الانتكاسُ طريقٌ مُظلم، يسلُكُهُ الإنسانُ حينما يضعفُ إيمانهُ، فالإيمانُ حصنٌ عن كلِّ شهوةٍ وشبهة، وإذا خالطت بشاشتهُ القلوبَ، ولّد أمةً ثابتةً لا تهزُّها الخطوب، ولا تُزلزِلها الشهواتُ والشبهات، ومتى ذاقَ العبدُ حلاوةَ الإيمانِ ثبتت قدمهُ في روضةِ الاستقامة... قد يتوبُ شابٌ إلى اللهِ، ويسلكُ طريقَ الاستقامةِ والخير، لكن الإيمان لم يدخل قلبه، فتعترضُهُ شهوةٌ أو شُبهةٌ، فيهوي أمامها، وينكِصُ على عقبيه، نسألُ اللهَ العافية ..
الحمد لله يغفر الذنوب ويتوب على من يتوب، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك مقلب الأبصار والقلوب وغلام الغيوب، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله سيد الثابتين في السلم والحروب، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أهل التقى والنهى عند طلوع الشمس وعند الغروب وسلم تسليمًا.
أما بعد: فيا أمة الإسلام: أوصيكم ونفسي بوصية الله للعالمين أن اتقوا الله.
الاستقامة والهداية جنة غناء باردة الهواء، وارفة الظلال، يانعة الثمار (تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا) [إبراهيم: 25] جنة لا يدخلها إلا من اصطفاه الله (وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) [البقرة: 105].
فئة من الناس حرمت خيرات هذه الجنة فغادرتها إلى ظلمات الذنوب وجحيم العصيان خوفًا أو طمعًا، وما بين حين وآن يتسابق على الطريق أقوام وتفقد شجرة التدين ورقة من أوراقها ..
كثر الناكسون والمنتكسون ممن كان ظاهرهم الخير والصلاح والاستقامة وإن شاب استقامتهم ما شابه من النقص والخلال ..
هناك الناكبون عن طريق السلف ممن أغرتهم المتغيرات وزاغت بأبصارهم المستجدات واستوحشت نفوسهم قلة السالكين واغتروا بكثرة الهالكين فأثروا دنيا زائلة واختاروا خميصة وخميلة وضجروا بصبر الغرباء ولم يطيقوا السير في طريق قد التفت حوله الأشواك. والناس ينظرون فإما شامتون أو صامتون..
وأما الموقف الأسلم فيتجلى في وقفات وهمسات ..
فأولاً: لا يصح التساهل في إطلاق وصف الانتكاس على كل من بدأ منه تغير مظهري أو تلبس بحكم الضعف البشري، وإنما الانتكاس الحقيقي ترك الواجبات والإصرار على فعل المحرمات واستمرائها ومحاولة تبريرها والمجاهرة بها والهجوم على كل من عارضه فيها، فعلامة المنتكس مجاهرته بالمعصية دون خوف أو حياء وتركه للمجتمعات الصالحة والتحاقه بركب المنحرفين وتغير نظرته للتدين والمتدنيين وترك حياة المستمتع ليعيش في المستنقع وهجر النور والهدى ليؤثر الظلمات والردى.
ثانيا: إن الانتكاس ظاهرة تبعث على القلق وتدعو المسلم الجاد ألا يقف موقف انحياز تجاهها فخسارة فرد من أبناء الأمة بعد أن هداه الله وأنقذه لا يمكن أن يرضى به مسلم ..
إنها ظاهرة مؤلمة لأنها تمثل تآكل من الداخل في وقت ومرحلة الأمة فيها أحوج ما تكون إلى تنامي هذا التيار المبارك ..
إنها تمثل إهدارًا لجهود خيرة من الشباب والدعاة في الدعوة والتربية، إن الانتكاس عن الهدى جرم عظيم لأن المنتكس بفعله هذا يشوّه الحق الذي تنكر له ويشكك بالدعوة التي نكس منها كما أنه يشمت الأعداء ويغري الأشقياء ويضعف القول ويخلخل الصف.
لقد شنع كتاب الله على المتساقطين الزائغين بعد الهداية فأعلن خسارتهم (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ) [الحج: 11].
إن ذلك من تزيين الشيطان (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ) [محمد: 25].
ودعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما قال: "إني على الحوض حتى أنظر من يرد عليَّ منكم وسيدخل أناس دوني، فأقول: يا رب، مني ومن أمتي، فيقَالَ: هل شعرت ما عملوا بعدك ؟ والله ما برحوا بعدك يرجعون على أعقابهم، فأقول سحقًا سحقًا لمن بدل بعدي".
فكان ابن أبي مليكة يقول: "اللهم إنا نعوذ بك أن نرجع على أعقابنا أو أن نُفتن عن ديننا ".
إن المنتكس يعارض بفعله قول الله: (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى) [طه: 123]، ويدعو بسلوكه وانتكاسه إلى حياة الضلالة والشقاء، إنَّ الانتكاسَ قدحَ في الشريعةِ ونورها وضيائها، وتشكيكٌ في الاستقامةِ وآثارها.
الانتكاس يا مسلمون طريقٌ شائك يسلُكُهُ الإنسانُ بنفسهِ وإرادتهِ، لأنَّ اللهَ لا يظلمُ أحداً، وقد هدانا النجدين، وألهمَ نفُوسنا فجُورَها وتقواها..
الانتكاسُ طريقٌ مُظلم، يسلُكُهُ الإنسانُ حينما يضعفُ إيمانهُ، فالإيمانُ حصنٌ عن كلِّ شهوةٍ وشبهة، وإذا خالطت بشاشتهُ القلوبَ، ولّد أمةً ثابتةً لا تهزُّها الخطوب، ولا تُزلزِلها الشهواتُ والشبهات، ومتى ذاقَ العبدُ حلاوةَ الإيمانِ ثبتت قدمهُ في روضةِ الاستقامة .
قد يتوبُ شابٌ إلى اللهِ، ويسلكُ طريقَ الاستقامةِ والخير، لكن الإيمان لم يدخل قلبه، فتعترضُهُ شهوةٌ أو شُبهةٌ، فيهوي أمامها، وينكِصُ على عقبيه، نسألُ اللهَ العافية.
وثالثا: إن شر الانتكاسات ما كان من أهل الدعوة والمنتسبين للعلم والصلاح، ذلك الانتكاس الذي يتجلى في مظاهر منها: الحمل على التراث واتهامه بالبدائية، ومحدودية الصلاحية والنفع، والحمل على العلماء وطلاب العلم والمؤسسات الدعوية قاطبة، ووضعها في قفص الاتهام، وإلقاء تبعات التخلف والتقهقر الحضاري للمسلمين عليها ..
والإعجاب بالحضارة المادية الغربية وبصناعها حتى الانبهار حتى صيّرها بعضهم معيار الفلاح، وغاية الوجود والدعوة للتجديد والإلحاح في ذلك، وإعادة قراءة النصوص قراءة تتناغم مع المدنية والحضارة والانفتاح على الآخر..
وتمييع عقيدة الولاء والبراء، تحت شعارات "التسامح" و"التقريب" و"المعايشة" و"السلم" و "الحب الفطري" ..
تكرار المصطلحات المحدثة العائمة التي تحتمل حقًّا وباطلاً في أطروحاتهم، مثال (التعايش والحوار والتسامح والتقريب والآخر.. وإحياء فكر الإرجاء وبثه بين عامة الناس تمهيدًا للعبث بالشريعة وأحكامها وتسييسها وفق الأهواء والأذواق والتقليل من خطورة أعداء الدين من كفار ومخالفين، وأن تحذير العلماء والغيورين داخل تحت وهم المؤامرة، أو ما يُسمى بنظرية المؤامرة..
والرفع من شأن الفساق والمخالفين، والمطالبة بإنصافهم، ولفت الأنظار إلى أنهم يملكون شيئا من الحقيقة وأدوات الإصلاح..
وإدمان النظر في كتب الفلسفة الغربية والشرقية، ونقل غثائياتها وإلحادها للمتلقي العامي، والدندنة حول مصطلح الخلاف والتيسير؛ بقصد تكريس منهج تتبع الرخص والركون إلى أهل الباطل واستحسان صحبتهم مع عدم النكير عليهم فيما يصدر منهم من كفر وإلحاد ومخالفات شرعية ظاهرة، وهذا عياذا بالله قد يؤول بمن لازالت عنده بقايا من منهج السلف إلى الانحراف الكلي والوقوع في بؤرة الإلحاد (وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا) [المائدة: 41].
رابعًا: حينما زل من زل وغادر جنة الاستقامة من غادرها شهوة أو شبهة توالت ردود الغيورين ووصلت بهم الغيرة حدا ذهبت بهم نفوسهم حسرات وجنحوا إلى لغة الاستعطاف والترجي مناشدين المنتكس أن يعود إلى رشده ويتخلى عن غيه ..
وجميل أن تحترق القلوب غيرة على سقوط ورقة من شجرة التدين والصلاح، لكن أن يصل الأمر بنا إلى حد الاستجداء والاستعطاف والتذلل للمنتكس فذلك مما لم نأمر به شرعا..
إن المنتكس يجب أن تبلغه فقط رسالة من الله تقول (فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) [الزمر: 41].
ويجب أن يقرع سمعه فقط نداء الله "يا عبادي إنكم لم تبلغوا نفعي فتنفعوني يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم، كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئًا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم، ما نقص ذلك من ملكي شيئًا، يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه".
إن المنتكس يجب أن يعلم حقيقة واحدة فقط هي أن الدين ماضٍ والله ناصره ولن تهزه سقطات المتساقطين والمنهزمين، وأن الإنسان إنما ينفع أو يضر نفسه والله الغني وأنتم الفقراء .
لقد قال ربنا (فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ) [فاطر: 8] وقال تعالى: (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آَثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا) [الكهف: 6].
إن واجبنا تجاه المنتكس هو إيصال الحق له وبيان السبيل القويم والطريق المستقيم، أما التعامل مع القلوب فأمره إلى علام الغيوب ومن يقلب القلوب ويهدي ويضل (لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ) [الغاشية: 22] (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) [القصص: 56].
نسأل الله أن يثبتنا على دينه وألا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا وأن يصرف قلوبنا إلى طاعته ويلزمنا طريق الحق إلى يوم الحق، أقول هذا القول وأستغفر الله من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
الحمد لله رب العالمين وصلاة وسلامًا دائمين على خير خلقه أجمعين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه وثبت على منهجه إلى يوم الدين ..
أما بعد: أيها المسلمون: أما خامس الوقفات: فينبغي أن نعلم أن لكل حالة منتكسة وضعها الخاص وهذا يعني أن طبيعة التعامل مع المنتكسين ليست على درجة واحدة، فينبغي أن نعلم أن الإنسان الذي عرف الهدى واستقام ثم انحرف يحتاج إرجاعه إلى صبر وطول نفس ومثل هذا يحتاج إلى نوعية أخرى تخاطبه غير النوعية التي كان يعيش معها يوم أن كان ملتزما، والسبب في ذلك أن هذا المنتكس قد يكون حاملا لانطباع غير جيد عن مجموعته الأولى فيصده ذلك عن لين الجانب والرضوخ للحق.
ومثل هذا لا يحسن أن يؤتى على سبيل التوبيخ والذم والتقريع، بل ينصح بالتي هي أحسن، ويفتح باب الحوار معه ويستمع إليه، ويعطى فرصة ليُبين ما الإشكالات التي شجّعته على النكوص، وما لأخطاء التي أثرت عليه ليصل إلى ما وصل إليه، وبعد ذلك يُجاب عليه وتُدفع الشبهات وترفع الإشكالات ويؤخذ بيده,وما كان الرفق في شيء إلا زانه..
من المنتكسين من يكون في خطواته الأولى للتراجع عن الاستقامة، فمن كانت هذه حاله فالأولى الاقتراب منه جدا دون أن يشعر بأنه يعامل كمنتكس،ويشجع على أعمال الخير ويُطالب بحضور مجالس الصالحين ليرتقي إيمانه فلعل الأمر فتور بعد شِرَه.
من المنتكسين من تحرك في هذا الاتجاه المظلم بسبب بعض الأخطاء التي وقعت عليه من مجموعته الدعوية أو بسبب عدم تآلف بينه وبينهم..
فينبغي إقناعه بأن المؤمن يتمسك بدينه ولو كان وحيدًا فريدًا ويبين له أن الالتزام ليس حكرًا على هذه المجموعة الطيبة، فإن مجالس الصالحين كثيرة فلو عاش مع غير هذه المجموعة لكانت النهاية المشرقة لهذه المشكلة وهذا خير له من النكوص.
وصية أخرى: وهي ألا تقطع العلاقة بالمنتكس ولو أصر على نكوصه وجاهر بمعاصيه فإن من المنتكسين من يزيد فحشه وفجوره بسبب غلظة الصالحين وشدة تعاملهم معه بعد تغير حاله ومادام أنه لم يرتد عن الإسلام ولكن تساهل في مواقعة الذنوب، فإن حق المسلم مازال باقيًا .
والواقع يشهد أن بعض المنتكسين إنما تراجع لنزوة وشهوة جارفة أخذت به حتى إذا أروى قلبه المتعطش إلى المعاصي أُصيب بالملل واكتشف أنها لذة تنقطع وتبقى حسراتها، وعندها يعلم علم اليقين أن لا لذة ولا نعيم ولا طمأنينة إلا بالالتزام بالدين والسعي فيما يرضي الله حينها سيتذكر أخاه الصالح الذي لم ينقطع عن الاتصال به والسؤال عن حاله فيسارع إلى لقائه ليُعلن رجوعه إلى الله فالمؤمن قوي بإخوانه.
وأخيرًا .. أقول لنفسي ولك يا أخي إن هذه الهداية والتوفيق لسلوك الطريق المستقيم والسير في ركاب الصالحين والتجافي عن طريق الضالين إن ذلك كله ليس بجهدنا ولا ذكائنا وحرصنا بل هو أولاً وأخيرًا نعمة من الله سبحانه تستوجب الشكر والاعتراف بالفضل لله وحده وتستحق المحافظة عليها والعناية بها وهي منة من الله والله يختص برحمته من يشاء (اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) [الحجرات: 18].
أخي رعاك الله: إن نعمة الهداية أغلى ما يملكه المرء وأتم وأكمل نعمة يمن بها الله عليه والاستقامة تاج على رؤوس الصالحين لا يراه إلا المنحرفون، فهل ندرك عظم مسئوليتنا في الحفاظ على هذه النعمة والسعي للثبات على هذا الصراط المستقيم ..
وحين نرى الذين ركبوا طريق الغواية وضلوا سواء السبيل ندرك خطورة هذا المسلك ويضع المرء يده على قلبه سائلا الله الثبات والهداية، ورحم الله ابن خزيمة:
واجعـل لقلبك مقلتين كلاهما *** بالحق في ذا الخلق ناظرتان
فانظر بعين الحكم وارحمهم بها ***إذ لا تـرد مشيئـة الـديان
وانظر بعين الأمر واحملهم على *** أحكــامـه فهما إذًا نظران
واجعل لقلبك مـقلتين كـلاهما *** من خشية الرحمـن باكيتان
لو شاء ربك كنت أيـضاً مثلهم *** فالقلب بين أصابع الرحمـن
إنه هنا يشعر بعظم نعمة الله عليه بالهداية، إن من اكتوى بنار الغواية ولا يقدر منة الله عليه في الإيمان إلا من ذاق ويلات الفسوق، والعصيان .. من ضياع وحيرة واضطراب (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) [الحجرات: 18]، ومن أدرك قدر هذه النعمة عز عليه فراقها ومن تذوق حلاوة هذه المنة كره مرارة البعد عنها كما يكره أن يلقى في النار .
وتذكر نعمة الهداية مما يعزز في القلب الثبات عليها وطلب أسباب بقائها ولذلك يذكر الله عباده بنعمته هذه قائلا (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا..) [آل عمران: 103].
أخي أيها المستقيم وأنت تعيش في جنة الاستقامة وتنهل من رحيق العبادة فلا تنس من نكسوا على أعقابهم وارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى، لا تنس من رأى الحق لكنه انسلخ من آيات الله وتجرد من الغطاء الواقي والدرع الحامي وانحرف عن الهدى ليتبع الهوى ويهبط من الأفق المشرق فيلتصق بالطين المعتم فيصبح غرضًا للشيطان لا يقيه منه واقٍ ولا يحميه منه حامٍ فيتبعه ويلزمه ويستحوذ عليه ..
لا تنسوا أولئك المنتكسين من نصحك ودعوتك ذكّرهم أيّ نعيم تركوه وأيّ خير فارقوه، وإني محذرك أخي من الشماتة والانشغال بعيوب الآخرين فلا تشمت بأخيك فيعافيه الله ويبتليك ..
قال الإمام أبو حاتم رحمه الله " الواجب على العاقل لزوم السلامة بترك التجسس عن عيوب الناس، مع الاشتغال بإصلاح عيوب نفسه؛ فإن من اشتغل بعيوبه عن عيوب غيره أراح بدنه، ولم يتعب قلبه فكلما اطلع على عيب لنفسه، هان عليه ما يرى مثله من أخيه، وإن من اشتغل بعيوب الناس عن عيوب نفسه عمي قلبه وتعب بدنه، وتعذر عليه ترك عيوب نفسه، وإن من أعجز الناس من عاب الناس بما فيهم وأعجز منه من عابهم بما فيه من عاب الناس عابوه ".
وعن ابن سرين قال: "كنا نُحَدَّث أن أكثر الناس خطايا أكرههم لذكر خطايا الناس ".
قال ابن سماك: " إنه ينبغي لك أن يدلك على ترك القول في أخيك ثلاث خلال:
أما واحدة: فلعلك أن تذكره بأمر هو فيك، فما ظنك بربك إذا ذكرتَ أخاك بأمر هو فيك ؟ ولعلك تذكره بأمر فيك أعظم منه، فذلك أشد استحكامًا لمقته إياك، ولعلك تذكره بأمر قد عافاك الله منه، فهذا جزاؤه إذ عافاك، أما سمعت: ارحم أخاك، واحمد الذي عافاك".
سمع ابن سرين رجل يسبّ الحجاج فقال: " مه أيها الرجل إنك لو وفيت الآخرة كان أصغر ذنب عملته قط أعظم عليك من أعظم ذنب عمله الحجاج، واعلم أن الله عز وجل حكم عدل إن أخذ من الحجاج لمن ظلمه شيئًا فسيأخذ للحجاج ممن ظلمه فلا تشغلن نفسك بسب أحد"،
ولا بد أن يعلم أن الانشغال والغفلة عن عيوب النفس سبب للانتكاس والارتكاس، قال صلى الله عليه وسلم: "إذا قال الرجل هلك الناس فهو أهلكهم".
وعيب الآخرين كثيرًا ما يكون نابعًا عن الرضا عن النفس والإعجاب بها بل والكبر عياذًا بالله فإن الكبر بطر الحق وغمط الناس، وبحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم .
وينبغي الحذر من إلباس الباطل ثوب الحق بزعم النصيحة للمسلمين والتحذير من المبتدع وغير ذلك من المسوغات للعيب والقدح في الآخرين فإن لكل ذلك ضوابط لا بد أن تراعى فإن لم تتيقن فالسلامة لا يعدلها شيء "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت ".
ويقيننا أن الفتنة أقرب إلى أحدنا من شهيقه وزفيره فالمتعين على كل عاقل أن يكون على حذر وخوف أن يُصاب في دينه وما يُصاب المرء بأعظم من مصابه في دينه ومن أعظم ما تُستدفع به الشرور في الدين والدنيا: الدعاء وكثرة اللجأ إلى الله تعالى أن يثبت قلوبنا على دينه الذي رضيه لنا وأن يصرف عنا ويعيننا من مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن ..
فكما نتوكل على الله في أمور دنيانا علينا أن نتوكل عليه سبحانه في أمور ديننا .
اللهم إنا نسألك الثبات حتى الممات ..
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي