وها هو رب العزة قد جاء: (وَجَاء رَبُّكَ وَ?لْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً)، ورأينا كيف يأمر الله تعالى أن يجاء بالنار، ولها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك، (وَجِىء يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ)، فتزفر زفرة لا يسمعها نبي مرسل ولا ملك مقرب إلا قال: نفسي نفسي، هنالك يأذن الله لأمة محمد صلى الله عليه وسلم بأن ترد الحوض، حوضًا عظيمًا يصبّ من نهر الكوثر من الجنة ..
أما بعد: فإننا قد وصلنا معكم في الحديث عن يوم القيامة وأهواله، وعن كربه وأحواله إلى أرض المحشر، إلى لحظة الحساب، ورأينا كيف يشفع الحبيب المصطفى -صلى الله عليه وسلم- في الناس ليتخلصوا من كربات الموقف حتى يأتي الله تعالى لفصل القضاء.
وشفاعته تلكم هي المقام المحمود الذي وعده الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- بقوله: (وَمِنَ الَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُودًا) [الإسراء:79]، والله لا يخلف الميعاد، وهناك شفاعة أخرى له -صلى الله عليه وسلم- يكرمه الله تعالى بها خاصة بأهل النار من عصاة الموحدين.
وها هو رب العزة قد جاء: (وَجَاء رَبُّكَ وَلْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً) [الفجر:22]، ورأينا كيف يأمر الله تعالى أن يجاء بالنار، ولها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك، (وَجِىء يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ) [الفجر:23]، فتزفر زفرة لا يسمعها نبي مرسل ولا ملك مقرب إلا قال: نفسي نفسي، هنالك يأذن الله لأمة محمد -صلى الله عليه وسلم- بأن ترد الحوض، حوضًا عظيمًا يصبّ من نهر الكوثر من الجنة، آنيته عدد النجوم، ماؤه أبيض من اللبن وأحلى من العسل، وريحه أطيب من ريح المسك، يشرب منه المؤمنون والحر قد ملأ المكان، والعطش قد أنهك الأبدان، فيشربون شربة هنيئة مريئة لا يظمؤون بعدها أبدًا. نسأل الله العظيم من فضله، ولكن ليس كل من انتسب إلى أمة النبي -صلى الله عليه وسلم- ينال هذا الفضل العظيم والخير العميم، كلا، فقد روى البخاري ومسلم عن جمع من الصحابة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أنا فرطكم على الحوض -أي: سابقكم- وليرفعن إليّ رجال منكم حتى إذا أهويت لأناولهم اختلجوا دوني -أي: أخذوا مني بسرعة- فأقول: أي رب: أصحابي أصحابي، أمّتي أمتي، يقول: لا تدري ماذا أحدثوا بعدك"، فتسحبهم الملائكة وتمنعهم من ورود الحوض، لأنهم ما قدروا الله حق قدره، ولا اتقوه حق تقاته، ومن لم يعرف الله في الرخاء لا يعرفه الله في الشدة. هنالك يقول المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: "سحقًا سحقًا لمن بدّل بعدي".
يا زارع الخـير تحصـد بعـده ثمرًا *** يا زارع الشر موقوف على الوهن
يا نفس كفي عن العصيان واكتسبي *** فـعلاً جميلاً لعـل الله يـرحمنـي
يا نفس ويحك توبي واعمـلي حسنًا *** عسـى تجازين بعد الموت بالحسن
وإني سائلكم عن الوحوش التي حشرت مع الإنس والجن، قال تعالى: (وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ) [التكوير:5]، أين هي الآن؟! ما مصيرها اليوم؟! هل على الوحوش والطير والسباع والهوام والدواب حساب؟! إي وربي، واستمعوا إلى الحبيب وهو يقول يومًا لأبي ذر وقد رأى شاتين تنتطحان: "أتدري فيم تنتطحان؟!"، قال أبو ذر: لا، قال -صلى الله عليه وسلم-: "ولكن الله يدري، ولسوف يقضي بينهما يوم القيامة". وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة مرفوعًا: "لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء".
يقتص من الدواب التي لا عقل لها ولا تمييز، ليعلم الإنسان يومئذ أن هذا اليوم هو يوم العدل التام، ليعلم أن حساب المكلفين أعسر وأصعب.
حتى إذا فرغ منهم قال لها: كوني ترابًا. قال عبد الله بن عمرو: "عندئذ يقول الكافر: (يَـالَيْتَنِى كُنتُ تُرباً) [النبأ:40]".
وإذا الوحوش لدى القيامة أحشـرت *** وتهتكـت للظـالميـن ستـور
وإذا الجنـيـن بـأمـه متعلــقٌ *** يخـشـى القصاص وقلبه مذعور
هـذا بلا ذنـب يخــاف لهولـه *** كيـف المُصر على الذنوب دهور
وبعد ذلك يأتي دور العباد، وقد عرضوا على ربهم صفًّا صفًّا، لا أحد منهم غائب، وقد أحدقت بهم الملائكة من كل جانب. ويأمر الله بالكتب وصحائف الأعمال، فتأتي بها الملائكة ويؤتى كل مخلوق كتابه، وهذا هو العدل التام؛ قال تعالى: (وَكُلَّ إِنْسَـانٍ أَلْزَمْنَـاهُ طَـئِرَهُ فِى عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ كِتَابًا يَلْقَـاهُ مَنْشُوراً * اقْرَأْ كَتَـابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا) [الإسراء:13، 14].
واستمعوا إلى قول لقمان لابنه وهو يعظه: (يابُنَىَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِى صَخْرَةٍ أَوْ فِى السَّمَـاوتِ أَوْ فِى الأرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) [لقمان:16].
هنالك تبيضّ وجوه وتسودّ وجوه، ترتعد القلوب، وتطير العقول، ويرى المجرمون الكتب فيقرؤونها ويقولون: (ياوَيْلَتَنَا مَا لِهَـاذَا الْكِتَـابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرًا وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) [الكهف:49]، الكتاب للحساب، ثم يؤمر فيجاء بالميزان للجزاء، يجاء بالميزان وقد سد ما بين السماء والأرض فتقول الملائكة: أي ربنا: من يزن هذا؟! فيقول: من شئت من خلقي، فيقولون: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك.
هنالك يأمر الله تعالى بسبعين ألفًا من أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- لتدخل الجنة بلا حساب ولا عذاب. أولئكم الذين بلغوا القمة في توحيد رب العالمين، هم الذين توكلوا على الله حق توكله فلم يتطيروا ولم يسترقوا ولم يكتووا، ما أعظم فرحتهم وما أكبر سعادتهم، يقال لهم: (وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِى أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) [الزخرف:72]، نسأل الله العظيم من فضله العظيم.
ويبقى سائر الخلق، وجلال الحي القيوم قد غمر النفوس والمكان بالهيبة والجلال والعظمة.
وتصور نفسك في ذلك الموقف الرهيب واليوم العصيب، ولا تسمع إلا همس الناس: نفسي نفسي، فيا هول ذلك اليوم وأنت تنادي معهم، وترى حولك الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين، فتدرك حينها أنك موقوف على خطر عظيم. وفجأة، تسمع مناديًا ينادي باسمك: فلان ابن فلان، فيتقدم نحوك ملائكة لم يمنعهم اشتباه الأسماء باسمك واسم أبيك بغيره، بل عرفوك وأدركوا أنك المطلوب، هنالك تبلغ القلوب الحناجر، ويتغير لونك وتضطرب جوارحك تقول: إلى أين يا ملائكة الرحمن؟! فيقال لك: هلمّ إلى العرض الأكبر. فتتخطى بك الصفوف إلى ربك فتقف بين يديه، وقد رفع الخلائق كلهم أبصارهم إليك.
فتصور نفسك -يا عبد الله- وأنت بين يدي الله الواحد القهار، وبيدك صحيفة مخبرة عن كل أعمالك فاضحة لكل أفعالك، لا تغادر بلية كتمتها ولا صغيرة سترتها، وتقرأ ما فيها بلسان كليل وقلب عليل، كم من سيئة قد كنت أخفيتها قد أظهرها الكتاب وأبداها، وكم من عمل ظننته خالصًا فتجده هباءً منثورًا، فيا حسرة قلبك على ما فرطت في طاعة ربك، (أَحْصَـاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ) [المجادلة:6].
دع ما كان عنك في زمن الصبـا *** واذكـر ذنـوبـك وابـكها يا مذنب
واذكـر مناقشة الحساب فإنــه *** لا بُد يُحصى ما جنيتَ ويُكتـــبُ
لم ينسـه الملكان حـين نسيتـه *** بـل أثبتـاه وأنـت لاهٍ تـلـعـب
والنفس فيـك وديعةٌ أودعتهـا *** ستـردّهـا بـالرغـم منك وتـسلب
أسال الله العظيم أن يبارك لي ولكم في القرآن العظيم، وأن ينفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، واستغفروا الله إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله على إحسانه وعلى نعمه وجزيل امتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه السائرين على منواله.
أما بعد:
فاعلموا -عباد الله- أن الله -تبارك وتعالى- قد أقسم في كتابه الكريم أنه سوف يسألنا عن أعمالنا جميعًا فقال: (فَوَرَبّكَ لَنَسْـئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) [الحجر:92، 93]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيم أفناه، وعن علمه فيم فعل، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن جسمه فيم أبلاه"، سوف نسأل عن شربة الماء أشكرناها أم كفرناها كما قال تعالى: (ثُمَّ لَتُسْـئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) [التكاثر:8].
فلا تتصور نفسك تنجو من الحساب وخير خلق الله من الرسل سوف يسألون قال تعالى: (فَلَنَسْـئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْـئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ) [الأعراف:6]، (يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنتَ عَلَّـامُ الْغُيُوبِ) [المائدة:109].
وتصور عيسى ابن مريم من أولي العزم من الرسل واقفًا بين يدي الله تعالى وجلاً خائفًا، ويناديه الله: (ياعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَءنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِى وَأُمّىَ إِلَـاهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَـانَكَ مَا يَكُونُ لِى أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِى بِحَقّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِى وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّـامُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِى بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ رَبّى وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِى كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلّ شَىْء شَهِيدٌ * إِن تُعَذّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [المائدة:106-108]، لذلك كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يتذكر هذا الموقف فيبكي بكاء شديدًا، فقد قرأ عليه مرة ابن مسعود -رضي الله عنه- سورة النساء، حتى إذا بلغ قول الله سبحانه: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَـؤُلاء شَهِيداً * يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً) [النساء:41، 42]، فبكى -صلى الله عليه وسلم- وقال: "حسبك يا ابن مسعود".
قال -صلى الله عليه وسلم-: "من نوقش الحساب عذب"، قالت عائشة: يا رسول الله: أليس الله تعالى يقول:(فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَـابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً) [الانشقاق:7، 8]، فقال: "يا عائشة: ليس ذلك هو الحساب، إنما ذلك العرض، ومن نوقش الحساب عذب".
إنما ذلكم العرض، معنى العرض: أن يقف العبد بين يدي الله وبيدك صحيفة أعمالك تقرؤها على مهل، واستمع إلى كيفية العرض في حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حيث يقول: "ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة"، فإن كان من المؤمنين الصادقين الذين يحاسبون أنفسهم حساب الشريك الشحيح يخاطبه الله تعالى قائلاً: أي عبدِ: أتذكر وأنت كذا؟! أتعرف ذنب كذا؟! فيقول العبد وهو خائف: نعم يا رب أذكر وأعترف، حتى إذا ظن أنه هالك لا محالة يقول تعالى: سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم، وأبدلها جميعًا حسنات.
أذنبت كل الذنوب لسـت أنكرهـا *** وقد رجوتك يا ذا المـن تغفرهـا
أرجـوك تغفـرها في الحشر يا سندي *** كما كنت يا أملي في الدنيا تسترها
فيدنيه الله تعالى منه، ويعطيه كتابه بيمينه، فلا يصدق العبد ما يسمع وما يرى، فيشرق وجهه وينبعث النور من أعضائه ويقول الله له: انطلق وبشر إخوانك ومن هم مثلك أن مصيرهم اليوم إلى الجنة.
ينطلق في أرض المحشر فرحًا مسرورًا رافعًا صوته منبسطًا كما يصرخ الطفل الذي نجح في الامتحان يقول: (هَاؤُمُ اقْرَؤُاْ كِتَـابيَهْ * إِنّى ظَنَنتُ أَنّى مُلَـاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِى عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ * فِى جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُواْ وَشْرَبُواْ هَنِيئَاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِى الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ) [الحاقة:19-24]، نسأل الله من فضله.
وأما الآخر -أعاذني الله وإياكم من الخزي والسوء- فيقف بين يدي الله خاسئًا ذليلاً، ذلك هو الذي أمره الله فما ائتمر، والذي نهاه فما ازدجر، أمره الله بالتوحيد فأبى إلا الشرك، أمره الله بالتوكل عليه فأبى إلا اللجوء إلى العرافين والكهنة والمنجمين، أمره الله بالصلاة فأبى إلا تركها، وأمره الله بإحسانها فأبى إلا أن ينقرها كما ينقر الغراب، فلا يقيم ركوعًا ولا يتم سجودًا ولا جلوسًا، أمره الله ببر الوالدين فأبى إلا العصيان، أمره الله أن بكف اللسان فأبى إلا الغيبة والكذب والسب والشتم، أمره الله بأن يستر بناته فأبى إلا تقليد الكفار والفجار، أمره الله بتربية أولاده فأبى إلا أن يدعهم أمام الفتن ومزالق الهوى، أمره الله بكل خير فما أطاع، يقول الله له: أي فلُ، -أي: فلان، ولا يقول له عبدي-، أتذكر ذنب كذا في مكان كذا في يوم كذا؟! فيقول: يا رب آمنت بك وبكتبك وبرسلك وصلّيت وتصدقت، ويثني بخير ما استطاع، فيقول الله له: إذن نبعث عليك شاهدًا عليك. فيتفكر في نفسه: من ذا يشهد عليه؟! هنالك يختم الله على فمه ويقال لفخذه وعظمه ولحمه: انطقي، فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بعمله، فيقول هنالك: سُحقًا لكُنَّ فعنكن كنت أناضل.
فيؤتيه الله كتابه بشماله، ويقول له: انطلق فبشِّر كل من هو مثلك أن مصيرهم اليوم إلى النار، فينطلق في أرض المحشر وجهه أسود، حزين، ترهقه قترة، ويتمنى لو يفتدي من عذاب يومئذ بأقرب الناس إليه، ويصرخ صرخة اليائس المخفق: (يالَيْتَنِى لَمْ أُوتَ كِتَـابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يالَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنّى مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنّى سُلْطَـانِيَهْ * خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِى سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاْسْلُكُوهُ) [الحاقة:25-32].
وبعد ذلك كله يأتي القصاص والميزان، فإما إلى الجنان وإما إلى النيران.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي