وإنَّ العجبَ لا ينقضي من أمةٍ تنعمُ بشريعةِ ربها، وتتفيؤ ظلالَ نعمهِ الوارفة، في جنةِ العفاف، وبستانِ الفضيلة، ثُمَّ هي تنقضُ غَزْلَها، وتُخرب بيتها بأيديها وأيدي أعدائها! (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) ..
الحمد لله الذي يكشفُ البلوى، ويعلمُ السرَّ والنجوى، وأشهدُ ألاَّ إله إلا الله وحدهُ لا شريك له، إنَّهُ هو الربُّ الأعلى، وأشهدُ أنَّ محمداً عبده ورسوله النبي الأكمل، والرسول الأتقى، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليماً.
أما بعد: فاتقوا الله -أيُّها المسلمون- حقَّ التقوى، ولا تموتنَّ إلاَّ وأنتم مسلمون.
الأمةُ تعيشُ في غُمةٍ، والفتن سيلٌ قد انعقد غَمامُه، والنصال تتوالى على جسد الأمة،
فلو كان سهماً واحداً لاتَّقَيْتُهُ *** ولكنَّه سهمٌ وثانٍ وثالثُ
وفي غمار الأزماتِ، وأوقاتِ الشدائد والمحن، ينشغلُ الناسُ بالعدو الأصغرِ عن العدو الأكبر، حيثُ تنبعثُ روائحُ منتنةٌ من مستنقعٍ عفن، وتخرجُ جرذان الفساد، وفئران الانحلالِ من جحورها، لتغرق سفينةَ الأُمة، وتهدم بنيانها.
مَن يا تُرى عدونا الأكبر؟! وما تلك الروائح العفنة؟! وما هي جرذان الفسادِ وفئران الخراب؟!.
إنَّهم قومٌ نسوا الله فنسيهم، أولئكَ هم الفاسقون، أولئكَ هم المفسدون في الأرض، الآمرون بالمنكر، الناهون عن المعروف، إنَّهم المنافقون، الذين لا يظهرون إلاَّ في الأزمات، ولا ينعقونَ إلاَّ إذا انتفش أسيادهم، ورقصوا على جراح أمتنا طرباً.
إنَّهم المنافقون على اختلاف مشاربهم، وتنوع مسمياتهم، سمهم إن شئت علمانيين أو حداثيين، أرباب الشهوات، وأدعياء العقلانية والتنوير! وان شئت سمهم باللبراليين، تعددت الأسماءُ والكيدُ واحد.
تنوعت أسماؤهم وسيدهم واحد، (أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ) [الحشر:11]، وهدفهم واحد: (وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا) [النساء:27]، ويحبون أن تشيع الفاحشة بين الذين آمنوا.
وادعاءَاتُهم واحدة، فالإفسادُ إصلاح، وتدميرُ المرأةِ تحرير، وعقوقها حقوق، (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ) [البقرة:11].
إنَّهم المنافقون والمنافقات، بعضهم من بعض، من طينةٍ واحدة، وطبيعةٍ واحدة، المنافقون في كل زمانٍ وفي كل مكانٍ تختلف أقوالهم وأفعالهم، ولكنها ترجعُ إلى طبعٍ واحد، وتنبع من مستنقعٍ واحد، سوءَ الطوية، ولؤمَ السريرة، والغمز، والدسّ، والضعف عن المواجهةِ، والجبن عند المصارحة، تلك سماتُهم الأصيلة.
أمَّا سلوكهم فهو الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف، والبخلُ بالمال، إلاَّ أن يبذلوه رئاءَ الناس، وهُم حين يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف، يستخْفُون بهما، ويفعلون ذلك دساً وهمساً، وغمزاً ولمزاً، لا يجرؤون على الجهر إلاَّ حين يأمنون، ولا يأمنون ويجترئون إلاَّ حينما ينتصرُ أسيادهم من الكفار، أو حينما يمتلكون القرار.
إنَّهم نسوا الله فلا يحسبون إلاَّ حساب الناس وحساب المصلحة، ولا يخشون إلاَّ الأقوياءَ من الناس، يذلون لهم ويدارونهم، فنسيهم اللهُ، فلا وزن لهم ولا اعتبار.
إنَّ النفاقَ لا ينجمُ إلاَّ عن تلك النفوسِ المريضة الجبانة، التي لا تتجرأُ على الظهورِ بأفكارها، أو تلك النفوسِ التي لا ترى إلاَّ حياتها الدنيا، فإن أُعطي أحدهم رضي، وإن لم يُعطوا منها اذ هم يسخطون.
وهُناك نفوسٌ تكرهُ الحقَّ، ولا تحبُ العيشَ إلاَّ في المستنقعِ الآسن، فهي تَشرقُ بدعوةِ التوحيد والعبودية لله وحده.
لقد تميزَ عصرُنا الحاضر بارتفاع أصوات المنافقين والمنافقات في أنحاء العالم الإسلامي، فأُفردت لهم الصفحات، ودُعوا إلى التحدث في المنتديات، واحتفلت بهم التجمعات، وسيطروا على كثيرٍ من وسائلِ الإعلام، كما يلاحظهُ القاصي والداني.
وحالُ المنافقين ليس بجديدٍ على أمةِ الإسلام، فعداوتهم متأصلةً منذُ هجرة محمد -صلى الله عليه وسلم-، وقد وصفهم الله في سبعةٍ وثلاثين موضعاً من كتابه، وأفاضت السنة في وصفهم، وهي صفاتٌ تتوارثها الأجيال المنافقة، زمنٍ بعد زمن حتى وقتنا الحاضر، (وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ) [المنافقون:4].
فما أكثرَ المستمعين لحديثهم، المنصتين لهرائهم، المتابعين لإنتاجهم! والعجبُ أن تتولى حفنةٌ قليلةٌ من المنافقين والمنافقات إفساد الأمة، ومسخها عن دينها ودعوتها، إلى التحررِ والإباحية، والعفنِ والرذيلة، وهكذا هُم المنافقون في كلِّ أمةٍ وفي كل قطر، يتحينون الفرص، ويقطعون الطريق، (الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ) [التوبة:67]، لا يملون ولا يكلون، ولهم جلَدٌ وصبرٌ عجيب، شعارهم: تقدَّمْ خطوتين وارجع خطوة! (وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آَلِهَتِكُمْ) [ص:6].
إنَّ من كيد المنافقين محاولةُ إسقاطِ الشخصيات المسلمة، وتشويه صورتها، والقدحُ في نزاهتها كما في قصةِ الإفك التي تتكرر في كلِّ جيل، وعبر طرقٍ مختلفة.
فإذا ما قال عالم كلمة حق ترضيهم أو تكشف دسائسهم ضد مؤامراتهم أوحى بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا، ونظموا الحملات الإعلامية الهجومية الساخرة المسقطة، ولا يبالون إن كانوا بالأمس يقولون عمن يحبون عالمنا وسيدنا وخيرنا أن يقولوا بعد ما سقطوا جاهلنا وشرنا وأحمقنا! إنهم قومٌ بُهْتٌ، تسيّرهم الأهواء، ويحكمهم الأعداء.
مِن كيدهم بلبلةُ الصفِّ الإسلامي، بإشاعة الخور فيه والضعف، وذكرُ قوةِ الأعداء وتهويلها، (وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا) [التوبة:81]، (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا) [التوبة:47].
وكما قال قائلهم يوم تبوك: أتظنون جلادَ بني الأصفرِ كقتالِ العرب؟ والله لكأنا بكم غداً مقرنين في الحبال! واستعملوا أسلوبَ السخريةِ والاستهزاء، (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ) [التوبة:65].
إنهم المنافقون! أكذب الناس في دعاويهم، يتشدقون بحرية الرأي وهم يصادرونه، وينادون بالإنصاف مع المخالفين وهم أشد الناس جورا، ويقولون بأن الرأي للأغلبية وهم يتفردون بالآراء والتنفيذ، إذا ما كشف الله زيغهم حاصوا حيصة الحمر، وصرفوا الحديث عن مناقشة القول إلى السخرية بالقائل؛ لأنهم أهل أهواء، فبالهوى تبخَّر احترام المخالف في الهواء، وذهبت "نحن والآخَر" أدراج الرياح، ونضح الإناء بما فيه وانكشف الغطاء!.
المنافقون لا يقدرون الله حق قدره، ولا يحتفلون بالإجلال لرسوله، والتعظيم لدينه، لم يغاروا إذ سخر من رب البشر، ولم يتحركوا حينما استهزئ بسيد البشر؛ لكنهم رفعوا عقيرتهم وامتقعت وجوههم وتقيأت أقلامهم حينما نيل من نطفة من البشر! وما ذاك إلا أنهم تسيرهم المطامع، وتقودهم الأهواء!.
المنافقون هم (الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ) [النساء:139]؟ ويُسارعون فيهم، يقولونَ نخشى أن تُصيبنا دائرة، فهم يتعاونون مع أعداءِ الإسلام لتدميرِ الأمةِ المسلمة.
قال شيخ الإسلام: وهؤلاءِ المنافقون في هذه الأوقات، فيهم ميلٌ إلى التتار، لكونهم لا يلزمونهم شريعة الإسلام.
يشهدُ التاريخُ، ويشهد الواقع، أن الليبرالية والعلمنة والتغريب هي عوامل زعزعة لوحدة الأمة وتلاحمها، وأن دعاتها يكيدون كيدا لتصبح الأمة طرائق قِدَدًا، والله من ورائهم محيط!.
ويشهدُ الحال على أنَّهُ ما من فتنةٍ هي أشدُّ خطراً وكيداً على الأمة، وقيادتها ومبادئها، مثل كيد المنافقين، فهم لا تربطهم بقادتهم، ولا بأوطانهم مبادئُ سامية، ولا قيم نبيلة، رائدهم المصلحة، وهدفهم الإفساد.
روي عنه- صلى الله عليه وسلم- قوله: "إني لا أتخوف على أمتي مؤمناً ولا مشركاً، أمَّا المؤمن فيحجزهُ إيمانه، وأما المشركُ فيقمعهُ كفره، ولكن أتخوفُ عليكم منافقاً عالم اللسان، يقولُ ما تعرفون، ويعملُ ما تنكرون".
مَن ينسى مواقفهم في أحد، وخيانتهم يوم الخندق، وإرجافهم في تبوك؟ ومَن ينسى مؤامرتهم لإسقاط الدولة المسلمة؟ ومن ينسى تواطؤهم مع التتار، وتعاونهم مع أهلِّ الصليب؟ أمَّا في عصرنا الحاضر فقد شهدت أرض أفغانستان والعراق بخبثهم وخيانتهم ومكرهم، ويشهد الواقع على ما يبيتون.
إنَّ شماتتهم وفرحهم بما يُصيبُ المسلمين من نكباتٍ، لم يكن ليُخفيها التظاهرُ المتصنع؛ وما تقولهُ أفواههم غيرَ ما تُخفيه صُدورهم.
إنَّهم -وإن دندنوا بالحفاظ على مصلحةِ الوطن- وتحدثوا عن الحرصِ على الوحدة والتآلف، فهم بأفعالهم كاذبون، وبمواقفهم خائنون (وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ) [التوبة:47]، (وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ) [المنافقون:4].
ها هم اليوم، وانطلاقا من مبادئهم في خلخلة الصفوف، وتحقيقا لأهداف أسيادهم، يستغلون انشغال الأمة بالأحداث والأزمات يبثون سمومهم، وينشرون أفكارهم العفنة، ويدعون إلى ضلالاتهم التي تستهدف هدم الجدار الأخلاقي للأمة؛ لكي يسهل استعمارها، ويخف على أسيادهم دمارها.
لقد رأوا -كما رأى أسيادهم- أن إفساد المرأة هو أقصر الطرق لإفساد المجتمع بأثره، فسلطوا سهام أقلامهم للحديث عن قضايا المرأة وحقوقها المهضومة، كما يزعمون.
إنَّ قضاياهم التي يطرحونها، وأفكارهم التي ينشرونها، لا تتجاوزُ المرأة وشؤونها، سواءً فيما يخصُّ تعليمها، أو لباسها المدرسي ومناهجها، أو فيما يخصُّ عملها، ومحاولةُ إقحامها في مجالاتٍ لا تتناسبُ مع طبيعتها، ولا مع ظروف حياتها، ومن قبل ذلك توقعها فيما حرم الله عليها، كدعواتهم لإنشاءِ نوادٍ نسائية، وخطواتهم لتأنيث المحلات النسائية، ومشاركتها في المسابقات الأولمبية.
ودعكَ من شروطهمُ التي وضعُوها، فإنَّما هي حبرٌ على ورق، ودعك من عبارتهم الممزوجة وسط الضوابط الشرعية فربما نسمع صراحا كفرا مباحا وفق الضوابط الشرعية!.
إنَّ مثلَ هذه الدعواتِ العفنةِ في مجتمعنا المسلمُ الغيور، إنَّما تزرعُ بذورَ الخصامِ والعداوات، وتؤججُ نارَ الفُرقةِ والنزاعات، وتستجلبُ غضبَ اللهِ -عز وجل- وسخطه.
كلُنا يُدركُ -والمنافقون يعلمون- أنَّ فتنةَ التبرج والسفور في البلاد المسلمة، إنَّما بدأت بكشفِ وجه المرأة، فخلعت معهُ ما هو أغلى وأثمن، ألا وهو ثوبُ الحياء، الذي طالما صان وجهها، أن يكون معروضاً مبذولاً لكلِّ من شاءَ أن يراه، وما زالت المرأةُ تتدرجُ في خطوات السفور، حتى وصلت إلى ما تعلمون وتسمعون.
وإننا نتساءلُ بحرقةٍ وأسى: لمصلحةِ من تُبثُّ هذه الأفكار العفنة، وتنشرُ هذه الآراء المفسدة؟ وهل نحنُ نُعاني من قلةِ الرجال العاملين؟ أوليس لنا عبرةٌ في تجاربِ الغرب الكافر، حينما انتهوا إلى حقيقةِ أنَّ المرأةَ دورها في بيتها، وعملها في أسرتها؟ فلماذا نبدأُ من حيثُ بدؤوا لا من حيث انتهوا؟.
إننا نعلمُ، ونوقنُ، أن ليس بالقومِ غيرةٌ على الدين، ولا حرصٌ على مصالحِ البلادِ والعباد، وإنهم مثلما قال الله: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ)، ولكنهم المنافقون، يصطادون في الماءِ العكر، ولا يرضيهم إلاَّ أن يكون مُجتمعنا نسخةً من مجتمعات الغربِ المنحلة، ولا يقرُّ أعينهم إلاَّ مشاهدة المسارح والبارات ودور البغاءِ وأولاد السفاح منتشرةً في شوارعنا! إنَّهم -كما أخبر الله-: (وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا).
إنَّ العلمانيين حينما يطرحون قضيةَ المرأةِ وحجابها، ويُطالبون بقيادتها للسيارة، ومشاركتها للرجلِ في التجارةِ والإدارة، إنَّما يجعلون من مسألةِ الحجابِ والعفافِ مجرد تقاليدٍ وعادات. وما عرفنا الإسلام تقاليد، إنَّما عرفناهُ مناراً وتعاليم، وشرائع ومعالم.
وهم بذلك يُحولون شرعَ اللهِ ووحيهِ إلى أعرافٍ وتقاليد، تواضعُ الناس في زمنٍ من الأزمان على احترامها، وبناءً على ذلك فما يَصلحُ لجيلٍ لا يصلحُ لآخر، وما يناسبُ مجتمعاً لا يناسبُ المجتمعات الأخرى، وما يتفقُ مع زمنٍ فلا شأنَ لهُ بباقي الأزمان!.
إنَّ الهدف من التعبيرِ عن الأحكام الشرعية، بالتقاليدِ واضحٌ بيِّن، وهو جعلها عُرضةً للتغييرِ والتبديل، بحجةِ إنَّ تقاليدَ عصرِ الصحراء لن تُناسب عصر الفضاء! (كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ) [الكهف:5]!.
لا بُدَّ أن تُدرك المرأةُ المسلمةِ، ويدرك وليها، ولا بُدَّ أن يدركَ المجتمع كلهُ، أنَّ كلَّ دعوةٍ لإفسادِ المرأةِ، ونزعِ حيائها، وسلبِ عفافها، إنَّما هي محاولةُ لهدمِ معالمِ القوةِ في الأمة، ليسهلَ على العدوِّ تدميرها، وسلب خيراتها.
وإنَّ العجبَ لا ينقضي من أمةٍ تنعمُ بشريعةِ ربها، وتتفيؤ ظلالَ نعمهِ الوارفة، في جنةِ العفاف، وبستانِ الفضيلة، ثُمَّ هي تنقضُ غَزْلَها، وتُخرب بيتها بأيديها وأيدي أعدائها! (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) [المائدة:50].
أقول قولى هذا واستغفر الله لي ولكم...
الحمد لله رب العالمين، وصلاة وسلام دائمين على الناصح الأمين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها المسلمون، فإنَّ المعركةَ الفكريةَ التي يُديرها أعداءُ الإسلام، أخبثُّ وأشدُّ لؤماً من المعاركِ العسكريةِ والاقتصادية، معركةٌ استنفرت فيها الأقلام، وحُشدت لها الكتبُ والصحفُ والمجلات، ومئاتُ المرتزقة والحاقدين.
وإنَّ أشدَّ ما يُصابُ به المسلمون، أن يتسلل المنافقون إلى صفوفهم، فيعيثون تخريباً وفساداً، وأصحاب الغفلةِ يسمعون لهم، وتُؤثر فيهم مكايدهم.
إنَّ المنافقينَ اليومَ لم يُعد هجومهم وحربهم قاصراً على القيادات الإسلامية، من علماء ودعاة، ولم يتوقف عندَ حدِّ الهجومِ على المؤسسات الإسلامية في هذه البلاد، من لمزٍ لنظامِ القضاء، أو سخرية بالفتوى، أو هجوم متعمد على الهيئات، وتهكمٌ برجالها.
لم يُعد المنافقون يكتفونَ بذلك، بل مع جلَدِ الفاجرِ، وعجزِ الثقةِ، أصبحوا يَتطاولون على بعضِ معالمِ الدين، ويتحدثونَ عن أمورٍ شرعيةٍ بأسلوبٍ ساخر، ينبئُ عن مرضٍ قلبي، وانهزاميةٍ نفسية.
لقد طال تغريبهم معظم مجالات حياتنا، وأصبحت البلاد بأمنها وعقيدتها وتلاحمها عرضة لمكرهم وكيدهم.
إنَّهُ، ومع خروجِ فئرانِ النفاق من جحورها، وظهورِ روائح المنافقين العفنة، ومع كثرةِ مبادراتهم التغريبية، فإنَّ المسؤوليةَ على أهلِّ البلاد كبيرةً، للحفاظِ على أمننا العقدي والفكري والأخلاقي.
إنَّ أولَّ واجب علينا تجاهَ النفاق والمنافقين، هو كشف عوارهم، وفضح أسرارهم، وتعريةِ لافتاتهم التغريبية، وبيان حقيقة أهدافهم.
لا بدَّ أن تُعلمَ الأجيالُ أنَّ المنافقين هم أشدُّ خطراً على البلادِ وأهلها من العدوِّ الخارجي: (هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ) [المنافقون:4].
وإنَّ على العلماءِ والدعاة، والكُتَّاب وحمَلة الأقلام، ورواد المنتديات، وأصحاب التغريدات، أن يوجِّهوا أقلامهم وأطروحاتهم، ومقالاتهم لكشفِ مؤامراتِ المنافقين، ومُجاهدتهم وفضحهم، بدلاً من الخوضِ في طرح عاطفي، أو الانشغال بتوافه الأحداث.
لابُدَّ أن تعلمَ الأمةُ أنَّ المنافقينَ هُم أعداؤها، والمناصرونَ لأعدائها، وإنَّ تستروا بعباءَةِ الوطنية، والتحفوا بلحافِ الإصلاح، (اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً) [المنافقون:2]، فيحلفون الأيمانَ كلَّما انكشف أمرهم، أو عُرفَ عنهم كيدٌ أو تدبير، أو نُقلت عنهم مقالةُ سُوءٍ في المسلمين: (يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا) [النساء:62].
وأمام ما قيل ويقال ونُشر وينشر من كيدهم للبلاد وأهلها وعقيدتها وولاتها فإن الواجب ليس السكوت والتغاضي وترك الأمة في حيرة مما قيل إنْ صدقا وإن كذبا، وإنما الواجب التحقيق فيما قيل ويقال، فيحاسب الفاعلون، أو يحاسب القائلون.
وإنَّ من الواجبِ أخذ الحذرِ من مكرهم وكيدهم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ) [النساء:71]، والحذرُ يقتضي معرفةُ صفاتهم وأساليبهم (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) [محمد:30]، والحذرُ يتضمنُ عدمُ الثقةِ بأقوالهم، فالكذبُ من السياساتِ المعمولِ بها عند المنافقين، (يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ) [التوبة:74].
وإذا كُنَّا مُطالبين بإعمالِ حُسن الظنِّ مع المؤمنين، فإنَّ من السذاجةِ المرفوضةِ أن نجعلَ المؤمنين كالمنافقين.
والحذرُ يتضمنُ عدمُ الميلِ إلى آرائهم، والتي غالباً ما تكونُ مطبوخةً في مصنعِ المصالحِ الذاتية، ويتضمنُ الحذر التعبئةَ العامةَ ضدهم، والحذر من تعاونهم مع العدو.
والحذر يتطلب ممارسة سياسة الممانعة والعصيان، والتحدي لأفكارهم وطرحهم؛ ليعلموا أن من وراء دين الله رجالاً ونساء صدقوا ما عاهدوا الله عليه.
وإنَّ محاربة النفاقِ والمنافقين، تكونُ بالبعدِ عن مجالسهم ومنتدياتهم، فأولى مراتب النفاقِ أن يجلسَ المؤمنُ مجلساً فيه آياتُ اللهِ يُكفرُ بها ويستهزأ بها، فيسكتُ أو يتغاضى، يُسمي ذلك تسامحاً أو يسميهِ دهاءً، أو يسميهِ سعةَ صدرٍ وأفق، وإيماناً بحريةِ الرأي. وهي هي! الهزيمةُ الداخلية، تدبُّ في أوصالهِ.
إنَّ الحميةَ للهِ ولدينِ الله ولآياتِ الله، هي آيةُ الإيمان، وما تفترُ هذه الحميةُ إلاَّ وينهارُ بعدها كلُّ سد، وينزاحُ بعدها كلُّ حاجز، وإنَّ الحميةَ لتكبتُ في أولِ الأمر عمداً، ثُمَّ تُهمدُ، ثُمَّ تُخمد، ثُمَّ تموت.
فمن سمع الاستهزاءَ بدينهِ في مجلسٍ، أو قرأهُ في صحيفةٍ، فإمَّا أن يدفعَ، وإمَّا أن يُقاطعَ المجلس وأهله، والصحيفة وملاكها.
فأمَّا التغاضي والسكوت، فهو أوَّلُ مراحلِ الهزيمة، وهو المُعبرُ بين الإيمانِ والكفرِ على قنطرةِ النفاق، (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آَيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) [النساء:140].
وإن كيدُ المنافقين يواجهُ بتعزيزِ جانبِ الأمرِ بالمعروف والنهي عن المنكر، والقيام بوظيفةِ الإصلاح، فما مِن شيءٍ أشدّ على المنافقين من إحياءِ هذه الشعيرة، ولذا كانت الهيئاتُ شوكةً في حلوقهم، وسداً أمامَ شهواتهم، فأفرغوا سيلَ حقدهم، وصبُّوا جام غيظهم على الحسبةِ ورجالها، ساخرين لامزين، (سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [التوبة:79].
وإن كيد المنافقين يواجه بالبعد عن كل المظاهر المخالفة للدين من ظلم للمرأة وعضل لها، وهضم لحقوقها، وكذا بنشر المنهج الشرعي في التعامل مع المرأة، وبيان حقوقها وواجباتها؛ لنقطع الطريق على المتربصين.
وإنَّ كيدَ المنافقين ومكرهم يواجهُ بالتوعيةِ الجادَّة للأسرةِ، نساءً وشباباً وأطفالاً، وتربيتهم على الجدِّيةِ في التمسكِ بالدين، والبعد عن الترخصِ والتحللِ من قيمِ الدين، بأيِّ مسمىً كان.
لابُدَّ أن تعي الأسرةُ المسلمة تخطيط الأعداء ودورهم في إفسادِ المجتمعات، ولا بُدَّ أن تعلمَ نساؤنا خطواتِ الإفسادِ التي مرت بها المرأةُ المسلمة في بلادٍ أخرى، وانتهت بها إلى التهتكِ والفجور.
ولابُدَّ أن تتعلم الأسرةُ المسلمة أحكام دينها، وحقوق كلِّ فردٍ في شريعةِ الإسلام، ولابُدَّ من تربيةِ الأجيالِ على الولاءِ للدين، وأخذِ أحكامهِ بقوة، وأنَّ شريعةَ الإسلامِ قائمة على التسليمِ لرب العالمين.
إنَّ المعلمَ والمعلمة في مدارسهم، والأب والأمّ في البيت، ومدرس الحلقةِ في حلقتهِ، والإمام في مسجده، والداعية في كلِّ مكان، هؤلاءِ جميعاً عليهم مسؤوليةُ حمايةِ المجتمعِ وحراسة الفضيلة، وتحصين أفرادِ الأمة عن أيِّ داءٍ تغريبي.
وختاما: يا عقلاءنا! يا علماءنا! يا رجالنا ونساءنا! إن جرذان العلمنة وفئران التغريبية ينخرون في سَدِّكُم لينهدم؛ فيجتاحكم سيل العرِم، ويبدل الله حالكم من أمن ورخاء، وطمأنينة ونماء، إلى خوف وجوع وشدة.
وإنهم -والله!- يمكرون، فاستيقظوا يا غافلين، مِن قبل أن تستيقظوا على أنقاض وحدتكم، وبقايا مبادئكم وأخلاقكم! (يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا) (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) [الرعد:11].
وإنهم -والله!- يخططون، وزرع تغريبهم قد نما، فهل تستبشر النفوس بِيَدٍ من الحق حاصدة فتقطع شوكتهم؟!.
يوم أن يقومَ كلٌّ منَّا بدورهِ، ويومَ أن تقفَ الأمةُ كلّها في وجهِ الأطروحات التغريبية، رفضاً وإنكاراً ومقاطعةً، حينها تخبو نار النفاقِ، وينقلبُ المنافقون بغيظهم لم ينالوا خيراً، ويصبحوا على ما أسَرُّوا في أنفسهم نادمين.
اللهم صَلِّ وسلِّمْ وبارك على مَن أدَّى الأمانة.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي