لقد اهتم ديننا الحنيف بأخلاق الفرد وسلوكه، فحثَّ هذا الدين العظيم على كل خُلق حميد وصفة جميلة، وحذَّر في الوقت ذاته من كل خلق سيئ وصفة قبيحة، ألا وإن من الخصال الذميمة التي حذركم الله منها وحذركم منها رسوله صلى الله عليه وسلم وبين لكم عظم خطرها والآثار السيئة المترتبة عليها خصلة الحسد، التي هي من أعظم خصال الشر والبغي ..
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 72- 73].
أما بعد:
فيا أيها الناس: اتقوا الله تعالى واشكروه، اشكروه سبحانه على نعمه العظيمة فقد فضلكم على كثير ممن خلق تفضيلاً.
أيها الإخوة المسلمون: لقد اهتم ديننا الحنيف بأخلاق الفرد وسلوكه، فحث هذا الدين العظيم على كل خُلق حميد وصفة جميلة، وحذر في الوقت ذاته من كل خلق سيئ وصفة قبيحة، ألا وإن من الخصال الذميمة التي حذركم الله منها وحذركم منها رسوله صلى الله عليه وسلم وبين لكم عظم خطرها والآثار السيئة المترتبة عليها خصلة الحسد، التي هي من أعظم خصال الشر والبغي..
لقد حذر منها النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: «لا تحاسدوا»، وقوله صلى الله عليه وسلم: «دبَّ إليكم داء الأمم قبلكم الحسد والبغضاء».
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «إياكم والحسد فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب» أو قال: «العشب».
إن الحسد أيها الإخوة المسلمون صفة شرار الخلق، لقد اتصف بالحسد إبليس فحسد آدم عليه السلام لما رآه فاق الملائكة؛ حيث خلق الله آدم بيده وأسجد له ملائكته وعلمه أسماء كل شيء وأسكنه جنته فما زال إبليس يسعى في إخراجه من الجنة حتى خرج منها..
الحسد هو الذي حمل أحد ابن آدم على قتل أخيه ظلمًا وبغيًا وحسدًا لما وهبه الله النعمة وتقبل منه القربان، وقد قص الله عز وجل علينا خبرهما في القرآن تحذيرًا لنا من الحسد وبيانًا بعواقبه الوخيمة..
الحسد أيها الإخوة المسلمون صفة شرار الناس، صفة اليهود كما ذكر الله ذلك عنه في مواضع من كتابه، فقد حسدوا نبينا محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم على ما آتاه الله من النبوة والمنزلة العظيمة فكفروا به مع علمهم بصدقه وتيقنهم أنه نبي الله وحسدوا هذه الأمة على ما من الله به عليها من الهداية والإيمان..
يقول الله عز وجل (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ) [البقرة: 109].
أيها الإخوة في الله: إن الحسد الذي حذّرنا منه هو أن يكره الإنسان وصول النعمة إلى غيره وأن يتمنى زوال النعمة عن أخيه، فمتى ما وجد هذا في نفس الإنسان فهذا هو الحسد عينه، وإنما حرم الإسلام الحسد لما في الحسد من الآثار السيئة والنتائج البغيضة الشنيعة..
فمنها أن الحاسد بحسده إخوانه على ما أتاهم الله من فضله يعترض على قضاء الله وقدره ويتهم ربه عياذًا بالله في قسمته الرزق بين عباده؛ ذلك لأن الحاسد يرى أن المحسود غير أهل لما أتاه الله وأن غيره أولى منه.
الحاسد منكر لحكمة الله في تدبيره فهو سبحانه وبحمده يعطي لحكمة ويمنع لحكمة بالغة والحاسد ينكر ذلك كله..
ومن آثار الحسد عياذا بالله أنه يورث البغضاء بين الناس؛ لأن الحاسد يبغض المحسود، وهذا يتنافى مع واجب الأخوة بين المؤمنين، يقول النبي: «لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانًا».
ومن أضرار الحسد أنه يحمل الحاسد على محاولة إزالة النعمة عن المحسود بأي طريق وبأي وسيلة حتى ولو بقتله عياذا بالله، كما قص الله تعالى عن ابني آدم في قوله: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ) [المائدة: 27]، وأخيرًا نفذ الجريمة، وباء بالإثم وخسارة الدنيا والآخرة فقتل أخاه حسدًا وبغيًا، وصار عليه كفل من دم كل نفس تقتل ظلمًا إلى يوم القيامة؛ لأنه أول من سن القتل. وسبب ذلك كله والدافع إليه هو الحسد والبغي عياذًا بالله.
كم من الناس اليوم نراهم يحسدون إخوانهم على ما آتاهم الله من فضله فيوصلون إليهم الأذى بأعينهم حتى يقعدوهم مرضى نتيجة لحسدهم عياذًا بالله ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في أمثال هؤلاء «على ما يعمد أحدكم على قتل أخيه إذا رأى أحدكم من أخيه خيرًا فليسأل الله من فضله وليدع له بالبركة» أو كما قال صلى الله عليه وآله وسلم.
ومن أضرار الحسد أنه يمنع الحاسد من قول الحق إذا جاءه عن طريق المحسود، ويحمله على الاستمرار بالباطل الذي فيه هلاكه كما حصل من إبليس لما حسد آدم وحمله ذلك على الفسق عن أمر الله والامتناع من السجود، فسبب له ذلك الطرد واللعنة واليأس من رحمة الله عز وجل.
أيها الإخوة المسلمون: ومن أضرار الحسد أنه يحمل الحاسد على الوقوع في الغيبة والنميمة؛ حيث يقدم بحسده على غيبة المحسود والسعاية بالنميمة بينه وبين غيره والغيبة والنميمة خصلتان قبيحتان وكبيرتان عظيمتان، يقول الله عز وجل: (وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا) [الحجرات: 12] ويقول صلى الله عليه وآله وسلم: «لا يدخل الجنة قتات» أي نمام.
ومن أضرار الحسد أنه يدفع الحاسد إلى ارتكاب ما نهى الله عنه ورسوله صلى الله عليه وسلم في حق المسلم من البيع على بيع أخيه أو يزيد عليه في السعر، وهو لا يريد الشراء أو يخطب على خطبته، وغير ذلك من أنواع المضارة التي دافعها الحسد والبغي وكل ذلك عياذا بالله أثرًا من آثار الحسد.
ومن أضرار الحسد على الحاسد نفسه أن الحسد يذهب حسنات الحاسد ويذهب أعماله الصالحة التي هي رأس ماله كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم «إياكم والحسد؛ فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار العشب».
والله لو لم يرد في ذم الحسد إلا هذا الحديث لكان كافيًا من الحذر في الوقوع فيه ولكان كافيًا للابتعاد منه.
ومن أضرار الحسد أن يجعل الحاسد دائمًا في همّ وقلق وغم ونكد لما يرى من تنزّل فضل الله على عباده فيحترق قلبه وتتقطع نفسه كمدًا وغمًّا؛ حسدًا لإخوانه المسلمين وهو لا يريد ذلك ولا يقدر على منعه فيبقى عياذا بالله في هم وقلق ونكد وضيق صدر، ولذا قيل:
اصبر على كيد الحسود *** فإن صبرك قاتله
فالنار تأكل بعضها *** إن لم تجد ما تأكله
ومن أضرار الحسد في المجتمع عباد الله أن الحسد يسبّب بين أفراد المجتمع ولو كانوا من الأقرباء ولو كانوا من الجيران ولو كانوا من الثقات، يسبب بينهم التقاطع والتباغض والتفكك والتفرغ، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «دب إليكم داء الأمم قبلكم الحسد والبغضاء».
أيها الإخوة المسلمون: من وجد في نفسه شيئًا من الحسد فليسعَ في إزالته وليجاهد نفسه على التخلص منه بأن يتذكر أن الحسد ضرر عليه في الدين والدنيا، وأنه لا يضر المحسود شيئًا..
يتذكر أن الأمور كلها من الخير والنعمة والفضل، وغير ذلك أن الأمور كلها إنما هي بيد بالله عز وجل، لا مانع لما أعطى الله، ولا معطي إذا منع الله، وعليه أن يسأل الله من فضله العظيم فإن الله عز وجل الذي وهب ذلك الإنسان مالاً أو نعمة أو فضلاً أو خيرًا هو وحده القادر على أن يهبك أيها الإنسان ما وهب لأخيك المسلم..
على الحاسد متى ما تحرك الحسد في قلبه ونفسه أن يكثر من قول: «ما شاء الله، تبارك الله، لا قوة إلا بالله» عليه أن يدعو لأخيه المسلم بالبركة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا) [النساء: 32].
أسأل الله عز وجل بمنه وكرمه أن يطهر قلوبنا من النفاق والرياء والحسد والبغضاء والشحناء إن ربي رحيم ودود..
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله اللطيف بعباده بما يجري به المقدور، المدبر لهم بحكمته وعلمه في الميسور والمعسور، الذي فاضل بينهم سبحانه في الذوات والصفات وجميع الأمور (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) [الملك: 2]، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له في التقدير والتدبير، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الذي فاق جميع الخلق بالصبر على الضراء والشكر عند السرور، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد: وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله مع جماعة المسلمين فمن شذ عنهم شذ في النار..
أيها الإخوة المؤمنون: اشكروا الله الذي خلقكم، اشكروا الله بقلوبكم وألسنتكم وأعمالكم، اشكروا الله الذي خلقكم ورزقكم وعافاكم وأنعم عليكم بنعم عظيمة ظاهرة وباطنة..
فإن المؤمن لو تفكر في نفسه لو أنه لا يزال يتقلب في نعم الله «إن أصابته ضراء صبر، فكان خيرًا له» ورفعًا لدرجاته وتكفيرًا لسيئاته، «وإن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له»، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن.
عليكم أيها الإخوة المسلمون بالقناعة فإن القناعة كنز والله لا ينفذ، القناعة غنى بلا مال وعز بلا جند ولا رجال، القناعة أن يرضى الإنسان بما قدر الله له، وأن ينظر إلى من هو أدنى منه في العافية والمال والأهل والعيال وغير ذلك من وجود الدنيا ومتعها، فإن ذلك أقرب إلى معرفة النعمة وشكرها..
لا تنظروا إلى من هو فوقكم في هذه الأشياء، فإن ذلك يؤدي إلى القلق وكفران النعماء، المعافى في بدنه أو ماله أو أهله ينظر يمنة ويسرة ليرى في المجتمع من ابتُلي بشيء من ذلك ليعرف قدر نعمة الله عليه..
وإذا كان هو مبتلى بشيء من ذلك فلينظر إلى من هو أعظم ابتلاء منه، فإنه ما من مصيبة تصيب العبد إلا وفي الوجود ما هو أعظم منها فإذا كان غنيًّا فلينظر إلى الفقير، وإذا كان فقيرًا، فلينظر إلى من هو أفقر منه، وإذا كان مريضًا فلينظر إلى من هو أشد من مرضا..
ومهما أُصيب المؤمن في شيء من دنياه فإن ذلك ليس بشيء عند سلامة دينه الذي هو عصمة أمره في دنياه وأخراه، فدين الإسلام ولله الحمد هو الكسب العظيم الذي نعتز به ونفاخر، الدين الإيمان الإسلام الصلاة الاستقامة هو التجارة التي تنجي من العذاب الأليم وتقرب العبد إلى المولى الرحيم.
فيا أيها المبتلى اصبر على البلوى واذكر من هو أعظم منك وأكثر ضررًا، وانظر إلى ما أنعم الله به عليك من الإيمان والصلاح والاستقامة وحسن الخلق، واستعن بذلك على مقاومة المصائب واحذر من الحسد فإنه محبط للأعمال ماحق للبركات والحسنات..
وأسأل الله عز وجل من فضله العظيم، نسأل الله عز وجل أن يوفقنا لصلاح الأعمال والأقوال وأن يوفقنا لأحسن الأخلاق وأن يهدينا لأحسنها لا يهدينا لأحسنها إلى هو وأن يصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا هو..
هذا وصلوا وسلموا رحمكم الله على نبيكم محمد بن عبد الله فقد أمركم ربكم عز وجل في كتابه فقال عز من قائل (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].
اللهم صلّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك نبينا محمد..
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي