حقا إنها منتنة

الخضر سالم بن حليس اليافعي
عناصر الخطبة
  1. مشهد من مشاهد الحمية الجاهلية والعصبية المنتنة .
  2. قوة العصبية في المجتمع الجاهلي .
  3. أهمية الرابطة الإيمانية بين المسلمين .
  4. مساوئ إعانة العشيرة على الباطل .
  5. فضائل انتشار معاني الإخاء والإيثار في المجتمع .

اقتباس

رباط الإسلام ونقاء عقيدته يذيب العصبية، ويستعلي على المصلحة الشخصية والقبلية والحزبية، ويكون المسلم ضد هواه، صلته بربه قوية، علاقته مع إخوانه المؤمنين وطيدة.. وكلما ضعف رابط العقيدة، وتخلخل صفاء التوحيد، برزت العصبية من جديد.. إن الإسلام ينادي: "دعوها؛ فإنها منتنة"، فما بالنا نشم في الأجواء رائحة هذا النتن من جديد. عصبية طائفية.. وعصبية حزبية.. وعصبية مناطقية.. وعصبية سلالية.. وعصبية فكرية تريد أن تقود البلاد إلى هوج وأمر مريج ..

أيها الإخوة: تعالوا بنا إلى فصل من فصول التاريخ، ومشهد من مشاهده.. إلى الجزيرة العربية، إلى مكة المكرمة، إلى قبائل العرب التي أكرمها الله بالإسلام، لنقف على مظهر عاشته من مظاهرها، وخُلق سرى في عروقها، وسلوك طالما ظهر جليًّا في معاملتها. لنرى الحمية الجاهلية على حقيقتها، والعصبية المنتنة تفوح في شوارعها. يوم كان الفرد مشلول الإرادة، مسلوب القوة أمام عبوديته لطغيان يتعصب له أو لقرابة يتنمي إليها، فيلغي عقله ويسير حسب هوى قبيلته، وجبروتها...ولسان حاله:

وما أنا إلا من غزية إن غوت *** غويت وإن ترشد غزية أرشد

فإلى مشهد ينقل الصورة ويوضحها جلية ظاهرة: ذكر الزهري: أن أبا جهل وجماعةً معه وفيهم الأخنس بن شريق، وأبو سفيان، استمعوا قراءة رسول الله عليه الصلاة والسلام في الليل، فقال الأخنس لأبي جهل: يا أبا الحكم، ما رأيك فيما سمعت من محمد؟ فقال: تنتازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تحاذينا على الركب وكنا كفرسي رهان قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء فمتى ندرك هذا؟ والله لا نؤمن به أبداً ولا نصدقه.

يستمع هؤلاء النفر إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام خلال ثلاث ليال - والرسول لا يعلم بهم - ثم يلتقون ويتعاهدون على عدم العودة والاستماع، فالقرآن يستهوي نفوسهم لكن العصبية حملت هؤلاء وأبا جهل خاصة على هذا الموقف المعاند الظالم.

وأسلم الحمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه في السنة السادسة للبعثة بسبب نصرة ابن أخيه أولاً، ولأن أبا جهل اعتدى عليه.

إن قوة تأثير القرابة، وعصبية الدم كانت سبباً في إسلام حمزة رضي الله عنه... وإن حماية أبي طالب لرسول الله، ودعوتَه بني هاشم وبني المطلب لنصرته عليه الصلاة والسلام ليس حبًّا في الإسلام وإنما حمية جاهلية وعصبية قومية حملتهم على ذلك.

كان من العار عندهم ألا ينصر القريب قريبه، ولو خالفه في المعتقد، ومن هنا وقف أبو طالب من ابن أخيه عليه أفضل الصلاة والسلام هذا الموقف المشرف، فقد كان "لزاماً على العربي أن يقوم بنصرة الأخ وابن العم أخطأوا أم أصابوا، عدلوا أم ظلموا..".

أحبتي الكرام: هذه صورة قوة العصبية في المجتمع الجاهلي فلماء جاء الإسلام غير هذه الروح، فبدأ بغرس رابطة الدين، ووشيجة العقيدة، وهى أساس كل تغيير.

"إن الوشيجة التي يتجمع عليها الناس في هذا الدين، ليست وشيجة الدم والنسب، وليست وشيجة الأرض والوطن، وليست وشيجة القوم والعشيرة، وليست وشيجة اللون واللغة ولا الجنس والعنصر، ولا الحرفة والطبقة، ولا الحزب والجماعة إنها وشيجة العقيدة". "أما الوشائج الأخرى" فقد توجد ثم تنقطع.

يبين الله لنوح عليه السلام لماذا لا يكون ابنه من أهله (إنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ) [هود: 46] فرابطة الإيمان قد انقطعت بينكما (فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) [هود: 46] إنه ليس من أهلك ولو كان هو ابنك من صلبك".

"وامرأة فرعون التي طلبت من ربها أن ينجيها من فرعون وعمله وأن ينجيها من القوم الظالمين إنها امرأة واحدة في مملكة عريضة قوية وقفت وحدها في وسط ضغط المجتمع وضغط القصر وضغط الملك وضغط الحاشية ورفعت رأسها للسماء! إنه التجرد الكامل من كل هذه المؤثرات والأواصر".

وفي الحديث الشريف: "من قاتل تحت راية عُمِّيَّة يغضب لعصَبة أو يدعو إلى عصبة أو ينصر عصبة فقُتل فقِتْلةٌ جاهليةٌ"، والعمية هي الأمر الأعمى لا يستبين وجهه.

لاحظوا أيها الإخوة: يستحيل في نظر القرآن أن يوجد إنسان طهره الإسلام من هذه العفونة، وصنع قلبه صناعة إيمانية رائدة أن يعود لعصبية أو حمية جاهلية أو يعلن ولاءه لغير الله ورسوله دينا ومنهجا فأعلن القرآن نفي وجود إنسان مثل هذا (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ ورَسُولَهُ ولَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ) [المجادلة: 22].

لقد جمعت هذه العقيدة صهيباً الرومي وبلالاً الحبشي وسلمان الفارسي وأبا بكر العربي القرشي تحت راية واحدة، راية الإسلام، وتوارت العصبية، عصبية القبيلة والجنس والقوم والأرض وها هو مربي هذه الأمة وقائدها عليه الصلاة والسلام يعلّم ويربّي إذ يقول لخير القرون كلها مهاجرين وأنصار: "دعوها فإنها منتنة"... وما هي؟ صيحة نادى بها أنصاري: يا للأنصار، وردَّ مهاجري: ياللمهاجرين فسمع ذلك رسول الله وقال: "ما بالُ دعوى جاهلية؟" قالوا: يا رسول الله كسَعَ رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار، فقال: "دعوها فإنها منتنة"..

حقاً إنها منتنة... لقد زكمت الأنوفَ براحة عفونتها، حتى آل الناس إلى فئات تتعصب لبعضها ولو على باطل، فأعمتها هذه النظارة أن تبصر الحق، أو أن تنادي به، تعصبًا وكبرًا، ومكابرة.

ليس من الإسلام في شيء هكذا أعلنها صلى الله عليه وسلم مدوية في حقب التاريخ "ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل على عصبية، وليس منا من مات على عصبية".

فانتهى أمر هذا النتن، وماتت نعرة الجنس واختفت لوثة القوم... ومنذ ذلك اليوم لم يعد وطن المسلم هو الأرض، وإنما وطنه هو دار الإسلام تلك الدار التي تسيطر عليها عقيدته وتحكم فيها شريعة الله وحدها.

إن هذه الروح الإيمانية، وهذا الانضواء تحت راية لا إله إلا الله محمد رسول الله، خلَّص المجتمع من عصبيات قاتلة، بمجرد أن عاشوا حقيقة هذه الشهادة.

وإن الأخوة التي قامت بين المهاجرين والأنصار كانت دليلاً حاسماً على قيام دولة العقيدة ونشوءِ مجتمع قضى على رواسب العصبية الجاهلية.

يعلنها عليه الصلاة والسلام صريحة واضحة "إن الله قد أذهب عنكم عُبية الجاهلية – أي كبرها ونخوتها – إنما هو مؤمن تقي، وفاجر شقي، الناس كلهم بنو آدم، وآدم خُلق من تراب"، رباط الإسلام ونقاء عقيدته يذيب العصبية، ويستعلي على المصلحة الشخصية والقبلية والحزبية، ويكون المسلم ضد هواه، صلته بربه قوية، علاقته مع إخوانه المؤمنين وطيدة... وكلما ضعف رابط العقيدة، وتخلخل صفاء التوحيد، برزت العصبية من جديد...

وتمضي بنا السنون من لدن رسول الله عليه الصلاة والسلام. وتبقى في نفوس البعض بقية باقية ومرض خفي، وتسلل إلى النفوس شيء من عصبية الجاهلية التي ينادي البعض اليوم بها ويسعى إلى إذكائها بين أبناء البلد.

"جاء رجل إلى اليمامة وقال: أين مسيلمة؟ دلُّوه عليه، فقال له: من يأتيك؟ قال: رجس. قال: أفي نور أم في ظلمة؟ فقال: في ظلمة، فقال: أشهد أنك كذاب، وأن محمداً صادق، ولكن كذاب ربيعة أحب إلينا من صادق مضر، واتبعه هذا الأعرابي الجلف - لعنه الله - حتى قتل معه يوم عقرب، فمات ميتتة جاهلية". فما بال البعض يسعى اليوم لإعادة بذور العصبية ونشرها بين الناس ومحاولة إذكاء شرارتها.

أيها الإخوة: لقد نفّر الدين الحنيف من إعانة العشيرة على الباطل، وصور ذلك الفعل القبيح تصويراً مؤثراً، نقله عبدالله بن مسعود عن رسول الله عليه الصلاة والسلام : "مثل الذي يعين عشيرته على غير الحق مثل البعير تردى في بئر فهو يُنْزَع بذنبه" رواه أحمد وإسناده صحيح.

الإسلام ينادي: "دعوها؛ فإنها منتنة"، فما بالنا نشم في الأجواء رائحة هذا النتن من جديد. عصبية طائفية.. وعصبية حزبية.. وعصبية مناطقية.. وعصبية سلالية.. وعصبية فكرية تريد أن تقود البلاد إلى هوج وأمر مريج.

إن الحزبية في كل بلاد العالم الناضج يسبقها وعي.. ولكنه سبقها جهل عندنا فلم نحسن تعاطيها.. ولم نجيد الاستفادة منها في البناء والتنمية ليقدم كل واحد منا مشروعه لبناء الأمة… لكنه إذا سبقها جهل بهدفها لم نفد منها إلا التناحر والتعصب والتماحك. والضغينة ونشر الأحقاد بين بعضنا البعض.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ) [التوبة: 119].

الخطبة الثانية:

العصبية ما فاحت في مجتمع إلا مزقته ونشرت العداوة والبغضاء بين أبنائه.

يا شعب الإيمان والحكمة: آن الأوان لننبذ الخلافات.. آن الأوان لأن نمزق التمزق.. وأن نشرذم التشرذم … ونطرد وسواس العصبية من قلوبنا، ونتجه بقلب واحد نحو ما يحقق لنا الأمن والطمأنينة والرقي والتقدم والبناء..

آن الأوان أن يحب كل واحد منا لأخيه ما يحبه لنفسه..

آن الأوان لتعم المحبة.. وتنتشر معاني الإخاء والإيثار.. وتحل بدلاً عن الأنانية.. والعصبية.. والاستئثار.. والطمع

ولن يتحقق ذلك إلا في ظل قول المولى جل جلاله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [آل عمران: 102]، (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) [آل عمران: 103].


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي