدٍّ: لماذا خُلِقتُ؟ وما غايةُ خلقي؟ ولماذا أعيش؟

وقبل أن يجيبَ عن هذا السؤالِ أو يجابَ عنه، فإنَّه يلزمُه أنْ يسألَ نفسه سؤالين آخرين؛ كي تتبيَّنَ له الحقيقةُ كاملةً واضحةً مشرقةً:

السؤال الأول: من أين؟ من أين جئتُ؟ ومن أوجدني؟

والسؤال الثاني: إلى أين؟ إلى أين أذهبُ بعد الموت؟ وما مصيري بعد الحياة؟

فبدون الجوابِ عن هذه الأسئلةِ لا تَتَحدَّدُ كَيْنُوْنَةُ الإنسانِ، ولا رسالَتُهُ في الوجود. وكيف يَتحدَّدُ شيءٌ من ذلك إذا كان هو كائنًا لا يعرف: ما هو؟ ولا لِمَ هو؟ ولا من أين هو؟ ولا إلى أين هو؟!

هذه أسئلة دوَّختِ الفلاسفةَ المفكرين منذ القدم. ولكنَّ الإجابةَ عنها مِنْ أيْسَر ما يكونُ في الإسلام.

أيها الإخوة المسلمون: أما السؤال الأول (من أين؟)

فهو عُقْدَةُ العُقَدِ عند المادِّيين الذين لا يؤمنون إلا بما يقع تحت الحواسِّ. فهذا أمرٌ غيبيٌّ لا يخضع للحِسِّ والتَّجْرِبة. ولهذا تجِدُهم يَخْنِقُون صوتَ الفطرةِ في صدورهم، ويُصِرُّون في عمىً عجيبٍ على أنَّ هذا الكون، بما فيه، ومن فيه، وُجد وحده! وكلُّ ما فيه من إحْكامٍ وترتيبٍ إنَّما هو من صُنْع المُصادفةِ العمياء. تبًّا لما يلحدون! وتعْسًا لما يعيشون!

واسمحوا لي أيها الإخوة أنْ أُعَكِّرَ أسْمَاعَكم بالهُرَاء الذي عبَّر عنه شاعرٌ بائسٌ من شعراء المَهْجَرِ في قصيدةٍ له بعنوان: "الطلاسم"، اختار لها هذا الاسْمَ؛ لتُعبِّر عمَّا في نفسه من ألغازٍ وحيرةٍ وضياع، يقول:

[جئتُ لا أعلمُ من أينَ؟ ولكنِّي أَتيتْ
ولقد أَبصَرتُ قُدَّامي طَريقًا فمَشَيتْ
وسأَبقَى سائِرًا إن شِئتُ هَذا أو أَبَيتْ
كيفَ جِئتُ كيفَ أبصَرتُ طَريقي؟
لستُ أَدري!
أجديدٌ أم قديمٌ أنا في هذا الوجودْ
هل أنَا حرٌّ طليقٌ أم أسيرٌ في قُيود
هل أنا قائدُ نفسي في حياتي أم مَقُود
أتمنَّى أنَّني أدري ولكنِّي..لست أدري!
أوراء القبرِ بعدَ الموتِ بَعْثٌ ونُشور
فحياةٌ فخلودٌ أمْ فَنَاءٌ ودُثُور
أكلامُ النَّاسِ صِدقٌ أمْ كَلامُ الناسِ زُوْر
أصحيح أنّ بعض الناس يدري؟.. لست أدري!
أَتُراني قبلما أصبحتُ إنسانًا سويّا
كنتُ مَحْوًا أو مُحالاً أمْ تراني كنتُ شيئًا
ألهذا اللُّغْزِ حَلٌّ أم سيبقى أبديّا
لست أدري.. ولماذا لست أدري؟.. لست أدري!]

جهلٌ مُرَكَّبٌ! لا يدري ولا يدري أنه لا يدري.. وكَمْ مِنْ أمثالِ هذا الشاعرِ البائسِ الضالِّ في الحياة! يعيشُ حيرةً ما بعدها حيرة، لا يدري مِنْ أين؟ ولا إلى أين؟ إنَّه الضَّياعُ عن الهدفِ، والضَّلالُ عن الحقيقة.

أيها الإخوة المسلمون: أمَّا الذي يستجيبون لنداء الفطرة فيُقِرُّون بأنَّ لهذا الكونِ ربًّا عظيمًا تتجه القلوبُ إليه بالتعظيم والرجاء والخشية والإنابة.

ولهذا يقول الله جلَّ جلاله في شأن هذه الفطرة: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) [الروم: 30].

وقد يَخْفِتُ هذا الصوتُ الفطريُّ أو يَكْبِتُه صاحبُه عمْدًا في ساعاتِ الرَّخَاءِ، فإذا نَزَل بالإنسان أحداثٌ مريرةٌ، واهتزَّ أمامَ الشَّدائدِ القاسيةِ، وخاب أملُه في الناس، هنالك يَنْطلقُ هذا الصوتُ مُتَّجِهًا إلى ربِّه ضَارِعًا مُنِيبًا إليه.

سأل رجلٌ جعفرَ الصادقَ عن وجود الله؟ فقال: أَلمْ تَركَبِ البَحْرَ؟ قال: بلى. قال: فهل حَدَث مرَّةً أنْ هَاجَتْ بِكَ الريحُ عاصفةً؟ قال: نعم. قال: وانقطع أَمَلُك من الملَّاحِينَ ووسائلِ النَّجاةِ؟. قال: نعم. قال: فهل خَطَر في بالِك، وانْقَدحَ في نفسك أنَّ هناك منْ يستطيعُ أنْ يُنْجِيَك إنْ شاء؟ قال:نعم. قال: فذاك هو الله. ذاك هو الله.

وعلى هذه الحقيقة تُنَبِّهُ آياتٌ كثيرة، قال تعالى: (وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ) [الزمر: 8]، وقال سبحانه: (وَإِذَا مَسَّكُمْ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ) [الإسراء: 67]، وقال سبحانه: (وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) [لقمان: 32].

أيها الإخوة المسلمون: وإليكم شهاداتِ رجالٍ رسخوا في علوم الكون (من غيرِ المسلمين)، قادهم العلمُ للإيمان بوجود الخالق والعلم الصريح يدعو إلى الإيمان الصحيح، فإنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ:

- ويقول إسحاق نيوتن: "لا تَشُكُّوا في الخالق؛ فإنَّه ممَّا لا يُعقل أنْ تكونَ المصادفاتُ وحْدَها هي قاعدةَ هذا الوجود".

- يقول ديكارت: "إنِّي مع شعوري بنقصٍ في ذاتي، أُحِسُّ في الوقت نفسِه بوجودِ ذاتٍ كاملةٍ، وأراني مُضْطَرًّا إلى الاعتقاد بأنَّ هذا الشعورَ قد غَرَسَتُه في ذاتي تلكَ الذاتُ الكاملةُ المُتَحلِّيَةُ بصفات الكمال وهي الله".

- ويقول فرانسيس بيكون: "مَنْ شَهِدَ سِلْسِلةَ الأسبابِ، وكيف تتَّصلُ حلقاتُها لا يَجِدُ بُدًّا من التسليم بالله".

يا عباد الله: إنَّ الإيمانَ بالله، وأنَّنا من عند الله غريزةٌ فطرية، وضرورةٌ عقليةٌ؛ لذلك قال الإعرابي: "البعرة تدُلُّ على البعير، والأثرُ يدلٌّ على المسير، فسماءٌ ذاتُ أبراج، وأرضٌ ذاتُ فِجاج، وبحارٌ ذاتُ أمواج، ألا تدلُّ على اللطيف الخبير؟!" بلى وربِّي.

وبغير الإيمانِ بالخالقِ سيَظَلُّ السؤالُ العقليُّ الذي أثاره القرآنُ قلِقًا حائرًا بغير جوابٍ: (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ* أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ) [الطور: 35- 36].

أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ؟ هل العدم يخلُقُ شيئًا؟ مستحيل!

أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ؟ هل خلقوا أنفسهم؟ كيف يكون الخالق مخلوقًا؟

ولم يَدَّعِ أحدٌ أنَّه خلق الكونَ والسمواتِ والأرضَ! فهذه "طبيعةٌ" أو مطبوعةٌ مخلوقة.

فمن الخالق إذن؟! ليس لهذا السؤال إلا جوابٌ واحدٌ لا يَمْلِكُ الإنسانُ إنْ تُرِك ونفسَه إلا أنْ يجيبَ بما أجاب به المشركون:

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) [الزخرف: 9].

بارك الله لي ولكم...

الخطبة الثانية:

أيها الإخوة المسلمون: وأما السؤال الثاني: إلى أين؟ فإنَّ المادِّيين يجيبون عنه جوابًا يهبط بالإنسانِ المُكَرَّمِ إلى دَرَكِ الحيوانيةِ الدُّنيا.

إنهم يقولون ببساطة عن مصير الإنسان بعد رحلة الحياة الحافلة: إنَّه الفناءُ والعَدَمُ المُطلق، ولا بعثَ ولا نشور.

أنْ تطويَهُ الأرضُ في بطنها كما طوتِ الملايينَ من قبله. وأن تُعِيدَ الجسدَ "الذي هو عندهم إنسانٌ بلا روح" إلى مكوِّناته وعناصره الأولى، فيعودُ ترابًا تذروه الرياح.

هذه هي قصةُ الحياةِ والإنسانِ عند هؤلاء، "أرحامٌ تدفع، وأرضٌ تبلع"، ولا خلودَ ولا جزاء.
يستوي في ذلك من أحسن غايةَ الإحسان ومن أساء كلَّ الإساءة!

يستوي في ذلك من ضحَّى بحياته في سبيل الحق ومن اعتدى على حياة الآخرين في سبيل الباطل!..

فعلامَ إذنْ تميَّز الإنسانُ على غيره من الكائنات في الأرض؟ ولماذا سُخِّر له كلُّ ما حولَه؟ ولماذا مُنِح من المواهب والقوى الروحيةِ والعقلية ما لم يُمْنحْ لغيره؟!.

أما المؤمنون فهم يعرفون إلى أين المسير.

يعرفون أنهم لم يخلقوا لهذه الدنيا، بل خُلِقوا لدار الخلود وحياةِ البقاء، وهم هنا يُعِدُّون العُدَّةَ ويتزوَّدون للآخرة.

وإنَّه لَعَسِيرٌ على العقل أيها الإخوة أن يؤمنَ بخالقٍ عليمٍ حكيمٍ أحسنَ هذا الكونَ صُنْعًا، وقدَّر كلَّ شيءٍ تقديرًا بديعًا، ثم يؤمن بعد ذلك أنَّ سُوقَ الحياةِ سيَنفضُّ ولا بعْثَ، وقد نَهَب الناهبُ وسرق السارقُ زنى الزاني وقتل القاتلُ، ولا يَقتصُّ أعدلُ العادلين من هؤلاء المجرمين! ولا يَنتصرُ للضعيف المظلوم الذي لم يكن له نصيرٌ غيرُ الله!

إنَّ هذا لَهُوَ العبثُ الذي يتنزَّهُ عنه خالق الأرض والسماء! وإنَّه للباطلُ الذي قامتِ السمواتُ والأرضُ بضِدِّه!

وما أروعَ القرآنَ وهو يوضِّح هذه الحقيقة الكبرى فيقول: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ) [المؤمنون: 115- 116]، ويقول الله تعالى: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ * وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) [الجاثية: 21- 22]، ويقول عزَّ وجل: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ النَّارِ* أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) [ص: 27- 28]، ويقول تبارك وتعالى: (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) [القلم: 35].

عباد الله: وبعد أنْ عرفنا من أين وإلى أين؟ بقي أن نعرف في الجمعة القادمة بإذن الله تعالى:
لماذا؟ لماذا خلقنا؟ وما الغاية من وجودنا في هذه الحياة؟

اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا...

وصلِّ اللهم على محمدٍ وعلى آله وصحبه وسلِّم.
 


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي